ترمب والسابقة الخطيرة في مفاوضات أوكرانيا

سارة بادوفان
سارة بادوفان

ترمب والسابقة الخطيرة في مفاوضات أوكرانيا

في الجولة الأخيرة من المحادثات بشأن أوكرانيا، بدا أن دونالد ترمب قدّم تنازلا كبيرا. فقد ذكرت صحيفة "الغارديان" أنه، بعد لقائه مع فلاديمير بوتين في ألاسكا في أغسطس/آب، وافق ترمب على دعم خطة تقضي بأن تتنازل أوكرانيا عن إقليم دونباس، بالإضافة إلى شبه جزيرة القرم، لروسيا مقابل إنهاء الحرب. وفي اجتماع لاحق ضمّ ترمب وزعماء أوروبيين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في واشنطن، تراجع الرئيس الأميركي عن هذا الموقف جزئيا، لكن السؤال ما زال قائما: هل سينتهي المطاف بالدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة، إلى الاعتراف بسيطرة روسيا على الأراضي الأوكرانية؟

لماذا يُعدّ هذا مهماً؟ بالنسبة للكثيرين، ومن ضمنهم على ما يبدو دونالد ترمب، فإن الغاية تبرر الوسيلة. فالتضحية بالأراضي الأوكرانية تُعتبر شرا لا بد منه لإنهاء الحرب، وخطوة واقعية ومعقولة. لكن هناك ما هو أعمق من ذلك. فقد سارعت الدول الغربية إلى وصف غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022 بأنه حرب عدوانية وانتهاك للقانون الدولي. ولو أنها قبلت الآن بسيطرة موسكو الدائمة على هذه الأراضي، فإنها بذلك تقوّض القاعدة المناهضة لكسب الأراضي عن طريق الغزو، وهي قاعدة شكّلت ركيزة من ركائز القانون الدولي منذ عام 1945. وقد يتردد صدى هذا التغيير بعيدا عن أوكرانيا، ويزيد من احتمالية اندلاع حروب غزو أخرى في أماكن مختلفة.

ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي

في أعقاب الحرب العالمية الثانية وتأسيس منظمة الأمم المتحدة، وقّعت جميع الدول الأعضاء على مبدأ يُجرّم ضمّ الأراضي المكتسبة بالقوة العسكرية. فالمادة الثانية من الفصل الأول في ميثاق الأمم المتحدة تُحرّم "التهديد أو استخدام القوة ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة". ويشير الميثاق في مواضع أخرى إلى أن الاستثناء الوحيد لهذا المبدأ هو الدفاع عن النفس، وقد استخدم معظم أعضاء الأمم المتحدة هذا التبرير، حتى وإن كان واهيا، لتسويغ حروبهم منذ عام 1945.

كانت الدول الغربية من بين أبرز المعارضين لسياسة الاستيلاء على الأراضي بالقوة، رغم أن هذا الموقف كثيرا ما واجه اتهامات بالنفاق

ورغم اندلاع الكثير من الحروب بعد تأسيس الأمم المتحدة، فإن حالات الغزو الناجح للأراضي أصبحت نادرة مقارنة بما قبل الحرب العالمية الثانية. فقد فشل الكثير من محاولات الغزو، مثل محاولات صدام حسين للاستيلاء على أراض إيرانية أو كويتية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وجهود الأرجنتين الفاشلة لاحتلال جزر فوكلاند، أو الغزو الكارثي الذي شنّته الصومال على إثيوبيا عام 1977. وبحسب البروفيسور يوجين كونتوروفيتش من كلية الحقوق في جامعة نورث وسترن، فإنه وبحسب التعريفات المختلفة، لم تقع سوى ما بين 12 إلى 18 حالة غزو ناجحة بعد عام 1945. علاوة على ذلك، فإن معظم هذه الحالات وقعت قبل عام 1975، أي خلال فترة إنهاء الاستعمار، عندما خاضت الدول الناشئة نزاعات حول الحدود الموروثة من الحقبة الاستعمارية.

أ.ف.ب
الشرطة الإسرائيلية تبعد ناشطا يمينيا في البلدة القديمة بالقدس خلال مسيرة أعلام إحياء لذكرى استيلاء الجيش الإسرائيلي على القطاع الشرقي من المدينة عام 1967

وقد كانت الدول الغربية من بين أبرز المعارضين لسياسة الاستيلاء على الأراضي بالقوة، رغم أن هذا الموقف كثيرا ما واجه اتهامات بالنفاق، بالنظر إلى أن الإمبراطوريات الأوروبية نفسها نشأت عبر الغزو المسلح على مدار قرون. وفي بعض الحالات، مثل حرب جزر فوكلاند عام 1982 أو حرب الخليج عام 1991، شنت هذه الدول حملات عسكرية لردع المعتدين. غير أنها، في أغلب الأحيان، اختارت عدم الاعتراف بعمليات الغزو، حتى عندما قام بها حلفاؤها. على سبيل المثال، لم تعترف الدول الغربية، ومعها كثير من الدول الأخرى، بسيطرة المغرب على الصحراء الغربية عام 1975، أو ضمّ إندونيسيا لتيمور الشرقية في العام ذاته، أو استيلاء إيران على جزر أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى من الإمارات عام 1971، أو استيلاء إسرائيل على القدس وسيناء والجولان في عام 1967. وقد رفضت الولايات المتحدة، بشكل خاص، الاعتراف بأي من عمليات الضم هذه، رغم حفاظها على علاقات وثيقة مع الدول التي نفّذت هذه الخطوات.

كان بيل كلينتون أول من لمح إلى قبوله بضمّ إسرائيل للقدس الشرقية عندما وعد خلال حملته الانتخابية عام 1993 بنقل السفارة الأميركية إليها

ترمب يكرر نفسه

وإذا قرر ترمب في نهاية المطاف القبول بعمليات الضمّ التي نفذتها روسيا، ومارس ضغوطا على الزعماء الأوروبيين وأوكرانيا للاعتراف بها، فإن ذلك سيشكّل تحوّلا كبيرا، خصوصا وأن واشنطن كانت قد أعلنت أن غزوات بوتين، بدءا من ضمّ القرم عام 2014 وصولا إلى ضمّه الأحادي لأربعة أقاليم أوكرانية عام 2022، غير قانونية. غير أن خرق هذه القواعد ليس بالأمر الجديد على دونالد ترمب. ففي ولايته الأولى، خالف ترمب العرف الأميركي القائم على عدم الاعتراف بالأراضي المحتلة ثلاث مرات. ففي عام 2017، أيد ضمّ إسرائيل للقدس الشرقية عبر نقل السفارة الأميركية إليها. وفي عام 2019، اعترف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان التي احتلتها من سوريا. ثم، وعلى ما يبدو مقابل توقيع اتفاقيات أبراهام، اعترف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.

أ.ف.ب
عناصر من القوات الروسية أمام قاعدة لحرس الحدود الأوكراني بالقرب من قرية بيريفالني قرب سمفيروبول في 3 مارس 2014.

من جهة أخرى، لا ينبغي المبالغة في تصوير هذه الخروقات على أنها سابقة فريدة. فقد كان بيل كلينتون أول من لمح إلى قبوله بضمّ إسرائيل للقدس الشرقية عندما وعد خلال حملته الانتخابية عام 1993 بنقل السفارة الأميركية إليها، رغم أنه، وكذلك جميع خلفائه حتى ترمب، أجّل تنفيذ القانون الذي أقرّه الكونغرس بهذا الشأن. وبالمثل، خرج جورج بوش الابن عن الخط الأميركي التقليدي المعارض للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، عندما صرح بأن اتفاق السلام يجب أن يستند إلى "الوقائع على الأرض"، ما اعتُبر ضمنيا دعما لبقاء بعض الأراضي المحتلة تحت السيطرة الإسرائيلية.

لكن أيا من هذه التحركات لم يكن بهذا الوضوح في كسر السوابق كما فعل ترمب في ولايته الأولى. وقد بدأت النتائج تظهر بالفعل، على الأرجح. ورغم أن التيار اليميني في إسرائيل كان في تصاعد، فإنه من المرجح أن خطوة ترمب في شرعنة ضمّ القدس والجولان عززت هذا التيار. ولا بد من فهم جهودهم الأخيرة لإعادة احتلال غزة وضمّ الضفة الغربية في هذا السياق. فإذا كانت الرسالة القادمة من واشنطن هي أنه يمكنك نيل شرعية لضمّ الأراضي بمرور الوقت، فإن القوى الطامحة إلى التوسع ستكون أكثر استعدادا لتحمل المعارضة العالمية على المدى القصير.

في عام 1990-1991، تدخل جورج بوش الأب في أزمة الكويت ليؤكد أن واشنطن لن تسمح بضمّ الأراضي عن طريق الغزو في إطار "النظام العالمي الجديد"

العالم يراقب

وهنا نعود إلى مفاوضات أوكرانيا. وكما هو الحال مع إسرائيل، قد تشعر روسيا بالجرأة إذا ما حصلت في نهاية المطاف على اعتراف دولي بضمّها للأراضي الأوكرانية. ولهذا السبب، أبدى الأوروبيون الشرقيون، مثل وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، وهي إستونية، غضبا شديدا من فكرة التنازل لموسكو عن أراض أوكرانية، وقد وصفتها بأنها "فخ يريد بوتين أن نستدرج إليه". فإذا رأى أن الغزو ناجح في أوكرانيا، فلماذا لا يكرر الأمر في دول البلطيق أو فنلندا؟

أ.ف.ب
جنود أوكرانيون يتوجهون نحو باخموت في منطقة دونباس، في 13 مارس 2023 اثناء الهجوم الروسي على البلدة

لكن تداعيات قبول المجتمع الدولي بمثل هذه النتيجة قد تتجاوز أوروبا بكثير. فهناك قوى أخرى تطمح إلى الغزو وتترقب ما يحدث. والدول التي تحمل أحقادا تاريخية بشأن أراض مجاورة، أو التي تطمع في أراض وثروات جديدة، قد تعيد النظر في التابو القديم ضد كسب الأراضي عبر الغزو. وقد بدأت الصين بالفعل في تصعيد ضغوطها على تايوان، في حين شهدت كشمير جولة جديدة من الاشتباكات بين الهند وباكستان في وقت سابق من هذا العام.

وفي عام 1990-1991، تدخل جورج بوش الأب في أزمة الكويت ليؤكد أن واشنطن لن تسمح بضمّ الأراضي عن طريق الغزو في إطار "النظام العالمي الجديد". أما اليوم، في "النظام الجديد" لترمب، فإن مثل هذه الأفعال تبدو وكأنها أصبحت مباحة. وقادة العالم يراقبون المفاوضات بشأن أوكرانيا... ويسجلون الملاحظات.

font change

مقالات ذات صلة