الرياض تعيد تعريف خريطة المعادن العالمية

"مؤتمر التعدين الدولي" منصة جيوسياسية لتحولات الطاقة والتكنولوجيا والنمو الصناعي

أليكس رانجل
أليكس رانجل

الرياض تعيد تعريف خريطة المعادن العالمية

صارت المعادن الحيوية اليوم العمود الفقري للصناعات الحديثة وانتاج الطاقة. فهي، مثل الليثيوم والكوبالت والنيكل والنحاس وعناصر الأتربة النادرة، في قلب التحولات الصناعية العالمية والتكنولوجية. تُستخدم في تشغيل المركبات الكهربائية، وتخزين الطاقة المتجددة في البطاريات المتقدمة، وتمكين توربينات الرياح والألواح الشمسية، إضافة إلى تقنيات الفضاء والبنية التحتية الرقمية. ومن دونها، يتعذر تحقيق المستقبل منخفض الكربون المنشود.

من هنا تأتي أهمية "مؤتمر التعدين الدولي" الذي تحول في خلال أربع دورات، من مبادرة سعودية طموحة إلى واحد من أبرز المحافل العالمية وأكثرها تأثيرا في قطاع التعدين والمعادن. ويعكس هذا النجاح الدور الريادي لوزارة الصناعة والثروة المعدنية السعودية، التي حولت "رؤية 2030" إلى واقع ملموس بجعل التعدين "الركيزة الثالثة" للنمو الاقتصادي في المملكة.

ومن خلال هذه المبادرة أنشأت الوزارة منصة عالمية لا تعزز الطموحات السعودية فحسب، بل تجمع أيضا الأطراف الدولية المعنية حول الهدف المشترك المتمثل في بناء سلاسل إمداد للمعادن أكثر استدامة ومرونة. وبعد أن كانت المؤتمرات الصناعية في السابق مجزأة ومنتشرة عبر القارات، أصبح لها اليوم محور مركزي في الرياض يشكل منصة موحدة تعيد صياغة سردية المعادن والتعدين والاستثمار في القرن الحادي والعشرين.

الرياض تجمع شركات المعادن وأسواقها

قبل انطلاق المؤتمر، كانت روزنامة التعدين العالمية مقسمة بين المحاور الإقليمية: ففي أميركا الشمالية، هيمن مؤتمر "اتحاد المنقبين والمطورين في كندا" (PDAC) على المشهد؛ وفي أفريقيا، كان مؤتمر "مايننغ إندابا" الأكبر؛ أما في أوستراليا، فتركز "مؤتمر التعدين والموارد الدولي" (إيمارك) على منطقة آسيا والمحيط الهادئ. ومع أهمية كل مؤتمر في منطقته، لم يكن أي منها قادرا على جمع جميع الفاعلين الرئيسيين في صناعة التعدين، من حكومات وصناع سياسات وممولين وقادة الصناعة، تحت سقف واحد على المستوى العالمي.

جمعت الرياض المحافل الإقليمية المتفرقة لقطاع المعادن في محور عالمي يتفاعل فيه المستثمرون من أميركا الشمالية وأوروبا مع صناع السياسات من أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، وتنسق الاستراتيجيات المتعلقة بثروات باطن الأرض

حولت الرياض، من خلال "مؤتمر التعدين الدولي"، المحافل الإقليمية المتفرقة إلى محور عالمي جامع. ففي غضون أربع دورات فحسب، أصبح المؤتمر نقطة التقاء الشرق بالغرب، حيث يتفاعل المستثمرون من أميركا الشمالية وأوروبا مباشرة مع صناع السياسات من أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتنسق الاستراتيجيات المتعلقة بالتحول العالمي في مجال الطاقة ومرونة سلاسل الإمداد.

كانت مؤتمرات التعدين في الماضي مؤثرة في مناطقها فقط ومتفرقة. فقد ركزت أميركا الشمالية على الاستكشاف وأسواق رأس المال، وشددت أفريقيا على التنمية المحلية، في حين مالت أوستراليا كثيرا نحو صادرات الموارد. وهكذا كان كل منها يروي قصة مهمة، لكن لم يكن هناك رابط يجمع في ما بينها.

ديانا استيفانيا روبيو

غيّر "مؤتمر التعدين الدولي" تلك المعادلة، وجعل المملكة العربية السعودية مكان الالتقاء الطبيعي لصناعة المعادن العالمية. فهو يشكل جسرا بين أسواق أفريقيا الغنية بالموارد، والقوى الصناعية في آسيا، والتقنيات المتقدمة في أوروبا، وقوة رأس المال في أميركا الشمالية، ويدعم كل ذلك الشرق الأوسط بوصفه المركز الاستراتيجي للاستثمار والخدمات اللوجستية.

وبذلك لم تكتفِ الرياض بإطلاق مؤتمر آخر للتعدين فحسب، بل أنشأت منصة حقيقية للتوافق، تجتمع فيها المحادثات الإقليمية المتفرقة في حوار عالمي واحد، يحدد فيه صانعو السياسات الاتجاه، ويجد المستثمرون الفرص، ويعرض رواد التكنولوجيا الحلول.

استضافت الدورة الرابعة أكثر من 20 ألف مشارك من 170 دولة ومنظمة تصنع سياسات القطاع، ووقعت العديد من الاتفاقات والشراكات

لقد جمعت الدورة الأولى من "مؤتمر التعدين الدولي" في عام 2022 آلاف المندوبين ومئات العارضين. وبحلول الدورة الثالثة في عام 2024، اجتذب الحدث أكثر من 14,000 مشارك من 145 دولة. وفي الدورة الرابعة، التي عُقدت في يناير/كانون الثاني 2025، قفز العدد إلى أكثر من 20,000 مشارك من أكثر من 170 دولة.

أ.ف.ب.
وزير الطاقة الأمير عبد العزيز بن سلمان، يلقي كلمة في مؤتمر التعدين الدولي، في الرياض 10 يناير 2024

لم يحقق أي مؤتمر آخر في عالم التعدين هذا المسار في مثل هذا الوقت القصير. ومع أن مؤتمر "اتحاد المنقبين والمطورين في كندا" لا يزال الأكبر من حيث عدد الحضور، إذ يجمع أكثر من 27,000 مشارك، فإنه لا مثيل لمعدل نمو "مؤتمر التعدين الدولي" وقدرته على استقطاب صانعي القرار الرفيعي المستوى. والأهم من ذلك أن هذا المؤتمر لا يقاس بالأرقام فحسب، بل بمقدار تأثيره أيضا. فقد أصبح اجتماعه الوزاري السنوي حدثا فريدا، يجمع أكثر من 100 ممثل حكومي و50 منظمة دولية في جلسة واحدة لصنع السياسات وتعزيز التعاون.

في يناير/كانون الثاني 2025، اختتم المؤتمر أعماله بإبرام 126 اتفاقية بلغت قيمتها 28.5 مليار دولار، وشملت الاستكشاف والتعدين والتمويل والبحث والتطوير والابتكار والاستدامة والاستثمارات في سلاسل القيمة. لذلك بات "مؤتمر التعدين الدولي" ينافس المؤتمرات الأكبر بالفعل، وربما يتفوق عليها في الأسس، على الرغم من حداثة عهد انطلاقه. فهو المكان الذي تلتقي فيه السياسات برأس المال، والابتكار بالاستراتيجيا، ويُحدث تأثيرا حقيقيا في مستقبل المعادن.

يبرز "مؤتمر التعدين الدولي" كمنصة جيوسياسية رفيعة المستوى، تحدد خلالها الاستراتيجيات المستقبلية للقطاع، حيث تتفاوض الدول حول سلاسل الإمداد، وتُبرم الشراكات العالمية

في هذا السياق، برز "مؤتمر التعدين الدولي" كمنصة جيوسياسية رفيعة المستوى، تحدد خلاله الاستراتيجيات المستقبلية للقطاع. ففيه تتفاوض الدول حول سلاسل الإمداد، وتُبرم الشركات الشراكات اللازمة للنمو طويل المدى، وتضع المؤسسات العالمية الأطر الضرورية للتعدين المسؤول بما يراعي المعايير البيئية والاستدامة. وهكذا أصبح المؤتمر نقطة التقاء تجمع بين مستقبل أمن الطاقة والتنافسية الصناعية والأهداف المناخية، ليُرسى فيه اليوم أساس الموارد المعدنية لاقتصاد الغد.

رؤية السعودية والمصلحة العالمية

لا يمكن فصل صعود "مؤتمر التعدين العالمي" عن رؤية السعودية 2030، التي تجعل التعدين "الركيزة الثالثة" للاقتصاد السعودي، إلى جانب النفط والغاز والبتروكيمياويات. لقد عرفت المملكة العربية السعودية منذ عقود بوصفها عامل الاستقرار الرئيس لأسواق النفط في العالم، وهو دور ساهم في دعم نمو الاقتصادي العالمي وحماية العالم من صدمات العرض. ومن خلال رؤية 2030 والدور الريادي لوزارة الصناعة والثروة المعدنية، توسع المملكة هذا التأثير المثبت للاستقرار ليشمل قطاع المعادن.

أ.ف.ب.
وزير الصناعة والثروة المعدنية بندر الخريف يلقي كلمة خلال مؤتمر التعدين الدولي، في الرياض 10 يناير 2024

لا يقتصر هذا المسعى على الطموح الوطني، فالمؤتمر يمثل مصلحة عالمية عامة مصممًا ليعود بالنفع على المنطقة والعالم بأسره. وبجمعه الأطراف المعنية من أميركا الشمالية وأوروبا وآسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، تحوّلت الرياض إلى مركز رئيس لصياغة استراتيجيات الموارد المعدنية التي يزداد اعتماد العالم عليها في تطوير الطاقة الخضراء، وتعزيز التنافسية الصناعية، ودفع التحول في قطاع الطاقة. وهكذا، فإن الدولة نفسها التي ضمنت أمن الطاقة تقليديًا عبر النفط، تقدّم اليوم منصة تناقش المعادن اللازمة للسيارات الكهربائية والطاقة المتجددة والتصنيع المتقدم والاقتصادات الرقمية، ضمن إطار من التنسيق والتطوير المسؤول على الصعيد العالمي.

ترسم السعودية، التي طالما كانت عامل استقرار في أسواق النفط، اليوم مسارا جديدا، إذ أصبحت المعادن العمود الفقري للتحول في الطاقة والنمو الصناعي الأخضر. ومن خلال تنظيم "مؤتمر التعدين الدولي "، لا تكتفي بدور المضيف، بل تسعى لتطوير منظومة عالمية جديدة للمعادن.

لذا لم تعد المملكة العربية السعودية العمود الفقري لسوق النفط فحسب، بل أصبحت أيضا مهندسة مستقبل المعادن. وذلك دور مزدوج يعزز أمن الطاقة اليوم ويضع الأساس لمستقبل أنظف وأكثر استدامة.

زخم كبير منتظر في الدورة الخامسة

مع اقتراب انعقاد الدورة الخامسة من "مؤتمر التعدين الدولي" بين 13 و15 يناير/كانون الثاني 2026، يبرز بوضوح الزخم الذي اكتسبه المؤتمر، بعدما رسخ مكانته بوصفه الفعالية الأسرع نموا والأكثر أهمية استراتيجية في قطاع المعادن في العالم. وتشهد التحضيرات إقبالا واسعا على التسجيل من قادة الصناعة والمستثمرين والشركات والأكاديميين والمبتكرين. 

للمزيد عن قطاع المعادن إقرأ: إنّها الحربُ العالمية على المعادن

تقوم المملكة العربية السعودية، التي طالما كانت رمزًا للاستقرار في أسواق النفط العالمية، برسم مسار جديد. فقد أصبحت المعادن العمود الفقري للتحول في الطاقة والنمو الصناعي الأخضر. ومن خلال تنظيم "مؤتمر التعدين الدولي"، لا تكتفي المملكة بدور المضيف، بل تسعى أيضًا لتطوير منظومة عالمية للمعادن تجمع السياسة والإرادة ورؤوس الأموال والابتكار والاستدامة ضمن "رؤية 2030". ويعكس هذا المسعى فوائد تتجاوز الاقتصاد المحلي لتشمل المنطقة والعالم بأسره. لم تعد السعودية مجرد ركيزة للطاقة التقليدية، بل أصبحت اليوم لاعبًا فاعلًا في رسم أسس الموارد المعدنية لمستقبل الاقتصاد العالمي.

font change

مقالات ذات صلة