سنتان على "7 أكتوبر"... إيران و"محورها" أبرز الضحايا

عاصفة أشعلها حليف طهران ساهمت في تفكك "محور الممانعة" وغيرت مسار إيران ذاته

نسمة محرم
نسمة محرم

سنتان على "7 أكتوبر"... إيران و"محورها" أبرز الضحايا

بعد ساعات فقط من بدء هجمات "حماس" الدامية على إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بدا واضحا كلّ الوضوح أنها ستزلزل الشرق الأوسط كما لم يفعل أي حدث مماثل منذ سنوات. لقد فاجأت الهجمات إسرائيل التي لم تكن مستعدة لها، فعجزت عن الرد في الوقت المناسب، وقُتل مئات المدنيين الإسرائيليين، وتجاوز عدد الضحايا ما تكبدته إسرائيل خلال سنوات الانتفاضة الثانية الخمس بين عامي 2000 و2005. وكان من المتوقع أن ترد إسرائيل بضراوة على غزة، لكن قلة توقعت أن تأخذ الحرب الجديدة طابع إبادة جماعية بهذا الحجم. كما لم يكن من السهل التنبؤ بمدى اتساع التداعيات غير المقصودة لهذا الحدث، والتي امتدت لتطال المنطقة والعالم بأسره على المستويات السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وفي أي مقارنة حول أكثر الدول تأثرا من ذلك الحدث، نجد أن إيران تجلس في المقدمة. ففي غضون عامين فقط، شهدت البلاد تغيرات جذرية، ليس فقط في توجهاتها الخارجية، بل في مسارها الداخلي أيضا.

ولم تتأخر تداعيات الحدث كثيرا في طهران، فعقب الهجمات مباشرة، اندلع جدل حول الدور المحتمل لإيران فيها. لقد كانت الجمهورية الإسلامية على الدوام الدولة الوحيدة ذات الثقل التي تقدم الدعم العسكري والسلاح لـ"حماس"، إلا أن الكثير من المؤشرات ترجّح أن قرار تنفيذ هجمات السابع من أكتوبر اتخذته قيادة الحركة في غزة، وعلى رأسها يحيى السنوار، بمفردها من دون الرجوع إلى طهران. والمرجح أن إسرائيل، التي تخترق عمق أجهزة الاستخبارات الإيرانية، كانت ستلتقط أي خطة تُعدّها طهران. علاوة على ذلك، لا يبدو أن المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، يملك الجرأة الكافية لإعطاء أمر بمثل هذه الهجمات الجريئة. فهو، بطبيعته الحذرة، يفضل التحركات غير المباشرة. ومهما يكن من أمر فإن تداعيات تلك الهجمات قد ارتدت على طهران بشكل عميق وعلى مستويات متعددة، بغض الطرف عن دورها فيها.

رغم تقديم النظام الإيراني نفسه كأشد المدافعين عن القضية الفلسطينية، بدا عاجزا تماما أمام المجازر التي ارتكبتها إسرائيل بحق سكان غزة بعد السابع من أكتوبر

سقوط "المحور"

ساهمت الحرب الإسرائيلية المتوسعة في المنطقة، والتي شملت حتى الآن هجمات على سبع دول (فلسطين، لبنان، سوريا، العراق، اليمن، إيران، قطر)، في تفكيك "محور المقاومة" الإيراني، وهو تحالف من الميليشيات المناهضة للغرب شكّل لعقود مصدر فخر لسنوات حكم "المرشد الأعلى" علي خامنئي. وكانت إيران قد استثمرت موارد ضخمة ورصيدا دبلوماسيا كبيرا في تسليح وتمويل هذه الجماعات التي تزعم أنها تروّج لمبادئ "ثورة" عام 1979. وباستثناء حركة "حماس" السنيّة، كانت هذه الميليشيات شيعية، وقد استُخدمت كأدوات قمع في الحروب الأهلية الطائفية التي اجتاحت العالم العربي بعد عام 2011. وفي ذروة نفوذها، كانت طهران تتفاخر بسيطرتها على أربع عواصم عربية: بغداد، بيروت، دمشق وصنعاء.

لكن أحداث العامين الماضيين أطاحت بهذا "المحور". وعلى خلاف ما يروّجه الإسرائيليون، فإن انهياره لا يعود فقط إلى الضربات العسكرية الإسرائيلية، بل إلى انكشاف المأزق الاستراتيجي الإيراني، بالتوازي مع بروز مبادرات عربية جديدة على المستويين الإقليمي والوطني، نجحت في تقويض أجندة طهران وذراعها العسكرية الأبرز، الحرس الثوري الإيراني. فرغم تقديم النظام الإيراني نفسه كأشد المدافعين عن القضية الفلسطينية، بدا عاجزا تماما أمام المجازر التي ارتكبتها إسرائيل بحق سكان غزة بعد السابع من أكتوبر. لم يطلق صواريخه المزعومة، ولم يتدخل مباشرة في الحرب، بل زاد بأن منع "حزب الله" من فتح جبهة ثانية واسعة في الشمال. ومع ذلك، كان على النظام وحلفائه الحفاظ على بعض المظاهر الأيديولوجية؛ فكان خامنئي الزعيم الوحيد في العالم الذي أيّد هجمات السابع من أكتوبر بشكل صريح، ونفّذ "حزب الله" هجمات محدودة على إسرائيل. على أن هذه التحركات لم تؤدِّ إلا إلى استفزاز إسرائيل، التي ردّت بضربات متكررة على إيران وحلفائها في "المحور"، فاغتالت عددا من قيادات "حزب الله"، بينهم قائده الأعلى حسن نصرالله، وقتلت زعيم حركة "حماس"، إسماعيل هنية، على الأراضي الإيرانية، في حادثة شكلت إحراجا بالغا لطهران.

رويترز
سيدتان نازحتان تحمل إحداهما علم "حزب الله"، في جنوب لبنان، 18 فبراير 2025

تسببت الهزيمة العسكرية لـ"حزب الله" في عزله سياسيا داخل لبنان، حيث كان كثير من اللبنانيين يخوضون معركة ضد هيمنته منذ عام 2019 على الأقل. واليوم، يجد هؤلاء المعارضون لـ"الحزب" دعما متجددا، وقد تمكنوا من الدفع بانتخاب رئيسين جديدين للجمهورية والحكومة، أعلنا صراحة توجههما نحو الدول العربية وابتعادهما عن أجندة طهران. المشهد ذاته يتكرر في العراق، حيث باتت بغداد اليوم خارج دائرة النفوذ المباشر لإيران. أما في اليمن، فالوضع أكثر تعقيدا. إذ لا يزال الحوثيون، حلفاء إيران، يسيطرون على صنعاء ويشنّون هجمات جريئة على إسرائيل وعلى الملاحة الدولية. لكنهم أيضا في هدنة مع القوى اليمنية الأخرى ومع السعودية، الجارة الكبرى. وعلى الرغم من الروابط الأيديولوجية والسياسية الواضحة بين الحوثيين وطهران، يبدو أن الجماعة تستفيد من استقلالية نسبية فرضتها انشغالات إيران المتزايدة في مجالات أخرى.

تُضعف المعارضة الشديدة التي يبديها النظام الإيراني لـ"حل الدولتين" واستمراره في المطالبة بتدمير إسرائيل من مكانته في أي سيناريوهات ما بعد الحرب في فلسطين

أما الضربة الأكثر إيلاما لــ"المحور" وربما القاضية، فكانت سقوط نظام بشار الأسد في سوريا العام الماضي. فبعد أن فقد دعم "حزب الله" الذي انكفأ إلى الداخل اللبناني، انهار النظام السوري كبيت من ورق، وتمكن قائد المعارضة أبو محمد الجولاني من الانتقال بشكل لافت إلى منصب الرئاسة، ليصبح أحمد الشرع. وعلى الرغم من التحديات التي تواجه الإدارة الجديدة في دمشق، وعلى رأسها الضغوط الإسرائيلية ومحاولات زعزعة الاستقرار، فإنها لا تزال صامدة، فيما فقدت إيران أقوى حلفائها في بلاد الشام. ولا يمكن التقليل من حجم هذه الخسارة، فسوريا لم تكن مجرد حليف آخر، بل كانت ممرا استراتيجيا يربط طهران ببيروت، ونموذجا عمليا لفكرة "المحور"، وكانت فوق ذلك درّة تاج الجنرال قاسم سليماني، الذي حافظ على نظام الأسد، على حساب مئات آلاف الأرواح السورية، عبر تجنيد آلاف المقاتلين الشيعة من إيران وأفغانستان وباكستان والعراق وسوريا وغيرها. وقد كشف سقوط النظام هشاشة "محور  المقاومة"، ووجه ضربة نفسية قاسية لقاعدته الاجتماعية في إيران والعالم العربي.

نهاية فكرة "الدفاع المتقدم"

أدى "محور المقاومة" وظائف متعددة للنظام الإيراني. فبالنسبة للمؤمنين بـ"الثورة"، قدّم النظام الإيراني هذا "المحور" كجيش إسلامي ينشر مبادئ خامنئي خارج الحدود. أما للوطنيين، فقد رُوّج له كدليل على عبقرية خامنئي الاستراتيجية، ضمن سياسة "الدفاع المتقدم". فطالما أن الولايات المتحدة وإسرائيل منشغلتان بمحاربة رؤوس الهيدرا التابعة للمحور، فإنهما لن تستهدفا، بحسب سردية النظام، إيران مباشرة.

لكن هذا الطرح كان على الدوام يحمل في داخله خللا كبيرا، لأنه لم يجب يوما عن السؤال الجوهري: لماذا ينبغي لإيران أن تدخل في صراعات مع إسرائيل أو الولايات المتحدة أو الأنظمة العربية أصلا؟ وحدها الهواجس الأيديولوجية لخامنئي تبرر ذلك، لا أي تصور لمصلحة وطنية أو أمن استراتيجي. ومع تفكك "المحور"، انهار وعد خامنئي القديم بأن إيران لن تشهد حربا، حتى ولو رفضت التفاوض مع الغرب. ففي العام الماضي، تبادلت إيران وإسرائيل إطلاق النار في مناسبات عدة. وفي وقت سابق من هذا العام، نقلت إسرائيل المعركة إلى الأراضي الإيرانية، وهاجمتها بضراوة فيما بات يُعرف بـ"حرب الأيام الاثني عشر"، عندما اغتالت قيادات بارزة في "الحرس الثوري" الإيراني، وقتلت معهم عشرات المدنيين الإيرانيين. وانضمت الولايات المتحدة إلى إسرائيل في المراحل الأخيرة من الحرب، مستهدفة منشآت نووية إيرانية بقنابل خارقة للتحصينات. وبعد أن شهدت إيران أيضا مناوشة مع باكستان، باتت متميّزة بأنها دولة تتعرض لهجمات من ثلاث قوى نووية خلال عام واحد.

"حل الدولتين" وأعداؤه

تُضعف المعارضة الشديدة التي يبديها النظام الإيراني لـ"حل الدولتين" واستمراره في المطالبة بتدمير إسرائيل من مكانته في أي سيناريوهات ما بعد الحرب في فلسطين.

لقد بدا الحل الذي يقترحه النظام الإيراني للنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني على الدوام ضربا من الخيال السياسي. ففي وثيقة قدمها إلى الأمم المتحدة عام 2019، طالب بعودة جميع اللاجئين الفلسطينيين، على أن يلي ذلك استفتاء يشارك فيه سكان فلسطين التاريخية لتقرير مستقبل المنطقة، في محاولة ضمنية لإلغاء قيام دولة إسرائيل عام 1948، رغم أنها أُنشئت بقرار من الأمم المتحدة. وبينما يزعم النظام أن "المسلمين واليهود والمسيحيين"  يمكنهم التصويت في هذا الاستفتاء، فإن الوثيقة نفسها توضح أن هذا الحق يقتصر على من كانت لهم جذور في المنطقة قبل إعلان بلفور عام 1917. بمعنى آخر، سيُستثنى معظم اليهود الإسرائيليين من التصويت، ما يجعل هذا الطرح أقرب إلى المهزلة.

في سن السادسة والثمانين، يقف "المرشد الأعلى" علي خامنئي على أعتاب نهاية حياته، ومن المرجح أن تثير وفاته أزمة خلافة

في المقابل، أظهرت الدول العربية موقفا موحدا نسبيا في إدانة المجازر الإسرائيلية في غزة، إلى جانب دعمها القوي لحل الدولتين ودولة فلسطين. وقد أفضى التعاون الفرنسي-السعودي إلى إعلان نيويورك التاريخي في سبتمبر/أيلول، الذي توج بقمة أممية تعهدت خلالها قوى كبرى مثل فرنسا والمملكة المتحدة وكندا بالاعتراف بدولة فلسطين، الذي أدى إلى موجة اعترافات دولية واسعة وصلت الى 157. ولم يصوّت ضد الإعلان سوى عشر دول، بينها إسرائيل والولايات المتحدة، بينما امتنعت إيران عن التصويت. وأوضحت البعثة الإيرانية الدائمة لدى الأمم المتحدة في بيان رسمي أن سبب معارضتها للإعلان يعود إلى إدانته لهجمات السابع من أكتوبر.

رويترز
المرشد الإيراني علي خامنئي يلتقي برئيس المجلس السياسي لحركة "حماس"، محمد إسماعيل درويش، وكبار مسؤولي "حماس"، في طهران، إيران، 8 فبراير 2025

أما الدول العربية التي سبق أن طبّعت علاقاتها مع إسرائيل، مثل الإمارات العربية المتحدة، فقد أبدت دعما واضحا لدولة فلسطين ورفضا للحرب الإسرائيلية. وتجلى التماسك العربي الجديد في الدعم القوي الذي قدمته السعودية والإمارات لقطر عقب الهجوم الإسرائيلي على الدوحة في سبتمبر/أيلول. وبما أن النظام الإيراني قد لعب على الدوام على الانقسامات الداخلية في العالم العربي واستغلها لتحقيق مكاسب، فإن هذا التوحد العربي الجديد يتعارض مع مصالحه.

وبمعنى ما، تبدو إيران وإسرائيل اليوم وكأنهما دولتا "الرفض" الوحيدتان في المنطقة، وهما تقفان في مواجهة الإرادة الدولية المعلنة. ومهما يكن مستقبل غزة وفلسطين، فإن الدول العربية هي من سيلعب الدور المحوري، بعدما أقصت إيران نفسها من المعادلة بسبب مواقفها المتطرفة.

تداعيات داخلية

كان من الطبيعي أن تؤدي الانتكاسات الإقليمية والاستراتيجية إلى تداعيات داخلية واسعة في إيران. ففي سن السادسة والثمانين، يقف "المرشد الأعلى" علي خامنئي على أعتاب نهاية حياته، ومن المرجح أن تثير وفاته أزمة خلافة. قبل عام 2023، كان خامنئي لا يزال قادرا على الادعاء بتحقيق بعض النجاحات في استراتيجياته، فعلى الرغم من التحديات الاقتصادية والعزلة الدولية الخانقة، كان يستطيع أن يروّج لإنجازه المتمثل في تطويق إسرائيل بـ"طوق من نار"، كما كان يقول.

شهدت إيران بعد 7 أكتوبر تغيرا في توازن القوى داخل النظام. فبزشكيان ولاريجاني، اللذان استُبعدا من انتخابات 2021، يشغلان اليوم منصبي رئيس الجمهورية ومستشار الأمن القومي على التوالي

وكان إلى ذلك يحافظ على سيطرته السياسية داخل البلاد، وقد أقصى التيار الإصلاحي وركّز السلطة في يد المتشددين وسحق موجات الاحتجاج الشعبي في أعوام 2017، 2019–2020، و2022–2023.

لكن الانتكاسات الإقليمية الكبرى خلال العامين الماضيين قلبت المعادلة. فقد جعلت الهجمات على الأراضي الإيرانية القلق يتزايد لدى قطاعات من النخب الاقتصادية والعسكرية، التي تسعى للحفاظ على امتيازاتها في مرحلة ما بعد خامنئي. وبعبارة أخرى، بات استمرار سياسات خامنئي يهدد مصالحهم، فبدأوا يتحركون ضده.

وكان خامنئي قد بدأ يدرك بنفسه أنه ضيّق قاعدته كثيرا عبر الاعتماد الحصري على المتشددين، فسعى إلى توسيعها. وهذا ما يفسّر السماح للسياسي الإصلاحي مسعود بزشكيان بالمشاركة في الانتخابات الرئاسية العام الماضي، عقب حادثة تحطم المروحية الغامضة التي أودت بحياة الرئيس المتشدد إبراهيم رئيسي. وكان رئيسي قد انتُخب عام 2021 في أكثر انتخابات رئاسية تقييدا منذ تسعينات القرن الماضي، حيث مُنع التيار الإصلاحي لأول مرة منذ عقود من تقديم مرشحيه الأساسيين (مثل بزشكيان)، وتعدى الحظر الإصلاحيين إلى الوسطيين، كعلي لاريجاني، فتم استبعادهم.

لكن إيران ما بعد السابع من أكتوبر شهدت تغيرا في توازن القوى داخل النظام. فبزشكيان ولاريجاني، اللذان استُبعدا من انتخابات 2021، يشغلان اليوم منصبي رئيس الجمهورية ومستشار الأمن القومي على التوالي.  ورغم أن ذلك لا يمثل عودة كاملة للإصلاحيين الذين لا يزالون يواجهون التضييق والملاحقة القضائية، فإنه يشير إلى تحول كبير في مراكز النفوذ داخل إيران. ويمكن استنتاج أن التداعيات غير المقصودة لهجمات السابع من أكتوبر قد ساهمت في تعزيز موقع التيار البرغماتي الوسطي داخل النظام.

في السابع من أكتوبر، احتفى خامنئي وأنصاره بهجمات "حماس" على إسرائيل لما ألحقته من أضرار غير مسبوقة بها. لكن بعد مرور عامين، بات واضحا أن خامنئي وسياساته كانوا من أبرز ضحايا تداعيات تلك الهجمات. فلم تكن تلك ضربة استراتيجية ناجحة لـ"حماس" أو  لـ"محور المقاومة" بل كانت نهاية لمسارهم، الذي ثبت إفلاسه وعجزه عن تحقيق السلام للفلسطينيين أو لشعوب المنطقة.

font change

مقالات ذات صلة