السودان بين الثورة والدولة... قراءة في "المهدية" و"دولة الخلافة" والحرب الراهنة

التاريخ حين يُستخدم كسلاح إثني يحبس الناس في الماضي

أ.ف.ب
أ.ف.ب
جندي من الجيش السوداني يراقب خط المواجهة باستخدام منظار في الخرطوم في 3 نوفمبر 2024

السودان بين الثورة والدولة... قراءة في "المهدية" و"دولة الخلافة" والحرب الراهنة

منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل/نيسان 2023، انفتحت البلاد على واحدة من أعقد أزماتها وأكثرها مأساوية في العصر الحديث. ملايين النازحين واللاجئين، مجاعة متعمدة يتم استعمالها كسلاح حرب، تضعضع أركان مؤسسات الدولة، وصراع مسلح يتغذى على الولاءات الإثنية والجهوية.

في مواجهة هذا الواقع، لجأ كثير من السودانيين إلى التاريخ، باحثين عن مقارنات ومقاربات، فاستدعى بعضهم الثورة المهدية، ودولة الخليفة عبد الله التعايشي، ليسقطوا وقائعها في مقاربة مع جرائم "ميليشيا الدعم السريع" الحالية، وهو ما أثار الكثير من اللغط والنقاش السياسي في وسائل التواصل مؤخرا. غير أن هذا الإسقاط يتم عبر مغالطة معرفية، تجعل من أحداث القرن التاسع عشر، مرآة حرفية لصراعات القرن الحادي والعشرين، من دون انتباه كافٍ للفوارق الزمنية والسياقية.

لتناول هذا التاريخ، لا بد من الفصل بين مرحلتين مختلفتين، الثورة المهدية (1881–1885) التي جسدت لحظة تحرر وطني جامعة، والدولة التي ورثها الخليفة عبدالله التعايشي (1885-1898) والتي تحولت إلى كيان سلطوي قائم على المحسوبية والقمع.

وُلد محمد أحمد المهدي عام 1844 في شمال السودان، ونشأ في بيئة متأثرة بالتصوف والطرق الدينية. منذ شبابه كان ناقدا لفساد الحكم التركي–المصري، وكثرة الضرائب التي أنهكت الناس. أعلن مهدويته في 1881، فالتف حوله السودانيون من مختلف القبائل، ليصوغ خطابا جمع بين البعد الديني والبعد التحرري.

استطاعت الثورة أن توحّد بين فئات شديدة التنوع في مواجهة الاستعمار، وأن تحقق نصرا هائلا بتحرير الخرطوم في يناير/كانون الثاني 1885 وقتل الجنرال البريطاني غوردون، لتصبح أول حركة تحرر أفريقية كبرى في الحقبة الاستعمارية، تنتصر في عهد التدافع على أفريقيا (The Scramble for Africa) والذي دشنه "مؤتمر برلين" للقوى الاستعمارية في عام 1884.

غير أن وفاة المهدي بعد شهور قليلة فتحت الباب أمام تحولات حاسمة. تولى الخليفة عبد الله التعايشي الحكم، وكان هو أول من بايع المهدي في بداية ثورته، بل إن مصادر كثيرة تذكر أنه لعب دورا حاسما في إقناع المهدي بإعلان مهدويته، وساعده بعد ذلك في تثبيت دعوته، إلا أن شخصية الخليفة اتسمت بحدة الطبع وكثرة الشكوك، وقد سعى لتثبيت سلطته عبر القمع والاستبداد، ووراثة الخطاب المقدس الذي نسب إليه العصمة، وجعل طاعته واجبة كما لو كانت طاعة للمهدي نفسه، وهو ما كان قد أقره له المهدي في منشور شهير عام 1883.

أدار الخليفة الدولة بمنطق يعتمد على الولاءات القبلية، اعتمد فيه على تقريب أهله من قبائل البقارة، وتو، ما أثار حفيظة مجموعات أخرى مثل الجعليين والشايقية في شمال السودان. ولجأ الخليفة عبدالله إلى فرض الضرائب الباهظة، وهو ما أثار نقمة الناس عليه، كما أدى إهمال الزراعة إلى مجاعة سنة (1889-1890) التي قتلت مئات الآلاف. تفشت الأوبئة، وتراجعت التجارة بفعل العزلة التي فرضتها الدولة.

الصراع الحالي يجري في سياق إقليمي ودولي شديد التعقيد، تغذيه مصالح ورعاية خارجية وشبكات اقتصادية عابرة للحدود، تعمل في تجارة الذهب، وتهريب الموارد

في هذا السياق جاءت أحداث مقتلة المتمة (كتلة المتمة) عام 1897، التي شكّلت إحدى أبشع المذابح في تاريخ الدولة المهدية. المتمة كانت معقلا لقبائل الجعليين، الذين كان لهم دور بارز في دعم الثورة المهدية في بداياتها، فقد أسقطوا حامية بربر، تمهيدا لتحرير الخرطوم، وعطلوا بعثة الإنقاذ التي أرسلتها الحكومة الإنجليزية لفك حصار غوردون، وشاركوا بفعالية في هزيمة الاستعمار التركي، وكان زعيمهم عبد الله ود سعد من أوائل الأنصار المتحمسين للمهدية، غير أن العلاقة توترت لاحقا بفعل سياسات الخليفة، فقد فرض عليهم الضرائب الباهظة، وطلب منهم إخلاء بلدتهم الاستراتيجية لتكون حصنا لجيشه، بل خاطب زعيمهم قائلا: "نريد منكم الزاد والمرة السمحة"، في إشارة جارحة فهمها الجعليون على أنها انتقاص من كرامتهم.

ترافق ذلك مع نقمة الناس من تفضيل الخليفة لقبيلته في التعيينات والامتيازات. وحين رفض الجعليون أوامر الإخلاء، وأعلنوا تمردهم في يونيو/حزيران1897 تحت قيادة ود سعد. كان رد الخليفة قاسيا، إذ أرسل جيشا قوامه نحو عشرة آلاف مقاتل، بقيادة ابن أخيه الأمير محمود ود أحمد، غالبيتهم من البقارة.

AFP
عرض عسكري للجيش السوداني في يوم الجيش، 2024

حاصر الجيش المتمة لأيام، قبل أن يقتحمها مطلع يوليو/تموز. وعندها ارتكبت قوات محمود مذبحة مروعة: قُتل فيها ما يقارب خمسة آلاف شخص، من أصل سبعة آلاف هم سكان البلدة. لم يسلم النساء والأطفال، إذ وقعت عمليات اغتصاب واسعة، وسُبي المئات، ونُهبت البيوت وأُحرقت، ودُمّرت المتمة بالكامل، واستمرت الحملة لأشهر، إذ لاحق جيش محمود الفارين إلى القرى المجاورة، فقتل وأسر الآلاف.

هذه المجزرة لم تكن مجرد حادثة محدودة، بل كانت ضربة قاتلة لشرعية الدولة المهدية في شمال السودان، إذ شعر كثير من الأنصار أنهم باتوا مهددين من الدولة نفسها، بعدما كانوا من مسانديها، كما كشفت المذبحة عن طبيعة الحكم القائم على الولاء القبلي، والإقصاء العنيف، وهو ما عمّق الانقسامات الداخلية، وأضعف الجبهة الوطنية قبل مواجهة الغزو البريطاني–المصري. فبعد عام واحد فقط، في سبتمبر/أيلول 1898، وقعت معركة كرري التي أنهت الدولة المهدية.

تاريخ "كتلة المتمة" يقدم درسا بليغا في كيفية تحوّل حركات التحرر إلى الحكم القمعي حين تفشل في إدارة الدولة، وهو أساس منهج دراسات ما بعد الاستعمار في زمننا الحالي، فالجعليون، الذين كانوا ركنا من أركان الثورة، صاروا ضحايا لسياسات الخليفة، بشكل يكشف أن الشرعية الثورية لا تضمن شرعية الحكم، إذا لم تُبنَ على العدل والمساواة. وقد ينظر بعض الناقمين على خليفة المهدي، إلى تشابهات بين أحداث "كتلة المتمة" وبين الجرائم التي ترتكبها "ميليشيا الدعم السريع"، فيعمدون إلى إسقاط الماضي على الحاضر.

لكن هناك أيضا اختلافات جوهرية، فالصراع الحالي يجري في سياق إقليمي ودولي شديد التعقيد، تغذيه مصالح ورعاية خارجية وشبكات اقتصادية عابرة للحدود، تعمل في تجارة الذهب، وتهريب الموارد. كما أن السودان اليوم يملك مؤسسات دولة تكافح لتقديم الخدمات، حتى لو ضعفت وقل تأثيرها.

استدعاء تجربة الثورة المهدية، وحكم الخليفة عبد الله التعايشي لتفسير الواقع الراهن؛ لا تقدم قراءة متوازنة، بل تعيد إنتاج خطاب إثني يُستغل في سياق الصراع الدائر

وهنا تبرز الإشكالية الجوهرية، في استدعاء تجربة الثورة المهدية، وحكم الخليفة عبد الله التعايشي لتفسير الواقع الراهن؛ فالنظرة التبسيطية للتاريخ لا تقدم قراءة متوازنة، بل تعيد إنتاج خطاب إثني يُستغل في سياق الصراع الدائر.

تستخدم "الميليشيا"، وحلفاؤها هذا الخطاب لادعاء شرعية وتبرير حربها وجرائمها، وتغطية دوافعها الحقيقية، ذات الطابع السلطوي والارتباطات الخارجية، كما توظفه كأداة لتوسيع دائرة التعبئة والتجنيد على أسس عرقية. وفي المقابل، يلجأ بعض خصومها إلى استخدام الخطاب ذاته بشكل أيديولوجي لتغذية العداء ضد "الميليشيا" ولكنه بالتوازي يعمل على تعميق الانقسامات المجتمعية، وتمزيق النسيج الاجتماعي عبر خطاب عنصري قصير النظر، يرفع راية لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. وبذلك، لا يقتصر هذا الطرح على تعميق الانقسامات فحسب، بل يكرس مغالطات تحليلية، تشوّه التعامل العلمي مع التاريخ، وتعقّد حل الأزمة الراهنة.

يقع هذا النمط من القراءة المشوّهة للتاريخ، ضمن إطار التسييس الإثني للتاريخ (Ethnicization of History)، الذي تعامل معه باحثون مثل بنديكت أندرسون، في مفهوم "الجماعات المتخيّلة" (Imagined Communities)، وكيفية توظيف السرديات التاريخية، لخدمة صراعات الهوية. كما يمكن النظر إليه عبر منظور إريك هوبزباوم وتيرنس رينجر حول اختراع التقاليد (The Invention of Tradition)، حيث تُستخدم روايات الماضي انتقائيا لشرعنة وقائع الحاضر.

وفي سياق الحروب الأهلية المعاصرة، فإن هذا التوظيف المغرض للتاريخ، يتقاطع أيضا مع أطروحات باول كولير حول "الحروب الجديدة" (Wars New) التي تُعدّ الهويات الإثنية فيها أداة للتعبئة لا سببا جوهريا للصراع، وهذا يتوافق مع تحليل أمارتيا سن لخطورة الهويات الأحادية المغلقة، ودورها في تغذية التعصب والعنف، مقابل إمكانية بناء السلام والتوافق على أساس الهويات المتعددة والمتشابكة.

إن استدعاء المهدية، خاصة عبر "مأساة المتمة" لا يجب أن يتم بشكل مغرض، بهدف تغذية الخطاب العنصري، فالتعامل يجب أن يكون بهدف الفهم والتعلم لا بهدف التسييس. فالتاريخ حين يُستخدم كسلاح إثني يحبس الناس في الماضي. أما حين يُقرأ في سياقه، فإنه يكشف دروسا مهمة من أهمها في هذا السياق السوداني المعاصر، هو أن الثورة شيء والدولة شيء آخر، وأن القمع يقتل الشرعية، وأن الانقسام الداخلي أخطر من العدو الخارجي.

وعلى هذا الأساس، يصبح ضروريا أن يميز الوعي السياسي السوداني، بين قداسة الثورة وواقع الدولة، الثورة المهدية بما حملته من معاني التحرر الوطني، ومناهضة الاستعمار، تظل لحظة فخار قومي، ولا يمكن اختزاله في دولة الخليفة باعتبارها استمرارا حتميا لتلك الثورة. إن محاولة تجريم الثورة استنادا إلى إخفاقات الدولة، أو تبرير إخفاقات الدولة استنادا إلى بطولات الثورة، كلاهما يمثل خلطا معرفيا يعيق القدرة على التعلم من التاريخ.

الموضوعية لا تعني التبرير، لكنها تعني محاكمة أخطاء الدولة في سياقها التاريخي: سياق تهديدات خارجية من إمبراطوريات استعمارية كبرى، وضغوط داخلية من مجتمعات أنهكها الفقر والمجاعا

التعامل الموضوعي مع هذا الإرث يعني الاعتراف بازدواجيته: لحظة مجيدة صنعت وعيا وطنيا جامعا، وتجربة سلطوية فشلت في ترجمة ذلك الوعي إلى دولة عادلة، الموضوعية لا تعني التبرير، لكنها تعني محاكمة أخطاء الدولة في سياقها التاريخي: سياق تهديدات خارجية من إمبراطوريات استعمارية كبرى، وضغوط داخلية من مجتمعات أنهكها الفقر والمجاعات. ومع ذلك، لا يمكن لهذه التبريرات أن تغطي على العنف المفرط، وسياسات التهميش التي مارستها الدولة، والتي كانت سببا لاندلاع الثورة التي ولدت منها.

إن مصالحة السودان مع تاريخه، لا تعني تمجيد الماضي أو شطبه، بل تعني قراءته باعتباره مخزونا من العبر، والاعتزاز بالثورة لا يلغي ضرورة نقد الدولة، ونقد الدولة لا ينبغي أن يتحول إلى شيطنة للثورة، بهذه الموازنة وحدها يمكن أن يتحول التاريخ من أداة استقطاب إلى أفق مشترك.

أ.ف.ب
نازحون فروا من مخيم زمزم للنازحين بعد سقوطه تحت سيطرة "قوات الدعم السريع" عليه، يستريحون في مخيم مؤقت في إقليم دارفور غربي السودان، في 13 أبريل 2025

الحرب الراهنة، مثلها مثل إخفاقات الماضي، تكشف أن التحدي الأكبر للسودان، هو بناء دولة تتجاوز شرعية القوة، وشرعية الانتماء القبلي إلى شرعية تقوم على العدل وخدمة مصالح الناس وتوفير الخدمات الاجتماعية، وتستمد قوتها من رضا الناس لا من البطش بهم. فإذا كان إخفاق المهدية قد فتح الباب للغزو الأجنبي، فإن إخفاق الدولة السودانية اليوم يفتح الباب لتدخلات إقليمية ودولية تمزق البلاد، وفي كلتا الحالتين، فإن جوهر الأزمة، يكمن في العجز عن تحويل لحظة التحرر إلى مشروع دولة.

إن الدرس الأبرز هو أن الثورة ليست الدولة، وأن قداسة النضال لا تضمن صلاح الحكم، ولعل ما يحتاجه السودان اليوم أكثر من أي وقت مضى هو هذا الوعي الفارق: أن نُبقي على رمزية الثورة المهدية كجزء من الذاكرة الوطنية الجامعة، وفي الوقت نفسه أن نواجه بجرأة إخفاقات الدولة التي تلتها، دون أن نسمح لهذا التاريخ أن يتحول إلى سلاح لتقسيم الحاضر.

font change

مقالات ذات صلة