سوق البحر المتوسط الكبرى... رهان أوروبا للهروب من أزماتها

من أعباء الرسوم الجمركية وتراجع الحليف الأميركي إلى البحث عن شركاء جدد في الجنوب

المجلة
المجلة

سوق البحر المتوسط الكبرى... رهان أوروبا للهروب من أزماتها

يعود الى سنوات خلت، مشروع "التكامل الاقتصادي بين ضفتي البحر المتوسط" الذي كان يُطلَق عليه اسم Mare Nostrum أو بحر الروم. وُلِد المشروع في قمة برشلونة لـ"الشراكة الأوروبية المتوسطية" عام 1995، وتبعه إنشاء منظمة "الاتحاد من أجل المتوسط"، وذلك خلال فترة الحماسة لسقوط المنظومة الاشتراكية، ونشوء العولمة وفتح الأسواق، وبداية تعدد سلاسل الإنتاج والإمداد، وإنشاء منظمة التجارة العالمية، وانطلاق عملية السلام العربي الإسرائيلي، والحديث عن السلام الاقتصادي.

لكن تعثر فرص السلام في الشرق الأوسط، وانتقال اهتمام الاتحاد الأوروبي إلى دول أوروبا الشرقية، فاندلاع ثورات "الربيع العربي" وما آلت إليه، كلها عوامل جعلت فكرة الاندماج الاقتصادي الإقليمي بين ضفتي المتوسط أمرا صعبا.

تفيد دراسة للبنك الدولي بأن "المنطقة ضيعت فرصا هائلة للتطور، إذ إن الحروب وعدم الاستقرار الأمني والسياسي حرما شعوبها ما يوازي 35 سنة من النمو والتقدم والبناء. كان الدخل الفردي سيزيد مرتين على الأقل لو تحقق السلام في شرق البحر المتوسط".

من المتوقع أن تسجل المبادلات التجارية العالمية خسائر بقيمة 305 مليارات دولار عام 2025 تشمل الاتحاد الأوروبي أيضا، بسبب الرسوم الجمركية المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين، وارتفاع تكلفة الصادرات الأوروبية

وقد تكون التحولات الحالية مقدمة نحو توفير شروط التكامل الاقتصادي بين الضفتين بما يمهد لتولي فريق أكثر اعتدالا الحكم في إسرائيل. ولعل تصويت دول أوروبية عدة لصالح حل الدولتين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، واعتراف دول مثل إسبانيا وإيرلندا والنروج عام 2024، والمملكة المتحدة في سبتمبر/أيلول 2025 بدولة فلسطين، هو رسالة إلى العالم العربي في اتجاه إنشاء نظام إقليمي جديد حول البحر المتوسط الذي كان مهد الحضارات وملتقى التجارة والثقافات.

الأسباب التجارية والدوافع الحالية

من المتوقع أن تسجل المبادلات التجارية العالمية خسائر بقيمة 305 مليارات دولار عام 2025 تشمل الاتحاد الأوروبي أيضا، بسبب الرسوم الجمركية المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين، وارتفاع تكلفة الصادرات الأوروبية إلى السوق الأميركية حتى في ضوء الاتفاقية التجارية المبرمة بين بروكسيل وواشنطن. وتتحمل الشركات الكبرى جزءا من فاتورة العجز التجاري، وفق خلاصة تقرير صدر أخيرا عن "مجموعة أليانس ترايد" لضمان الائتمان التجاري، وأفاد بأن نحو 45 في المئة من الشركات المصدرة عالميا معرضة إلى تراجع إيرادات التصدير وتقلص الأرباح.

أ.ف.ب.
صورة جماعية لزعماء الدول الأوربية على هامش قمة أوربية أميركية لمناقشة حرب أوكرانيا، 2 مارس 2025

وتشعر دول التكتل الأوروبي بأنها أحد الأطراف الخاسرة من رسوم الرئيس الأميركي دونالد ترمب الجمركية، والتقارب الاقتصادي والجيوسياسي بين الصين والهند وروسيا، وأيضا ابتعاد واشنطن عن دعم حلفائها التقليديين، وتحميل حلف شمال الأطلسي نفقات الدفاع عن القارة العجوز، وتراجع نفوذ الدول العربية في المنطقة العربية والساحل الأفريقي. الجدير بالذكر أن ست حكومات أوروبية على الأقل تواجه مشكلة تفاقم المديونية العامة. ويترقب الاتحاد الأوروبي تحقيق معدل نمو ضعيف يساوي 1.1 في المئة في حلول نهاية العام، في حين خفضت وكالة "فيتش" الأميركية للتصنيف الائتماني تصنيف فرنسا من "AA-" إلى "A+"، مما يزيد حالة عدم اليقين في الأجل المتوسط.

ميثاق إقليمي جديد يشمل الخليج

في هذه الأثناء، كشفت قناة "يورونيوز" الأوروبية نهاية أغسطس/آب الماضي عن رغبة بعض دول الاتحاد الأوروبي في تعميق علاقاتها التجارية مع دول جنوب البحر المتوسط وشرقه، من خلال ميثاق إقليمي جديد، يقوم على مبادئ اتفاقيات "الشراكة الأوروبية المتوسطية" وأهداف "الاتحاد من أجل المتوسط". ويتضمن النهج الجديد إجراءات لإزالة الحواجز الجمركية تدريجيا، في إطار خطة استراتيجية لإنشاء "سوق موحدة موسعة ومنطقة تجارية حرة في الاتجاهين" تجمع ضفتي البحر المتوسط، وتتكون من 43 دولة. وقد تنضم إليها لاحقا دول غير أعضاء مثل سويسرا والنروج وأوكرانيا ومولدوفا وغيرها.

المشاورات التي انطلقت في شكل غير رسمي تهدف أيضا إلى دمج وجهات نظر الجيران، بما في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا، مع الاعتراف بمصالحهم الاستراتيجية ونفوذهم في المنطقة

المفوضية الأوروبية

والدول المعنية بالمبادرة التجارية الأوروبية حاليا هي: المغرب والجزائر وتونس ومصر وليبيا والأردن ولبنان وفلسطين وسوريا وإسرائيل. وجاء في وثيقة للمفوضية الأوروبية أن "المشاورات التي انطلقت في شكل غير رسمي تهدف أيضا إلى دمج وجهات نظر الجيران، بما في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا، مع الاعتراف بمصالحهم الاستراتيجية ونفوذهم في المنطقة". ويرى الاتحاد الأوروبي في الوثيقة أن "القوة الاقتصادية لدول الخليج الصاعدة أصبحت لها أبعاد إقليمية ودولية واسعة". وتتوقع تقارير أوروبية أن يرتفع الناتج الإجمالي في مجلس التعاون الخليجي إلى ثلاثة تريليونات دولار في حلول عام 2030، وقد يتضاعف ليصل إلى ستة تريليونات دولار قبل عام 2050. وبلغت المبادلات التجارية بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي نحو 175 مليار يورو (205 مليارات دولار) عام 2022، وانخفضت إلى 161.7 مليار يورو (190 مليار دولار) عام 2024. وقدرت محفظة الاستثمارات الخليجية بنحو 233.6 مليار دولار، وفق تقارير الأمانة العامة للمجلس.

تنويع الشركاء وتقليص التبعية

لا تخفي رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين نية الاتحاد تنويع شركائه التجاريين، للمساعدة في تقليص التبعية في الصناعة والطاقة للولايات المتحدة والصين وروسيا. ويُنتظَر من المفوضية تقديم الخطوط العريضة لتصور الشراكة الجديدة خلال القمة الأوروبية منتصف أكتوبر/تشرين الأول المقبل في بروكسيل. وتجري فون دير لاين حاليا مشاورات مع الدول المعنية للوقوف على مدى استعدادها للمضي قدما في توسيع مجالات التعاون من ضمن سياسة الجوار الجديدة. وتدعم فرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا والدنمارك وإسبانيا واليونان ومالطا وغيرها هذا التوجه، انطلاقا من مصالح ذاتية تمتد من اليد العاملة إلى الأسواق والمواد الأولية والسياحة والتعاون الأمني والسيبراني.

أ.ف.ب.
منشأة تابعة لشركة " سيرغاز" التي تشرف على الجزء التونسي من أنابيب الغاز التي تربط بين الجزائر وإيطاليا، على بعد 100 كيلومترا عن العاصمة تونس 14 أبريل 2022

وكتبت وسائل إعلام أوروبية أن التقارب مع الجانب العربي خطوة جيدة، قد تساعد في تجاوز أخطاء التاريخ الاستعماري واستعادة أوروبا بعض المواقع التي فقدتها في السنوات الأخيرة لصالح قوى منافسة. ووفق وثيقة المفوضية، تسعى "المبادرة إلى تعزيز التعاون مع دول جنوب البحر المتوسط وشرقه في ضوء عدم الاستقرار التجاري مع الحلفاء التقليديين". ويعتقد محللون أن الاتحاد الأوروبي لا يستطيع منافسة الصناعات الآسيوية من دون تعاون مع دول جنوب البحر المتوسط وشرقه.

الشركاء المحوريون

بلغت المبادلات السلعية بين دول شمال أفريقيا والاتحاد الأوروبي نحو 165 مليار يورو (194 مليار دولار) عام 2024، وفق بيانات المفوضية الأوروبية وشملت الدول المعنية المغرب والجزائر ومصر وتونس، بحسب ترتيب حجم التجارة.

المغرب: أفاد تقرير لمكتب الصرف المغربي أن أوروبا هي الشريك التجاري الأول للرباط بنحو 72 مليار يورو (85 مليار دولار)، تمثل 62 في المئة من إجمالي التجارة الخارجية، يهيمن عليها الاتحاد الأوروبي بنسبة 87 في المئة. ويُعتبَر المغرب أكبر الشركاء التجاريين مع السوق الأوروبية المشتركة وأقدمها منذ عام 1969، ويتوفر على "الوضع المتقدم" في الشراكة الأوروبية المتوسطية. وسجل فائضا في صادراته الصناعية مثل السيارات وأجزاء الطائرات، إضافة إلى السياحة (أكثر من 17 مليون وافد عام 2024) والتحويلات (أكثر من 12 مليار يورو أو 14 مليار دولار). أما تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر فتراوحت بين 1.5 وثلاثة مليارات دولار سنويا في الأعوام الأخيرة.

تجد أوروبا نفسها اليوم أمام تحديات داخلية وخارجية: ضعف النمو، الضغوط الأميركية والصينية، وفقدان الثقة في الحلفاء، في مقدمهم الولايات المتحدة. ويعكس مشروع السوق المتوسطية سعيها إلى استعادة مكانتها عبر التعاون مع جيرانها الجنوبيين

الجزائر: تُعتبر ثاني أهم شريك تجاري للاتحاد الأوروبي في شمال أفريقيا بنحو 46.4 مليار يورو (54 مليار دولار)، في مقدمها الطاقة (12 مليار يورو أو 14 مليار دولار نحو إيطاليا، وسبعة مليارات يورو أو 8.2 مليار دولار نحو فرنسا، وستة مليارات يورو أو سبعة مليارات دولار نحو إسبانيا). لكنها تشهد خلافات مع بروكسيل في شأن القيود على الاستثمارات والتجارة، إضافة إلى إجراءات العملة: منحة سفر مصرفية تساوي 750 يورو سنويا، بينما يسمح القانون بحمل 7,500 يورو مع إثبات المصدر.

مصر: دولة محورية بفضل موقعها الجغرافي وقناة السويس وصلاتها بالخليج وإسرائيل. وبلغت المبادلات التجارية مع الاتحاد الأوروبي 32.5 مليار يورو (38 مليار دولار) عام 2024. ومن المتوقع أن تحصل على مساعدة مالية بقيمة أربعة مليارات يورو من ضمن حزمة تبلغ 7.4 مليارات. وهي عضو مؤسس في "الاتحاد من أجل المتوسط" ومعاهدة أغادير (مع المغرب وتونس والأردن ومصر، التي انضم إليها لبنان وفلسطين عام 2020).

Shutterstock
أعلام الاتحاد الأوروبي ترفرف خارج مقر المفوضية الأوروبية

تونس وليبيا: يمثلان ملف الهجرة غير الشرعية، إذ يكلف الاتحاد الأوروبي إيطاليا متابعة هذا الملف عبر التعاون الاقتصادي والأمني. وتسجل تجارة تونس مع الاتحاد نحو 25 مليار يورو (29 مليار دولار)، وتحقق فائضا بمليار يورو.

إسرائيل: بلغت تجارتها مع الاتحاد الأوروبي 42.6 مليار يورو (50.5 مليار دولار) عام 2024، لكنها تظل محدودة مقارنةً بالعلاقات الأوروبية مع الدول العربية. وتمر العلاقات السياسية بمرحلة فتور بسبب حرب غزة، فيما تعزز أوروبا مواقفها المؤيدة لحل الدولتين.

في الختام، تجد أوروبا نفسها اليوم أمام تحديات داخلية وخارجية: ضعف النمو، الضغوط الأميركية والصينية، وفقدان الثقة في الحلفاء، في مقدمهم الولايات المتحدة. ويعكس مشروع السوق المتوسطية سعيها إلى استعادة مكانتها عبر التعاون مع جيرانها الجنوبيين. لكن نجاح هذا المشروع سيعتمد على تجاوز العقبات السياسية والاقتصادية المزمنة، وعلى قدرة الطرفين على بناء شراكة متوازنة ومستدامة.

font change

مقالات ذات صلة