بين فيليب حبيب وتوم براك… لبنان الذي يفقد "بريقه"

الأميركيون غير مستعدين لإدارة الحوار أو الاقتتال بين اللبنانيين

أ.ف.ب
أ.ف.ب
رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، يلتقي المبعوث الأميركي، توم باراك، في بيروت، 7 يوليو

بين فيليب حبيب وتوم براك… لبنان الذي يفقد "بريقه"

الخلاصة الرئيسة من الزيارة الثانية للمبعوث الأميركي توم براك إلى بيروت خلال أسبوعين أن لبنان ليس أولوية في جدول الأعمال الأميركي للشرق الأوسط.

وهذا ربما ما لم يفهمه لبنان الرسمي والشعبي الذي يغرق كما العادة في تقدير حجمه ودوره أكثر من اللازم، أو أنه لا يريد الإقرار بالواقع الجديد الذي يفيد بأن لبنان لم يعد مهماً لذاته لأي دولة في العالم إلا بما يتصل بمصالحها الإقليمية ككل.

وذلك عائد بالدرجة الأولى إلى أن العوامل الحاسمة في السياسة اللبنانية وفي سلوك أطرافها وتموضعهم هي عوامل داخلية متصلة أساسا بقدرة الأطراف على تحسين صورتهم وموقعهم في خريطة السلطة والنفوذ، وبالتالي لا يهم هؤلاء بناء مواقفهم على حقيقة موقع لبنان ودوره في المتغيرات الحاصلة ومدى الاهتمام الخارجي به، بمقدار ما يهمهم أن لا تكون ضغوط الخارج وأولوياته مؤثرة في صورتهم وتموضعهم وليس في موقع لبنان مما يجري حوله.

أي إنه لا يمكن الحديث عن سياسة خارجية موثوقة في لبنان طالما أن الطاقم السياسي منشغل بنفسه أولا ولا يمتلك أي مقومات لبناء خطاب للخارج يرتب الأولويات اللبنانية بناء على المتغيرات الحاصلة في المنطقة.

هذا ربما ما فهمه الأميركيون بعدما شاهدوا فرنسا تغرق في الوحول اللبنانية وتضيع في زواريب السياسة اللبنانية التي تتحول في ختام جولات المبعوثين والموفدين إلى حملة علاقات عامة لا تخلو من "المازات" الشهية و"سحر الشرق"، ولكن تخلو بالطبع من كلام سياسي بالعمق ينم عن قراءة واقعية وشاملة لما يجري في المنطقة ولما يمكن أن يكون عليه مستقبل لبنان إزاء كل ما يحصل.

وإذا كان السياسيون اللبنانيون غير أهل لهذه المهمة الصعبة والتي تحتاج إلى تقاليد سياسية عريقة بدأ لبنان يفقدها منذ زمن ليس بقريب، فإن الإدارة الأميركية، حتى في زمن دونالد ترمب، المتهم بالارتجالية، مستعدة للمراجعة وتصحيح الموقف، فهي بعد أن وجدت أن مبعوثتها السابقة أورتاغوس بالغت في جديتها إزاء مهمتها وكأن لبنان مركز السياسة الأميركية في المنطقة، عادت وكلفت السفير لدى تركيا والمبعوث إلى سوريا بمهمة متابعة الملف اللبناني الذي لا يحتاج إلى تكليف مبعوث خاص به، بل إن الإدارة رأت أنه من الأجدى أن يكلف المبعوث إلى سوريا بالملف اللبناني طالما أن الملف اللبناني أصبح ملحقا بالملف السوري وما عاد يستحق تخصيص جهد فوق الحد له على حساب أي ملف آخر في المنطقة وبالأخص الملف السوري.

كان تحالف الأسد مع النظام الإسلامي الجديد في طهران يتعمق أكثر فأكثر خصوصا أن إيران كانت تخوض الحرب في مواجهة عراق صدام حسين الخصم اللدود للأسد

ليس لبنان 2025 هو لبنان 1982 عندما كان يجلس على كرسي الحكم في دمشق رجل اسمه حافظ الأسد استفاد من توازنات الحرب الباردة ليحكم سوريا بالحديد والنار وليتحول إلى لاعب سياسي رئيس في المنطقة يحسب الأميركيون كلفة إسقاطه ويستفيد السوفيات من آخر لحظة لبقائه في الحكم.

وقد يكون المشترك الوحيد بين المرحلتين أن المبعوث الأميركي إلى لبنان من أصول لبنانية، فيليب حبيب عام 1982 وتوم براك عام 2025. ما عدا ذلك فالفوارق بين الحقبتين كبيرة إلى حدود القطيعة الكاملة بينهما بمرور الزمن وتغير الأشخاص والسياسيات.

ما أراده الأميركيون عام 1982 أن لا يعرقل الأسد صفقة إخراج "منظمة التحرير" من لبنان والتي أراد هو أيضا تصفيتها في لبنان "الخاصرة الرخوة" شريطة أن لا تكون وجهتها سوريا بل أي دولة عربية بعيدة مستعدة لتحمل "العبء"، ولذلك سرعان ما لبى الأسد الشروط الأميركية، قبل أن ينقلب على الأميركيين بقرار أو دفع إيراني في بيروت وربما بغطاء سوفياتي، من خلال تفجير مقر المارينز والقوات الفرنسية عام 1983.

أ.ف.ب
الرئيس السوري أحمد الشرع، ووزير الخارجية أسعد الشيباني، والمبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توم باراك، خلال حفل توقيع اتفاقية بين سوريا وائتلاف طاقة قطري أميركي تركي، في دمشق، 29 مايو

كان تحالف الأسد مع النظام الإسلامي الجديد في طهران يتعمق أكثر فأكثر خصوصا أن إيران كانت تخوض الحرب في مواجهة عراق صدام حسين الخصم اللدود للأسد رغم أنهما يتشاركان عقيدة "البعث".

الآن نحن إزاء سوريا جديدة بعد مكوثها لأكثر من أربعة عقود في المحور الإيراني. بالتالي فإذا كان لبنان قد باشر الدخول تدريجيا في المحور السوري الإيراني منذ لحظة خروج ياسر عرفات ومقاتليه من بيروت في 1982 ومن ثم من طرابلس للمرة الأخيرة في 1983، فإن السؤال الآن كيف سيتموضع لبنان من جديد في لحظة خروج سوريا من المحور الإيراني مع سقوط نظام الأسد الابن نهاية عام 2024؟

بغض النظر عن الحشو في تصريحات المبعوث الأميركي فإن المعنى واضح وهو أن واشنطن غير مهتمة بلبنان من خارج أجندتها في سوريا

الواضح من مجمل المواقف الأميركية ابتداء بمواقف دونالد ترمب وليس انتهاء بمواقف مبعوثه توم براك، أن الأولوية الأميركية هي لسوريا التي أعرب ترمب عن إعجابه برئيسها أحمد الشرع وقرر إعطاءها فرصة لبناء نفسها بعد رفعه العقوبات عنها. وذلك من ضمن الهندسة الأميركية الجديدة للمنطقة والتي وصلت الآن إلى نقطة التوصل إلى وقف لإطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل. وهو الموضوع الرئيس على طاولة ترمب وبنيامين نتنياهو في البيت الأبيض. في وقت أفادت فيه تسريبات إسرائيلية بأن الرئيس الأميركي يطرح على تل أبيب مقايضة بين القبول بإنهاء الحرب في غزة مقابل الدفع الأميركي لإبرام اتفاق بين سوريا وإسرائيل. لكن بغض النظر عن آفاق هذا الاتفاق وحدوده، فإن الموقف الأميركي يؤشر إلى ترابط الملفات الإقليمية على الطاولة الأميركية.

وبالعودة إلى لبنان، فإن ساعات حبس الأنفاس التي عاشها اللبنانيون عشية وصول براك إلى بيروت الاثنين لتسلم الرد اللبناني على ورقة أميركية بخصوص سلاح "حزب الله" وترسيم الحدود مع سوريا والإصلاحات الاقتصادية، سرعان ما تبددت بعد تصريحه من قصر بعبدا بأن سلاح "حزب الله" شأن داخلي لبناني تماما، وأن على لبنان اغتنام الفرصة التي تلوح في الأفق في المنطقة وإلا فسيكون من "المتخلفين". ولم يستثن "حزب الله" من هذه الدعوة الملحة وربما الأخيرة، معتبرا أن "الحزب" يحتاج لأن يرى مستقبلا له.

أ.ف.ب
شخص يحمل لافتة كُتب عليها "لن نترك السلاح" خلال إحياء حزب الله مراسم عاشوراء، في الضاحية الجنوبية لبيروت، في 6 يوليو

لكن بغض النظر عن الحشو في تصريحات المبعوث الأميركي فإن المعنى واضح وهو أن واشنطن غير مهتمة بلبنان من خارج أجندتها في سوريا، وإذا كان هدفها في عام 1982 أن لا تخرّب سوريا الأسد أجندتها في لبنان بعد خروج ياسر عرفات من بيروت فإن هدفها الآن أن لا "يزعج" لبنان، أي "حزب الله"، أجندتها في سوريا الشرع، بغض النظر عن آفاق نجاحها هناك من عدمه. وهذا بعد أن تضاءل وربما انعدم خطر "الحزب" على إسرائيل، وأصبح لبنان يطالب واشنطن بضمانة لوقف إسرائيل اغتيالاتها لكوادر "حزب الله" وقصفها مواقع تقول إنه يستخدمها لإعادة بناء قدراته المتهالكة.

ولا يفيد هنا تحليل كيف ينطر "الحزب" إلى نفسه بعد المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية، ما دامت إيران تطالب بضمانة أميركية لعدم قصفها مرة ثانية كشرط للشروع في المفاوضات، ويبدو أن طهران قد حصلت عليها طالما أن ترمب قال الثلاثاء إنه قد تم تحديد موعد لاستئناف المفاوضات مع إيران، لكن يبدو أن لبنان لم يحصل بعد على مثل هذه الضمانة رغم كل الإطراء الذي كاله المبعوث الأميركي لـ"الترويكا" اللبنانية وبالأخص لرئيس البرلمان نبيه بري والذي تحدث إلى براك بالنيابة عن "حزب الله" أيضا.

مبالغة أطراف مهزومة بتقدير حجم قوتها وقدرتها على مواجهة المتغيرات الحاصلة أكثر من الحد المقبول

لكن تجاوزا لآفاق علاقة "الصداقة" بين بري وبراك، فإن تأكيد براك وللمرة الأولى أن واشنطن غير ضامنة لوقف إطلاق النار في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، يعني أن الوضع الحالي سيستمر مع مواصلة إسرائيل استهدافاتها في لبنان، إلى أن يرى "حزب الله" مستقبلا له كما قال براك وإلى أن يتم التوصل إلى ترتيبات جديدة، كما قال رئيس الحكومة نواف سلام الذي دخل في سجال جانبي مع رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع، وبالنيابة عن الرئيسين بري وعون واللذين لا يبدو أن علاقته بهما تسير على ما يرام.

لكن بعيدا عن هذه التفاصيل اللبنانية المعتادة، فإن التسريبات عن قبول "حزب الله" تسليم الأسلحة المطلوبة ولاسيما الصواريخ الدقيقة، تطرح سؤالا عن مضامين جلسة بري-براك، فهل فتح بري، "السياسي العريق" كما وصفه براك، بالوكالة عن "الحزب" خطا مباشرا مع الأميركيين تجاوزا لرئيس الجمهورية الذي يقدم نفسه كعراب لحصر السلاح بيد الدولة؟ وإذا كان الأمر كذلك فما مصير الصواريخ الإيرانية الدقيقة التي بحوزة "الحزب"؟ وهل تقبل إيران بتسليمها، ولمن؟

أ.ف.ب
لقاء الرئيس اللبناني جوزيف عون وتوم باراك في القصر الرئاسي في بعبدا، لبنان في 7 يوليو

هذه أسئلة مفتوحة بطبيعة الحال، لكن الأكيد أن الأميركيين غير مستعدين لإدارة الحوار أو الاقتتال بين اللبنانيين، إنما ما يهمهم أن لا يكون لبنان مصدر إزعاج لـ"جيرانه" سوريا وإسرائيل، أما إذا التحق بالركب فأهلا وسهلا به.

وهذه وصفة لانتكاسة سياسية قد تتجاوز لبنان ذاته، إذ يبدو أن قدرة الأطراف المعنية على مواكبة المتغيرات في المنطقة وتحسين شروط التفاوض أضعف من اللازم، وفي المقابل فإن مبالغة أطراف مهزومة بتقدير حجم قوتها وقدرتها على مواجهة المتغيرات الحاصلة، أكثر من الحد المقبول. لكنها في النهاية لحظة التسويات فوق الطاولة وتحتها، ومن يدري فربما يحظى ترمب الذي يستعد لتسلم جائزة نوبل للسلام بعد ترشيحه من قبل باكستان وإسرائيل، ربما يحظى بترشيح ثالت من لبنان أو سوريا أو حتى إيران!

font change