كيف ساهم "الشرقيون" المقيمون في الخارج في "ما بعد الاستشراق"؟

أنور عبد الملك وإدوارد سعيد وبدايات ترسيخ المفهوم

GettyImages
GettyImages
اختراق جيش نابوليون لسد النيل خلال الحملة الفرنسية في مصر، 18 أغسطس 1798

كيف ساهم "الشرقيون" المقيمون في الخارج في "ما بعد الاستشراق"؟

في سياق تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب، ثمة أحداث وفترات كانت ولا تزال تمثل بؤرا ساخنة لا يمكن تناولها دون إثارة استقطاب أو جدل في أفضل الأحوال. نشير على سبيل المثل إلى الحروب الصليبية (1095-1272) ، والحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801)، وما نعرفه باسم الاستشراق في أوجهه العلمية والفنية والأدبية. ولعلنا نؤثر هنا الإشارة إلى الاستشراق بمصطلح عام، إذ ربما يتعذر أن نسبق مفهوم الاستشراق بكلمة "ظاهرة" أو "تيار" أو غير ذلك من مفردات قد تقع في محظور اختزال المفهوم.

اللافت أن الاستشراق اكتسب طابعه الجدلي بسبب مفارقة محورية في تكوينه: فبينما كان يخدم الأجندات السياسية والمشاريع الاستعمارية، كان يقدم نفسه كمسعى أكاديمي وفني محايد وإنساني، إذ يرى عديد من المختصين أن الاستشراق العلمي بدأ بدوافع علمية بحتة، مدفوعا بالرغبة في استكشاف علوم الآخر وتوثيقها، ولم يكن الأمر كذلك مع الاستشراق الأدبي الذي كان الغرض منه تقديم حكايات جذابة آسرة عن عالم جديد، تلبية لشغف المجتمعات الأوروبية التي كانت تبحث عن التجديد في أواخر القرن السابع عشر، ولكنه – أي الاستشراق الأدبي- سرعان ما تحول من مجرد حركة فكرية وعلمية مستقلة، إلى تيار ترعرع في ظل ارتباطه العضوي بالاستعمار. ولعل من المفيد رؤية الاستشراق عبر أكثر من منظور لتوسيع القدرة على إدراكه.

استثمار سياسي وأيديولوجي

ولعل ارتباط الاستشراق بالسلطة والسياسة هو ما وفر له البيئة الخصبة للتقدم والازدهار، ويتجلى هذا الارتباط في أشكال مختلفة، سواء من خلال مظاهر اللاعدالة الجيوسياسية التي تبرز مع صعود الحضارات وتلاشيها عبر التاريخ، أو عبر السيطرة العسكرية المباشرة على المجتمعات التي كانت محل الدراسة العلمية والتعبير الأدبي والفني، ولا يمكننا فهم وجود العلماء والفنانين الذين اصطحبهم نابوليون بونابرت على متن أسطوله المتجه إلى شواطئ مصر عام 1798، بمعزل عن الآلة الاستعمارية التي كانوا جزءا لا يتجزأ منها.

لذا، ليس غريبا أن يضع المستشرقون نتائج أبحاثهم في خدمة القادة العسكريين والسياسيين خلال الحقبة الاستعمارية. وهو ما أدى إلى تصاعد الدعوات المنددة بالاستشراق، وذلك بالتزامن مع نجاح حركات التحرر وبداية أفول الاستعمار السياسي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومع هذا، أصبح الاستشراق جسدا مجازيا يضم في طياته فترات تاريخية دالة، وتيارات متباينة ومتجاورة: أولياء وخصوم، منجزات وخطايا.

أصبح الاستشراق جسدا مجازيا يضم في طياته فترات تاريخية دالة، وتيارات متباينة ومتجاورة: أولياء وخصوم، منجزات وخطايا.

 إن واحدة من أفضل الطرق لدراسة "موضوع" ما، هي الوقوف عند لحظات التحول المفصلية في تاريخ هذا الموضوع لكونها هي التي تصنع التغيير، ففيها ومعها تنتج المناهج وتخلق الفلسفات وتمكننا من الإمساك بالخيط الناظم للموضوع محل الدراسة. وهنا نشير إلى اللحظة المفصلية التي بدأت فيها كتابات التنديد الموجهة نحو الاستشراق والمستشرقين.

أزمة الاستشراق

نذكر من هذه الكتابات التي سلطت الضوء على الدور المتواطئ للاستشراق، ما كتبه المفكر الفرنسي المصري أنور عبد الملك في عام 1963، حين نشر مقالته "الاستشراق في أزمة" باللغة الفرنسية، وقدم تحليلا مطولا للأزمة التي كان يعيشها الاستشراق العلمي في أوائل ستينات القرن الماضي، رابطا بين الاستشراق وصعود الاستعمار والإمبريالية. ففي رأيه، أن الاستشراق يمهد الطريق أمام الغرب لاستعمار الشرق من خلال فهم ثقافات الشعوب الشرقية وتحديد الوسائل الفعالة لإخضاعها والسيطرة عليها.

أنور عبد الملك

ثم واصل انتقاداته في كتابه الذي نشر باللغة العربية بعنوان "هل مات الاستشراق؟"، إذ يرى أن المعرفة الاستشراقية تعتبر الشرق "آخر" مختلفا في جوهره وتكوينه، حيث يمتلك الشرق "عقلية" جامدة غير قادرة على بلوغ الحضارة أو استيعابها، ولا يمكن إلا أن يكون موضوعا للدراسة. كذلك أشار إلى مشكلة أخرى، وهي اعتبار الشرق ثابتا ومعطى سابق التجهيز تاريخيا، يفتقر إلى إمكان التطور والتقدم، وذلك لإدامة وضعه المتخلف.

ما طرحه عبد الملك كان محل دراسة من باحثين غربيين، حيث كتب توماس بريسون أستاذ العلوم السياسية بجامعة باريس 8، في مقالته بعنوان: "هل يمكن تحرير الاستشراق من الاستعمار؟": "السياسة والعلم هما بالفعل القطبان اللذان يرتكز عليهما جوهر حجة عبد الملك، أي العلاقة بين الاستعمار والاستشراق: ففي شكله العلمي الذي يفترض أنه مجرد من المصالح، يتقاسم الاستشراق 'مجتمع مصالح' مع هذه الحركة العامة التي كان 'هدفها الوحيد استطلاع الأرض التي سيتم احتلالها، واختراق وعي الشعوب لضمان إخضاعها للقوى الأوروبية بصورة أفضل".

إدوارد سعيد و"الاستشراق"

لا شك أن مثل هذه الأطروحات والمقالات التحليلية لعبد الملك وغيره لعبت دورا تمهيديا لاستقبال كتاب "الاستشراق" (1978) للكاتب الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد (1935-2003). وربما كان هذا التمهيد التنديدي الخافت أو المحدود في تأثيره، أرضية حاضنة وداعمة لحدة التناول التي تميز بها طرح إدوارد سعيد في كتابه. هذا الكتاب الصدمة، للغرب قبل الشرق، الذي شكل اعادة صوغ للعلاقة بين الشرق والغرب، شكلا ومضمونا. كما يعد نقطة التحول الجذرية في تناول الاستشراق كموضوع وأيديولوجيا، بما تبعه من جدل لا ينتهي وتحليلات تفكيكية من جوانب الموضوع كافة.

من بين الكتابات التي سلطت الضوء على الدور المتواطئ للاستشراق، ما كتبه المفكر الفرنسي المصري أنور عبد الملك في عام 1963، حين نشر مقالته "الاستشراق في أزمة" باللغة الفرنسية

"الاستشراق: الشرق الذي خلقه الغرب"، هو العنوان الفرعي لكتاب إدوارد سعيد في الترجمة الفرنسية. أثار هذا العنوان جدلا فور صدوره بالفرنسية، وبلور الانتقادات الموجهة للتخصص على مدى العقدين السابقين. في كتابه، يتهم إدوارد سعيد الأكاديميين والعلماء، بالإضافة إلى المخيلة الأوروبية بشكل عام، بتأسيس صورة مهينة وخطاب متعجرف عن الشرق لدى الكتاب والفنانين. ويهاجم الاستشراق في جانبيه الأدبي والعلمي بمختلف أشكالهما: "مختارات النصوص المأخوذة من الأدب الشرقي، قصص الرحلات، والروايات الخيالية عن الشرق". يرى سعيد أن المستشرقين أرادوا، بالضرورة، إعادة تشكيل الشرق، وأنهم لم يهتموا بالأفراد أو حتى "التعددية الإنسانية". ويضيف أن "الاكتشافات العلمية، وإعادة البناء اللغوي، والتحليل النفسي، ووصف المناظر الطبيعية، أو الوصف السوسيولوجي"، لم تكن سوى "وسائل" لخدمة هدف الهيمنة الغربية من خلال ممارسة سلطة ثقافية. وهو ما أثار حرجا وغضبا من كلا الطرفين، لا سيما أنه جاء في أعقاب نهاية الاستعمار وموجات الإدانة اللاحقة لتلك الحقبة وآثارها على المجتمعات المستعمرة.

إدوارد سعيد و"الاستشراق"

وهنا لا نختلف كثيرا حول مكانة كتاب إدوارد سعيد، الاستثنائي بامتياز ، لكننا ربما أيضا لا نختلف حول كونه ابن عصره في نهاية المطاف. وقتها كان الاستعمار الأوروبي بطبيعته، وفلسفته التبريرية يتداعى، فكأن كتاب "الاستشراق" هو الصيحة الحاسمة اللافتة بعد كثير من كتابات التنديد المتردد. 

في عام 1992، أي بعد 14 عاما من صدور كتابه "الاستشراق"، اعترف إدوارد سعيد نفسه بأنه "أغفل" بعض "الكتب والمقالات والمؤلفين والأفكار" في هجومه على الاستشراق: "لقد فضلت دراسة ما اعتبرته مهما وجوهريا: وأنا أقر مسبقا بأن الانتقائية والاختيار المتعمد قد سادا، آمل أن يستخدم قراء هذا الكتاب ونقاده كمرجع لإثراء البحث والتفكير في التجربة التاريخية للإمبريالية".

كلمات سعيد توضح، من جهة، أن شاغله الأول كان الكتابات الاستشراقية التي شوهت، من وجهة نظره، صورة الشرق وثقافاته وشعوبه. تلك الكتابات كانت ذراعا للإمبريالية والنظام الاستعماري. ومن جهة أخرى، أن كل ما هو استشراقي ليس بالضرورة إمبرياليا أو متواطئا مع الاستعمار.

حساسيات

تكمن حساسية الكتابات الاستشراقية في أنها نصبت نفسها متحدثة باسم الشرق، مصورة إياه على أنه عاجز عن التعبير عن نفسه. وهذا هو السبب الحقيقي وراء استهداف الاستشراق الأدبي بالانتقادات والإدانات. فمن خلال استغلال المكانة المهيمنة للغتين الإنكليزية والفرنسية على حساب اللغات الشرقية كالعربية والفارسية مثلا، أي الظلم اللغوي والجغرافي، حظيت الأعمال الاستشراقية بانتشار واسع ودعاية جعلتها مرجعا لا غنى عنه لكل من يرغب في معرفة الشعوب والبلدان الشرقية. ويعود انتشارها السريع أيضا إلى المكانة المتفوقة سياسيا وعسكريا وعلميا للدول التي عاش فيها التيار الاستشراقي عصره الذهبي.

كلمات إدوارد سعيد توضح، أن شاغله الأول كان الكتابات الاستشراقية التي شوهت صورة الشرق وثقافاته وشعوبه. ومن جهة أخرى، أن كل ما هو استشراقي ليس بالضرورة إمبرياليا أو متواطئا مع الاستعمار

 إن ما طرحه سعيد من مراجعة لأفكاره السابقة، وتحفظ عنها، حظي بالتعليق من بعض المتخصصين الغربيين أمثال البروفسور دانيال لونسون أستاذ الأدب والفرنكوفونية بجامعة "غرونوبل" فرنسا الذي علق قائلا: "سعيا منه لمقاومة ما اعتبره تفسيرات خاطئة لأطروحاته، قرر إدوارد سعيد مرتين أن يرفق الطبعات الجديدة لكتابه الأشهر بمرفقين، ملحق مرة، ومقدمة مرة ثانية. يظهر هذان التدخلان قلق رجل يرى أن بعض تأويلات كتابه خانت فكره، خاصة من خلال الترجمات التي صرح بأنه "لا يملك أي فكرة عنها"، واصفا إياها بأنها "انتشار متعدد الأشكال" لم يتوقعه. لقد أصبح كتابه، في نظره، "مجموعة كاملة من الكتب المختلفة"، وكأنه "كتاب جماعي" "يتجاوزه كمؤلف".

GettyImages
الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد في باريس للترويج لكتابه، 25 نوفمبر 1996

قد يشير مفهوم ما بعد الاستشراق إلى الأعمال الأدبية، والمقالات، والنظريات، والأشكال الفنية التي اتخذت من الشرق موضوعا رئيسا لها، وظهرت في السنوات التي تلت نشر كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق". ومع ذلك، فإن استخدام مصطلح "الاستشراق" يشير إما إلى الاستشراق الكلاسيكي أو إلى عنوان الكتاب الشهير.

قد يكون من الممكن الاعتماد على أي من المعنيين، ولكن ما يميز الاعتماد على المعنى الثاني - أي ما بعد صدور الكتاب - هو أن له تاريخا محددا، مما يسمح للباحثين والمؤرخين ببدء عملهم من لحظة تاريخية معينة، مع الأخذ في الاعتبار إعادة النظر في مفهوم الاستشراق بعد نشر هذا الكتاب.

سرديات عربية

عنونت تلك الكتابات والمساهمات الفكرية المرحلة الجديدة في تناول الشرق. فمنذ ستينات القرن الماضي، لم يعد البحث في الشؤون العربية أو الشرق أوسطية  وشمال أفريقيا يقتصر على الغربيين. فمع أفول الحقبة الاستعمارية، بدأت المجتمعات العربية في تأكيد حقها في رواية سرديتها الخاصة. وفي الوقت نفسه، كشفت هذه المرحلة عن عيب جوهري في المنهج الاستشراقي، فبرغم تقدمه العلمي، كان أغفل تماما الصوت الأصيل لأولئك الذين ينتمون إلى الثقافة قيد الدراسة، وهو إسهام لا غنى عنه لفهمها بشكل حقيقي. وهكذا، فإن دمج الكتاب والباحثين العرب في علوم وأدب ما بعد الاستشراق، يشكل إحدى سمات التحول بين الاستشراق وما بعد الاستشراق، لا سيما على المستويين الأدبي والأكاديمي.

دمج الكتاب والباحثين العرب في علوم وأدب ما بعد الاستشراق، يشكل إحدى سمات التحول بين الاستشراق وما بعد الاستشراق

حول الاستشراق، مثلت الدراسات التاريخية والجيوسياسية، الأعمدة التي لا غنى عنها لدراسةالموضوع، إلا أن زوايا أخرى كانت لازمة لإلقاء مزيد من الضوء، إن لم يكن على الاستشراق كما فهمناه، أو عرفناه، فربما على "ما بعده". إحدى أهم تلك الزوايا تتعلق بدراسة الأدب الذي قدمه كتاب ينتمون الى الشرق بالميلاد والنشأة الأولى، ثم باتوا ينتمون الى الغرب بإبداعهم ومسيرتهم ولغتهم التي ينتجون بها. وإذا كنا نشهد على تأثير الإعلام في توجيه الرأي العام وكيف كان دوره في موضوع الاستشراق على مدار تاريخه، فإننا لا يمكن أن ننكر أثر الأدب في تشكيل الوعي والوجدان.

AFP
الأديب اللبناني-الفرنسي والأمين العام للأكاديمية الفرنسية أمين معلوف يصل إلى قصر الإليزيه لعشاء رسمي، باريس، 12 مارس 2025

برزت على الساحة الأدبية والأكاديمية في الغرب، وخاصة في فرنسا وأميركا وبريطانيا وألمانيا، أسماء عديدة. ولعل الكاتب الفرنسي من أصل لبناني أمين معلوف يعد من أبرز هذه الأمثلة، خاصة مع انتخابه أمينا عاما للأكاديمية الفرنسية في عام 2023. وهي المؤسسة المسؤولة عن ضبط اللغة الفرنسية وتطويرها، بالإضافة إلى منحه عددا من الجوائز المرموقة التي تحظى بمكانة رفيعة بين الجوائز العالمية الكبرى. إن انتخاب معلوف لهذا المنصب الرفيع هو دليل على تطور حقيقي في مكانة كتاب ما بعد الاستشراق، وتأثير إنتاجهم البحثي والفني في المجتمعات التي يعيشون فيها. من هنا، تبرز أهمية الوقوف بالتحليل والتروي أمام هذا الإنتاج الأدبي، وهو ما سنسعى إلى تقديمه في مقالات مقبلة.

font change

مقالات ذات صلة