افتتحت الأمم المتحدة في الأسبوع الماضي النقاش العام رفيع المستوى في الجمعية العامة، حيث اجتمع رؤساء الدول ورؤساء الوزراء ووزراء الخارجية من مختلف أنحاء العالم لمناقشة التحديات العاجلة. ولم يكن ذلك مجرد انطلاق لدورة جديدة من أعمال الجمعية العامة، بل شكّل أيضا محطة تاريخية، إذ يصادف هذا العام الذكرى الثمانين لتأسيس المنظمة. وقد عكس هذا الحدث حالة الجمود التي تطغى على المجتمع الدولي في مواجهة القضايا الملحة، مثل الحروب المستمرة في غزة وأوكرانيا، وتغير المناخ، وانعدام المساواة.
ووسط وفود الرؤساء ورؤساء الحكومات والوزراء الذين جابوا أروقة الأمم المتحدة، ومع ازدحام حركة المرور في وسط مانهاتن، ظهر وفد جديد أضفى على الأسبوع طابعا تاريخيا. تقدّم هذا الوفد الرئيس السوري أحمد الشرع، يرافقه فريق من المقاتلين السابقين في المعارضة السورية، وقيادات من المجتمع المدني، وأكاديميون. وكان وجوده في نيويورك بمثابة لحظة فاصلة. فحتى ديسمبر/كانون الأول الماضي، لم يكن الشرع معروفا إلا باسمه الحركي، أبو محمد الجولاني، قائد "هيئة تحرير الشام"، الجماعة المسلحة المصنّفة منذ سنوات على قوائم الإرهاب. وحتى وقت قريب، كان الجولاني يظهر متجولا على متن دراجته النارية، في محافظة إدلب، آخر المعاقل الخارجة عن سلطة الأسد. غير أن الأشهر الأخيرة قلبت المشهد رأسا على عقب، فقد خلع بزته العسكرية، وارتدى بدلات رسمية أنيقة، وأطاح بنظام بشار الأسد في هجوم خاطف، ليعيد تقديم نفسه كزعيم برغماتي بوجه جديد. ولسنوات، رصدت الولايات المتحدة مكافأة قدرها عشرة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى اعتقاله. أما اليوم، فقد بات يدخل قاعات الأمم المتحدة بصفته رئيسا لسوريا، بعد أكثر من نصف قرن من الحكم الدموي لعائلة الأسد، ليصافح قادة العالم الذين كانوا يرونه يوما متطرفا ميؤوسا منه. ورغم الترحيب الذي حظيت به الحكومة السورية في نيويورك، فإن محاولات عرقلة رفع العقوبات بشكل كامل ألقت بظلالها على مساعي دمشق لإحكام شرعيتها والسعي إلى تقارب أوسع مع المجتمع الدولي.
لحظة تاريخية في نيويورك
لم يكن تحوّل الشرع مجرد مفاجأة، بل تحوّل إلى العنوان الأبرز الذي هيمن على الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة. وجاء أول ظهور علني له في إطار ندوة ضمن قمة "كونكورديا"، أدارها الجنرال ديفيد بترايوس، القائد السابق للقيادة المركزية الأميركية ووكالة الاستخبارات المركزية، والذي سبق أن قاد الجهود الرامية إلى القضاء على "هيئة تحرير الشام". ولم يغفل بترايوس المفارقة البارزة، إذ قال: "كنا خصمين عندما قدتُ الحملة في العراق. لقد اعتقلتك القوات الأميركية لمدة خمس سنوات... وها أنت اليوم تجلس أمامي رئيسا لسوريا".