ترشيد الاتجاهات التنموية في سوريا... أولوية الكهرباء والإعمار

الاستثمارات الخليجية تفتح أبواب الأمل... والاعمار وتكامل القطاعات أولوية

المجلة
المجلة

ترشيد الاتجاهات التنموية في سوريا... أولوية الكهرباء والإعمار

تشهد الجمهورية العربية السورية انطلاق حركة استثمارية تقودها المملكة العربية السعودية ودولة قطر ودولة الإمارات العربية المتحدة. وتشمل هذه الاستثمارات بمليارات الدولارات الأميركية مجالات حيوية في البنية التحتية للاقتصاد الوطني، وعلى رأسها قطاع الكهرباء الذي يُعَد المحرك الأساسي لأي نهضة اقتصادية واجتماعية، إضافة إلى تطوير المطارات بوصفها واجهة حضارية لأي دولة، لا من جهة الشكل والبناء فحسب، بل كذلك على صعيد قدرتها على تعزيز حركة المسافرين القادمين والمغادرين، وتنشيط السياحة، فضلا عن تسريع نقل السلع المصنعة ونصف المصنعة التي تحتاج إليها الصناعات الحديثة.

لطالما كانت أزمة الكهرباء من أبرز العقبات أمام التطور الاقتصادي والاجتماعي في سوريا، إذ أُغرِقت المدن في الظلام، وغابت الإنارة عن الشوارع والمنازل، وتوقفت المعامل والمصانع، ولاسيما تلك التابعة للقطاع الخاص. وقد لجأ المواطنون إلى استيراد المولدات وما يتطلبه تشغيلها من مادتي الديزل والفيول أويل، مع ما ينتج عن ذلك من تلوث بيئي. كذلك انتشرت الألواح الشمسية في المدن والقرى لتأمين الكهرباء للمنازل ومزارع الدواجن والصناعة والزراعة وغيرها.

قطاع الكهرباء المحرك الأساسي لأي نهضة اقتصادية واجتماعية، إضافة إلى تطوير النقل والمطارات بوصفها واجهة حضارية لأي دولة

وقد رُصِدت مبالغ ضخمة لهذا القطاع، إذ جرى استثمار أكثر من ستة مليارات دولار على مراحل لزيادة إنتاج الكهرباء بنحو 2.200 ميغاواط، مع العمل على الربط الكهربائي مع المملكة الأردنية الهاشمية، واستقدام الغاز القطري، ثم الغاز من أذربيجان عبر خطوط الأنابيب المارة من تركيا، وصولا إلى المعامل في حلب وبقية المدن. ومن شأن ذلك أن يضيف نحو 1.200 ميغاواط، ما يرفع ساعات التغذية بالتيار الكهربائي خلال الفترة المقبلة إلى ما بين ثماني و10 ساعات يوميا، في انتظار إنشاء المحطات المتفق عليها خلال الأشهر المقبلة لبلوغ تغذية مستمرة 24/24 ساعة، وإن كان ذلك رهنا بعوامل مالية وخلافية وتكاليف مرتفعة.

الكهرباء حاجة استراتيجية للاقتصاد

بناء عليه، يفترض أن يقوم التوجه الاستراتيجي على تحسين إنتاج الكهرباء من المحطات القائمة داخل سوريا، ومن حقول الغاز الوطنية في حقول كونوكو ورميلان وقارة في القلمون، إضافة إلى حقول الغاز المحتملة في القلمون والساحل السوري. فذلك وحده يضمن مصادر وطنية دائمة وأقل تكلفة، بما ينعكس إيجابا على استهلاك الكهرباء في الإنارة والصناعة، ويؤسس لاستدامة هذا المورد الحيوي الذي حُرمت منه البلاد لعقود طويلة من الزمن. منذ عام 1976 بدأ التقنين الكهربائي في المدن، فيما كانت الأرياف شبه محرومة من الخدمة، ما انعكس سلبا على الصناعة التي تعتمد على الكهرباء، وعلى الزراعة التي تراجعت بشكل كبير منذ عام 2005 بسبب ارتفاع أسعار الكهرباء وانقطاعها المتكرر.

رويترز
حفل توقيع مذكرة تفاهم بين وزارة الطاقة وشركة يو سي سي القابضة القطرية، بهدف تعزيز الاستثمار في قطاع الطاقة بحضور الرئيس السوري أحمد الشرع، في دمشق، سوريا، 29 مايو 2025

والزراعة بدورها تعتمد اعتمادا أساسيا على الكهرباء لتشغيل المضخات والمولدات التي تساعد الفلاح على استجرار المياه من الأنهار أو الآبار أو العيون. وقد أدى نقص الكهرباء إلى تراجع الإنتاج الزراعي وانخفاض أعداد الأغنام والماعز والأبقار نتيجة نقص المياه والأعلاف، ما انعكس ارتفاعا في أسعار اللحوم والقمح والشعير والأعلاف وسائر المنتجات الزراعية والحيوانية. من هنا، يتضح أن الكهرباء هي محرك أساسي لا غنى عنه لأي نهضة اقتصادية واجتماعية. والبداية الجديدة تتجلى في توجه الدولة إلى الاستثمار في هذا القطاع الحيوي بما يدعم النهضة الزراعية، والصناعية والعمرانية والخدماتية.

حاجة سوريا من الكهرباء تقدَّر بما بين 7.000 و10.000 ميغاواط لتأمين متطلبات التنمية، وهذه الأرقام تستلزم جهودا مالية وإنمائية ضخمة

حماية منشآت الدولة وصيانتها

غير أن ما تحقق حتى الآن لا يزال بعيدا عن مستوى الطموح، فحاجة سوريا الفعلية تقدَّر بما بين 7.000 و10.000 ميغاواط لتأمين متطلبات التنمية. وهذه الأرقام تستلزم جهودا مالية وإنمائية ضخمة، ومردودا بعيد الأجل، وخصوصا أن نتائج الكهرباء لا تظهر فورا لكنها ترتبط عضويا ببقية القطاعات، وهو ما يضاعف أهميتها ويجعل أثرها ملموسا في الاقتصاد الوطني. ذلك أن التركيز على تنمية قطاع الكهرباء يعني بالضرورة تنمية قطاع إنتاج الغاز والنفط والمصافي والمعامل، وتعزيز الصناعات المرتبطة بالمولدات والمحطات الأرضية والكوابل والأعمدة وشبكات النقل التي يجب أن تغطي مختلف المناطق السورية، وخصوصا مناطق الزراعة والصناعة.

وإذا كان قطاع الكهرباء بهذه الأهمية، فإنه يحتاج إلى حماية جدية، سواء لجهة صيانته من اعتداءات اللصوص الذين اعتادوا سرقة الأسلاك، أو تفكيك الأعمدة، أو العبث بمحتويات المحطات، أو لجهة تأمين سلامة المحطات وخطوط الغاز والشبكات. وعندما يتحقق لسوريا هذا المخطط بزيادة إنتاج الميغاواط وضمان استمرارية تدفق الكهرباء لخدمة الصناعة والزراعة وإنارة المنازل والشوارع، سيعني ذلك أيضا دعما لخدمات الإنترنت ووسائل التواصل والإعلام. وليس مبالغة القول إن الكهرباء هي الوسيط الأقوى لبث الحياة وإدامتها، فهي تنير العقول والقلوب، وتفتح الطريق أمام التطور والتقدم في جميع المجالات.

مترو دمشق نقلة نوعية للنقل

ومن مشاريع البنى التحتية الكبرى التي يُعوَّل عليها، مشروع مترو دمشق، الذي يمتد من المعضمية بريف دمشق إلى القابون على مسافة تقارب 16كيلومترا. ويُعد هذا المشروع نقلة نوعية في النقل داخل العاصمة، إذ يخدم سكان القابون وبرزة والمواقف الشمالية، وصولا إلى مواقف السفر في منطقة السومرية. وسيُشكّل المترو وسيلة نقل سريعة ومريحة، قادرة على حلّ كثير من عقد السير في دمشق، والتخفيف من الازدحام الخانق الذي تسببه كثرة السيارات الخاصة. كذلك سيوفّر الوقت والمسافة كونه يسير تحت الأرض، من دون أي تداخل مع حركة السير فوق الشوارع. ومن أبرز النقاط التي يعالجها المشروع، عقدة القابون والكراجات، كما يساهم في تخفيف ضغط السيارات باتجاه ساحة العباسيين ومنطقة الغساني وبرج الروس ودمشق القديمة وباب شرقي، ويمتد ليعالج الازدحام المروري المستحكم عند جسر الثورة، وفوقه وتحته، وصولا إلى جسر فكتوريا وشارع شكري القوتلي وساحة الأمويين حيث تتقاطع طرق رئيسة تتفرع نحو أبو رمانة والمالكي وأوتوستراد المزة والربوة. وبهذا يغدو المترو بديلا عمليا عن السيارات الخاصة.

ويُقترح أن تمتد خطوط المترو إلى مناطق أخرى لتوسيع نطاق الاستفادة، عبر إنشاء خط يبدأ من منطقة القدم مرورا بالميدان وباب مصلى والمجتهد وصولا إلى سوق الحميدية، ثم باتجاه مشفى ابن النفيس والعدوي وأوتوستراد ابن النفيس، فحاميش ومساكن برزة، وينتهي في مدينة التل. هذا الامتداد يضمن حركة مرورية مريحة حتى عام 2050، ويخدم عموم سكان دمشق من جنوبها إلى شمالها، بالتوازي مع خط آخر من غرب العاصمة إلى شرقها وشمالها. ويُرجّح تنفيذ هذه المشاريع من خلال شركة أو شركتين بموجب عقود مقاولة واستثمار لعدة سنوات، وهي مشاريع مربحة تسترد تكاليفها خلال فترة قصيرة، ولاسيما إذا أُرفِقت ببناء محطات تحت الأرض تتضمن محلات يمكن تأجيرها واستثمارها.

رويترز
أكبر محطة كهرباء في سوريا في دير علي، جنوب دمشق، سوريا، 20 مايو2025.

وتقوم جدوى هذه المشاريع على دراسة اقتصادية متكاملة تشمل التكلفة والعوائد والتشغيل، فضلا عن تشغيل آلاف العاملين والمهندسين والآليات الثقيلة، بما يعزز الاقتصاد الوطني. ويمكن في مرحلة لاحقة تعميم هذه التجربة في المدن الكبرى الأخرى مثل حلب وحماة وحمص واللاذقية ودير الزور، وربطها بشبكة مترو متطورة تصل المحافظات الجنوبية بالشمالية، والشرقية بالوسطى فالساحلية. وبهذا يقلّ الضغط على الطرق البرية الرئيسة، مثل طريق "إم-5" الواصل بين الجنوب والشمال، وطريق "إم-4" الذي يربط الساحل بحلب والشمال الشرقي.

دور القطاع الخاص للإدارة والتشغيل

وتُعد هذه المشاريع من كبريات مشاريع البنى التحتية في سوريا نظرا إلى ضخامة الاستثمارات المرصودة لها، وتعقيداتها الهندسية، وحاجتها إلى دراسات جدوى دقيقة وتكاليف تشغيل عالية. لكنها، في المقابل، تخلق ما يُعرَف باقتصاديات الحجم أو وفور الحجم (economies of scale) وتدفع عجلة الاقتصاد بقوة، من دون تحميل الدولة أعباء مالية مباشرة، إذ تنفَّذ من خلال عقود استثمارية تؤول بعدها ملكية المشاريع إلى الدولة. ومع الصيانة الدورية للعربات والخطوط، يمكن أن يمتد العمر التشغيلي لهذه الشبكات إلى 50 سنة وأكثر. وتجارب الدول الكبرى تؤكد ذلك، إذ لا تزال قطارات لندن وموسكو ونيويورك تعمل منذ 80 إلى 100 سنة.

يُقدّر أن تبلغ تكلفة مترو دمشق الممتد على 16 كيلومترا نحو ملياري دولار فقط، وهو رقم معقول قياسا بالفوائد الضخمة التي سيحققها

وبحسب الدراسات الأولية، يُقدّر أن تبلغ تكلفة مترو دمشق الممتد على 61 كيلومترا نحو ملياري دولار فقط، وهو رقم معقول قياسا بالفوائد الضخمة التي سيحققها. فسوريا ستنعم بخطوط مترو حديثة تربط أحياء العاصمة وتزيد من سهولة تنقل السكان، وتنعكس إيجابا على قطاعات الخدمات والفنادق والمشاريع الصغيرة في عموم المدن السورية، مع إمكانية الربط لاحقا بالدول المجاورة. وبذلك ينخفض الضغط على السيارات والشاحنات والباصات داخل المدن وعلى الطرق الواصلة بينها، ويُنشَّط قطاع النقل بكامله.

سوريا في حاجة ماسة إلى تطوير مطار دمشق الدولي ليصبح قادرا على استقبال ما بين 30 و50 مليون مسافر سنويا، وذلك عبر تحديث منشآته وزيادة قدرة استيعابه للطائرات السورية والأجنبية

مشاريع النقل البحري والجوي والبري

ولا يتوقف الأمر عند المترو، بل يشمل أيضا تجديد أسطول النقل البحري من الموانئ السورية وإليها، إضافة إلى تحديث شبكة السكك الحديدية لربط الجنوب بالشمال، والموانئ والمدن الساحلية بالشرق والشمال الشرقي بخطوط سريعة وعصرية. ويكتسب هذا أهمية خاصة في نقل المحاصيل الزراعية والمنتجات الصناعية وزيادة القدرة التصديرية بسرعة وتكلفة منخفضتين، وذلك أيضا عبر عقود استثمارية مع شركات متخصصة. هذه الشركات تتكفل بالبناء والتشغيل لسنوات متفق عليها وفق دراسات معمّقة، وتحقق أرباحها بالتوازي مع عوائد تذهب إلى خزينة الدولة والمصرف المركزي، مع الالتزام بالصيانة الدورية. وبعد انتهاء فترة العقد، تؤول هذه المشاريع إلى الدولة جاهزة للتشغيل لا منهكة أو متهالكة.

رويترز
الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر حفل توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في دمشق، سوريا، 6 أغسطس 2025

أما في مجال النقل البري بالشاحنات، فستُدَار الخدمات عبر شركات وطنية، أو بالتعاون مع شركات عربية وأجنبية لتشغيل أسطول حديث يغطي كامل الأراضي السورية وصولا إلى الدول المجاورة، وربما إلى أوروبا وأفريقيا وشرق آسيا. وستُجهَّز هذه الأساطيل بشاحنات ذات حمولات مضبوطة وفق المعايير القانونية، بما يضمن عدم تجاوز الأوزان المحددة على الطرقات، حفاظا على البنية التحتية للطريق. ويُفترَض أن تكون الطرق المركزية مأجورة من خلال شركات استثمارية تنشئ محطات لتحصيل الرسوم، على أن تُخصَّص نسبة منها للدولة بصفتها المالك الفعلي لهذه الطرق، حتى لو قامت الشركات بتمويلها. كذلك يمكن اعتماد مبدأ المعاملة بالمثل مع الدول الأخرى في ما يخص الرسوم والتنقل البري.

ويكتسب النقل الجوي أهمية استراتيجية لربط سوريا بالعالم. فالمطارات هي الواجهة الحضارية الأولى لأي بلد، ومن هنا ضرورة تطويرها وتجهيزها وفق أنظمة الاتحاد الدولي للنقل الجوي (إياتا)، لجهة معايير السلامة، وأطوال المدرجات، واستقبال الطائرات عبر بوابات حديثة، وتحديث أنظمة الأحمال والشحن. ويمكن إجراء هذا التطوير عبر عقود استثمارية تُبرَم مع شركات متخصصة تبني المطارات وتديرها وتسترد تكاليفها خلال سنوات متفق عليها، على أن تبقى إدارة المطار الوطنية للدولة. وتقتصر مهام الشركات المستثمرة على الجوانب الفنية والتشغيلية.

سوريا تحتاج كهرباء مستقرة وإعادة إعمار المدن والقرى وإنعاش الزراعة والصناعة واستعادة الدورة الاقتصادية وتكامل القطاعات الرزاعية والصناعية والخدمية، والاسكان لتوثيق العلاقة بين الدولة والناس

وسوريا في حاجة ماسة إلى تطوير مطار دمشق الدولي ليصبح قادرا على استقبال ما بين 30 و50 مليون مسافر سنويا، وذلك عبر تحديث منشآته وزيادة قدرة استيعابه للطائرات السورية والأجنبية، وتفعيل اتفاقيات عبور الطيران من ضمن الممرات الجوية، ما يحقق دخلا ممتازا لسوريا مع ضمان معايير الأمن والسلامة. ولا يقتصر الأمر على دمشق، إذ يجب الالتفات أيضا إلى مطارات حلب واللاذقية والقامشلي ودير الزور وحماة وحمص. أما مطار المزة، الذي أصبح اليوم محاطا بالأبنية السكنية وسط دمشق، فلا يصلح أن يكون مطارا لرجال الأعمال، بل يمكن استثماره في مشروع ذي جدوى أكبر، كإقامة مدينة جامعية متكاملة أو مشروع سكني يخفف الضغط عن العاصمة.

أحياء سكنية نموذجية بدل الأبراج الفاخرة

وفي هذا السياق، برزت وثائق تفاهم مع شركات خليجية من السعودية وقطر والإمارات لبناء مشاريع عمرانية وسياحية كبرى، من بينها برج الجوهرة المؤلف من 33 طابقا في منطقة ساروجة بدمشق، ومشروع أبراج دمشق بتكلفة 2.5 مليار دولار يتضمن أربعة مولات، وأربعة فنادق، إضافة إلى ملاعب ومسابح دولية ونادٍ للخيل والرماية والغولف. ويمتد المشروع على خمس سنوات، ويوفّر نحو 200 ألف فرصة عمل. كذلك تشمل الخطط إقامة أبراج سكنية في محافظات سورية أخرى لتأمين آلاف الشقق.

وكالة الأنباء السعودية
ملتقى الاستثمار السوري السعودي في دمشق الذي عقد في 22 يوليو 2025

لكن السؤال الجوهري يبقى: ما الأولوية في هذه المرحلة؟ هل من الأجدى إقامة برج فاخر بمليارات الدولارات، أم إعادة إعمار الأحياء المدمرة مثل جوبر وداريا والحجر الأسود ومخيم فلسطين والقدم وعين ترما وحي التضامن؟ هذه المناطق وحدها كانت تضم أكثر من مليوني نسمة قبل أن تُدمَّر بيوتهم، فتحوّلوا إلى نازحين أو لاجئين. الأمر ذاته ينطبق على أحياء كاملة في حمص التي تعرضت إلى تدمير شبه شامل. هؤلاء السوريون يتطلعون إلى العودة، لكن أين سيسكنون؟

لا تعني الأبراج والفنادق غالبية السوريين. الأولوية هي إعادة إعمار بيوت العائلات التي تضررت مساكنهم وتأمين الكهرباء والمياه والخدمات الأساسية

يكمن الحل في أن تُوجَّه الشركات الاستثمارية إلى بناء أحياء سكنية نموذجية بدل الأبراج الفاخرة، بتكاليف معقولة وشقق تُبَاع بالتقسيط أو تؤجَّر بأقساط شهرية ميسّرة، لكي يتمكّن الأهالي من امتلاك مساكنهم مجددا. أما من يملك القدرة على الدفع النقدي الفوري فيمكن أن يتملك مباشرة. وينبغي أن يشمل هذا النهج المدن والقرى المدمرة جزئيا أو كليا كلها. ذلك أن من يسلك الطريق من إدلب إلى دمشق يدرك حجم الدمار الهائل الذي طال القرى والمناطق الزراعية والصناعية، والتي يجب أن تكون الأولوية في إعمارها.

حتى اليوم، وبعد مرور ثمانية أشهر على سقوط النظام، لم تُسجَّل خطوات جادة في هذا الاتجاه، بينما تُعقَد الاحتفالات ويُروَّج لتوقيع مذكرات تفاهم بمليارات الدولارات لبناء أبراج وفنادق لا تعني معظم السوريين. فالأغلبية تعيش بالكاد، ولا يهمها السكن في أبراج شاهقة بقدر ما تحتاج إلى بيت آمن وكهرباء ومياه وخدمات أساسية. وفي التحليل النهائي، لا تُقَاس التنمية الحقيقية بعدد الأبراج العالية، بل بقدرتها على إعادة الحياة إلى المدن المدمرة واحتضان السوريين الذين ينتظرون العودة إلى منازلهم.

أ.ف.ب
المصرف المركزي السوري في ساحة السبع بحرات بالعاصمة دمشق في 17 يونيو 2020

أتذكر هنا مقطعا مصوَّرا للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسس دولة الإمارات، حين سأل عن بعض العائلات التي لا تزال بلا مساكن، فأمر على الفور ببناء بيوت لهم، مؤكدا: "لا أريد أن تبقى أية عائلة إماراتية بلا سكن". وهذا ما حدث بالفعل. وبعدما استقر أهل الإمارات في بيوتهم، بدأ التفكير في بناء الأبراج، انسجاما مع التوسع والتنوع الاقتصاديين اللذين تطلبا منشآت كهذه، وكأن الشيخ زايد كان يقول: "الصعود إلى المئذنة يكون درجة درجة، لا قفزا".

وفي السعودية، حيث عملتُ كاقتصادي لنحو 10 سنوات، شاهدتُ كيف وضعت الدولة خططا واضحة لتأمين السكن للمواطنين. كان بنك الإسكان يؤدي دورا أساسيا في ذلك: يمنح المواطن قطعة أرض مخططة تتوافر فيها الطرق والمياه والكهرباء والصرف الصحي، ويعطيه فوقها قرضا بلا فائدة لبناء منزل (فيلا). فإذا التزم المواطن بتسديد الأقساط، أُعفِي من جزء منها. بهذه السياسة انتشرت المساكن وتوسعت المدن الصغيرة، وسكنت آلاف العائلات التي كانت تقيم في بيوت متواضعة من الصفيح. أما الأبراج، فلم تكن مطروحة، على الرغم من الإمكانات المادية والتقنية الضخمة التي تمتلكها المملكة. ولم تظهر بعض الأبراج في الرياض وجدة إلا بعدما جرى إسكان معظم العائلات في مساكن وفيلات منظمة من ضمن مدن جديدة متكاملة الخدمات.

أين الزراعة في الاستثمارات المعلنة؟ لم ألحظ مشروعا زراعيا متكاملا يبدأ من زراعة الأراضي وينتهي بمشاريع صناعية مرتبطة بها، ولا مشاريع متخصصة للإنتاج الحيواني، مرتبطة بمصانع حديثة لإنتاج الألبان والأجبان

التنمية الشاملة من الإسكان إلى الإنتاج

أما نحن في سوريا، فالأولوية يجب أن تكون مختلفة. المطلوب في التخطيط العمراني أن تسكن العائلات المشرَّدة ليس في أبراج شاهقة، بل في مدن ملحقة بالمدن الكبرى تكون ذات طابع ريفي، حيث يمكن للفلاح العمل في الزراعة وتربية المواشي وإقامة المداجن. بذلك يُستعَاد الدور الحيوي لأطراف المدن والريف التي كانت تاريخيا مصدر تموين للمدن الكبرى. يقوم هذا التصور على التكامل بين الزراعة والصناعة التحويلية: زراعة الحبوب والقطن وقصب السكر والخضار التي تغذي معامل التعليب، أو الزيتون الذي يغذي معامل الزيوت والتعبئة والتغليف، كما هي الحال في تونس وإسبانيا واليونان وقبرص وتركيا. في هذه الدول تُرَى عبوات الزيت بأحجام متنوعة ومكتوب عليها التفاصيل كلها من نسبة الحموضة إلى المواصفات الفنية، في حين أن سوريا، التي تنتج أكثر من مليون طن من الحمضيات سنويا، لا تزال تفتقر إلى معامل متطورة للفرز والتوضيب والعصائر.

أ.ف.ب
أنقاض مباني مدمرة في مدينة الرقة الشمالية، في 15 أكتوبر 2022

الأمر ذاته ينطبق على الصناعات الغذائية الأخرى. لسوريا تاريخ طويل في تعليب عصير البندورة والبامية والفاصوليا واللوبيا، لكن الحاجة اليوم أكبر إلى معامل عصرية للتوضيب، وبناء برادات عملاقة لحفظ منتجات التفاح والكرز والحمضيات وغيرها. لدينا مزايا نسبية لا تُحصى، ومعامل الألبان والأجبان يمكن أن تتكامل مع تربية المواشي والمزارع الخضراء. تكامل كهذا يحقق هدفين: تلبية الاستهلاك المحلي، وفتح أسواق للتصدير.

نحن أحوج ما نكون اليوم إلى مشاريع إنتاجية حقيقية في الزراعة والصناعة والخدمات، والتكامل بين المشاريع لإيجاد دفعة قوية تدفع الاقتصاد الوطني إلى الأمام وإسكان العائلات المتضررة في بيوت مناسبة وبتكاليف مقبولة

أين الزراعة في مشاريع الاستثمار؟

وعلى الرغم من الاحتفالات بتوقيع مذكرات التفاهم الاستثمارية كلها، لم أشاهد مشروعا زراعيا متكاملا يبدأ من زراعة الأراضي وينتهي بمشاريع صناعية مرتبطة بها، ولم ألحظ مشاريع متخصصة لتربية الأبقار أو تسمين العجول، مرتبطة بمصانع حديثة لإنتاج الألبان والأجبان، كما هي الحال في شركات الألبان الكبرى في الخليج. في سوريا المقومات كلها موجودة: أرض خصبة، وموارد بشرية مؤهلة من مهندسين زراعيين وأطباء بيطريين وعمالة، وخبراء محاسبة وتسويق ودعاية وتصدير. ما ينقص فقط هو الإرادة الوطنية والرؤية الاستثمارية. ليس المشروع الزراعي الصناعي مجرد قطاع إنتاجي، بل هو قطاع دائم يخلق ترابطا أماميا وخلفيا مع قطاعات الاقتصاد كلها، ويشغّل اليد العاملة، ويعزز الصناعات التحويلية التي عُرِفت بها سوريا لعقود من الزمن.

وكالة الأنباء السعودية
ملتقى الاستثمار السوري السعودي في دمشق الذي عقد في 22 يوليو 2025

وبذلك، يمكن القول إننا لسنا ضد الأبراج أو مظاهر العمران الحديثة، لكننا أحوج ما نكون اليوم إلى مشاريع إنتاجية حقيقية في الزراعة والصناعة والخدمات، وتكامل وترابط بين المشاريع لخلق دفعة قوية تدفع الاقتصاد الوطني إلى الأمام، وإعمار وإسكان العائلات المتضررة في بيوت مناسبة وبتكاليف مقبولة، لأنها الأساس في تحقيق الاستقرار والطمأنينة. فالبيت للمواطن هو وطنه الصغير. ومن يعِش في فندق يبقَ غريبا عنه، لا يشعر بالاستقرار ولا يملك الطمأنينة. تأمين بيوت للعائلات السورية ممكن تماما، في ظل موجة الاستثمارات المقبلة، شرط أن نُعدّ دراسات جدوى واضحة ومفصلة، بحيث يجد المستثمر أمامه فرصا مدروسة، تحقق له الربح وتحقق لنا في الوقت نفسه التنمية والاستقرار، بعيدا عن فوضى المشاريع غير المدروسة.

أما آن للوزارات والمؤسسات أن تضع خريطة إنمائية شاملة لمئات المصانع والمعامل والشركات المتعثرة نتيجة فساد الإدارات السابقة وتآكل خطوط الإنتاج

تحريك عجلة الوزارات وشركات الدولة

والسؤال الصعب: أما آن للوزارات والمؤسسات أن تضع خريطة إنمائية شاملة لمئات المصانع والشركات المتعثرة نتيجة فساد الإدارات السابقة، وتآكل خطوط الإنتاج، والنقص الفادح في الكهرباء والوقود اللازمين لتشغيلها؟ هذه المؤسسات الصناعية قائمة بالفعل، وتعمل في قطاعات مترابطة أماميا وخلفيا مع الزراعة والصناعة والخدمات.

فلنأخذ على سبيل المثال قطاع النسيج والأقمشة والمغازل، وهو قطاع عريق في سوريا، يمتد أفقيا ورأسيا مع قطاعات أخرى. لدينا شركات قائمة منذ عقود من الزمن، لكنها بانتظار من يعيد إليها الحياة بدلا من أن تظل رهينة الدراسات المؤجلة لاحتياجاتها وقدرتها على التشغيل. الأمر نفسه ينطبق على القطاع الكيميائي، والقطاع الهندسي، وصناعة الإسمنت المرتبطة ارتباطا وثيقا بالنهضة العمرانية، إضافة إلى قطاع إنتاج حديد التسليح الذي يُعَد ركيزة أساسية لقطاع البناء. وعلى هذا المنوال يمكن تعداد الكثير من المجالات الصناعية الأخرى التي تحتاج إلى تحديث وتجديد آليات عملها.

المطلوب إعادة تشغيل هذه المصانع والشركات، شرط أن يترافق ذلك مع برامج تدريب متكاملة للإدارات لضمان الكفاءة والاستمرارية، إلى جانب فحص دوري للإمكانات المتاحة للتشغيل. وإذا كانت الدولة في مرحلتها الراهنة عاجزة عن تحمل هذه الأعباء منفردة، فما المانع من طرح هذه القطاعات أمام الجهات الاستثمارية ذات الخبرة، عبر عقود واضحة وشفافة تبرمها الوزارات المعنية، بما يضمن تشغيل الطاقات المعطلة، وتحويل هذه المعامل من عبءٍ على الاقتصاد إلى رافعة حقيقية له.

font change

مقالات ذات صلة