عبد الغفور كوناتدي يتحدث لـ"المجلة" عن الجسور بين الثقافتين العربية والهندية

شارك في فعاليات المؤتمر السنوي الدولي الرابع "الصناعة المعجمية العالمية" في الرياض

البروفسور عبد الغفور الهدوي يقدم ورقته البحثية في المؤتمر السنوي الدولي الرابع "الصناعة المعجمية العالمية" في الرياض

عبد الغفور كوناتدي يتحدث لـ"المجلة" عن الجسور بين الثقافتين العربية والهندية

في عصر يتسارع فيه إنتاج المعرفة العلمية عالميا، تبرز اللغة العربية كوعاء حضاري قادر على استيعاب المستجدات العلمية والتقنية. وتأتي المملكة العربية السعودية في طليعة الدول الداعمة للعربية، حيث يلعب مركز الملك سلمان العالمي للغة العربية دورا محوريا في ترسيخ مكانتها.

ومن الأصوات الأكاديمية البارزة في هذا المجال البروفسور الهندي عبد الغفور الهدوي كوناتدي، الأستاذ المساعد في قسم اللغة العربية في كلية تونجان الحكومية التابعة لجامعة كالكوت جنوب الهند، الذي يرى أن مستقبل "الصناعة المصطلحية العربية يواجه تحديات حقيقية تتطلب الابتكار لمواكبة التطورات السريعة مثل الذكاء الاصطناعي". ويعد كوناتدي من أبرز الوجوه العلمية المعنية بالحوار الثقافي العربي- الهندي، ومن المهتمين بإعادة بناء جسور التواصل بين الثقافتين في ضوء التحولات الأكاديمية المعاصرة في دراسة العالمين العربي والإسلامي.

"المجلة" التقته خلال فعاليات المؤتمر السنوي الدولي الرابع، "الصناعة المعجمية العالمية: التجارب، الجهود، والآفاق" الذي انعقد في الرياض يومي 6 و7 أكتوبر/تشرين الأول 2025، تحت شعار "صناعة معجمية للعربية بآفاق عالمية".

ما الذي دفعكم لاختيار "معجم مصطلحات كوفيد-19" الصادر عن "الألكسو" بشكل خاص كحالة دراسة تطبيقية؟ وهل ترون أن استجابة المؤسسات اللغوية الرسمية للجائحة كانت بالمستوى المطلوب من حيث السرعة والدقة؟

اختياري لـ"معجم مصطلحات كوفيد-19" لم يأت مصادفة، بل لأنه يمثل أول استجابة عربية مؤسسية شاملة لطارئ لغوي وعلمي عالمي بهذا الحجم. فقد وضع هذا المعجم في ظرف استثنائي يتطلب سرعة في التوليد ودقة في الخضوع للقواعد، وهو ما جعله مختبرا حيا يمكن من خلاله قياس كفاءة الصناعة المصطلحية العربية تحت الضغط. لقد حاول المعجم أن يوازن بين الأمانة العلمية والأصالة اللغوية، وهو جهد يستحق التقدير. ومع ذلك، فإن سرعة الاستجابة لم تكن دائما مقرونة بالتوحيد أو التداول الواسع، مما يكشف عن حاجة المؤسسات اللغوية العربية إلى مزيد من التنسيق والتكامل في مواجهة الأزمات المصطلحية الطارئة.

تراكيب وصفية معقدة

كشفت دراستك المقدمة الى المؤتمر أن آلية "التركيب" هيمنت على صوغ مصطلحات المعجم بنسبة تفوق 80%، هل يعكس هذا الإفراط في الاعتماد على التركيب قصورا في الآليات الأخرى كالانشقاق والنحت، أم أنه الخيار الأمثل لطبيعة المصطلحات العلمية المركبة؟

هيمنة آلية التركيب بهذه النسبة الكبيرة لا تعد بالضرورة ضعفا في الآليات الأخرى، بل هي، إلى حد كبير، انعكاس لطبيعة المصطلحات العلمية الحديثة التي تميل إلى التراكيب الوصفية والمعقدة. فالمفاهيم الطبية والصحية – كـ"العزل الصحي" و"ضعف التنفس" و"كمامة الوجه" – بطبيعتها تتطلب بناء وصفيا يحدد العلاقة بين المكونات. ومع ذلك، فإن الإفراط في التركيب قد يضعف مرونة المصطلح ويحد من قابليته للتداول، خاصة بين الأوساط المتخصصة. لذلك أرى أن التوازن هو الحل الأمثل: ينبغي توظيف الاشتقاق والنحت والتوليد الدلالي كلما أمكن، لأنها تمنح المصطلح العربي قوة في الاختصار وسلاسة في الاستعمال، دون التفريط في الدقة العلمية.

أشرت في الدراسة إلى "المفارقة المركزية" المتمثلة في محاولة التوفيق بين الأصالة اللغوية والانفتاح على المصطلحات العالمية. كيف يمكن تحقيق هذا التوازن الدقيق عمليا دون الوقوع في براثن الجمود اللغوي أو الذوبان في المصطلح؟

هذه المفارقة بين الأصالة والانفتاح هي جوهر معركة اللغة في العصر الحديث. فالعربية لا تطالب بالانغلاق، بل بالتمكن الواعي من ذاتها قبل أن تنفتح على الآخر.

تعزيز التعاون بين المجامع اللغوية والمؤسسات العلمية ليس مجرد توصية نظرية، بل يمكن تحويله إلى برامج عمل ملموسة

 التوازن يتحقق حين نجعل الآليات الداخلية للغة، كالاشتقاق والنحت والتوليد الدلالي، هي نقطة الانطلاق، مع إتاحة المجال للاقتراض حين تستعصي المقابلات العربية المناسبة أو تتعقد المفاهيم. المطلوب إذن هو تعريب منضبط لا استنساخ أعمى، واستثمار ذكي في مرونة النظام الصرفي العربي. وعندما تعمل المجامع اللغوية بتنسيق مؤسسي موحد، وتختبر المصطلح في التداول الواقعي قبل إقراره، يمكن العربية حينها أن تحافظ على هويتها وتؤدي دورها الحضاري في التواصل العلمي العالمي.

كتاب "علم العروض العربي قديما وحديثا"

 

الفجوة التداولية

لاحظت دراستك، وجود فجوة بين الصوغ النظري للمصطلحات في المعجم وتداوله العملي في الخطابين الإعلامي والعلمي. ما الأسباب الجذرية لهذه الفجوة؟ وكيف يمكن جسرها لجعل المصطلحات المقترحة أكثر حيوية وانتشارا؟

تنشأ الفجوة بين المصطلح المولد وممارسته التداولية غالبا من غياب حلقة الوصل بين اللغوي والممارس الميداني. فالمجامع والمؤسسات اللغوية تضع المصطلحات وفق معايير علمية دقيقة، لكن في كثير من الأحيان، تسبقها إلى الميدان كلمات مقترضة أو مصطلحات غير دقيقة يشيعها الإعلاميون. فهؤلاء الإعلاميون أصبحوا اليوم في طليعة من يواجه الحاجة إلى مقابلات عربية للمفاهيم المستجدة، بحكم سرعتهم في نقل الأخبار وإنتاج المحتوى. ولردم هذه الهوة، لا بد من نموذج تشاركي يجمع اللغويين والإعلاميين في فرق عمل موحدة، تعمل على تتبع المفاهيم المستجدة عالميا، ثم وضع مصطلحات عربية دقيقة، وتعميمها بين المجتمع قبل أن تستقر البدائل الأجنبية أو غير الدقيقة في التداول العام. وفي هذا السياق، ينبغي استثمار المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي لترويج المصطلحات الجديدة وقياس مدى انتشارها. ومن المهم أن نذكر أن المصطلح لا يعيش في المعجم وحده، بل في وعي المجتمع العام.

غلاف كتاب "التعريب والتوليد"

أثناء تحليلكم للمصطلحات، ما هو المصطلح الذي رأيتموه أنجح نموذج للابتكار المصطلحي العربي الذي يجمع بين الدقة والسلاسة؟ وعلى العكس، ما المصطلح الذي ترونه أكثر إشكالية ويحتاج إلى مراجعة، ولماذا؟

هناك مصطلحات كثيرة رائعة تتصف بالدقة والانسجام الصرفي. على سبيل المثل، كلمة "العاثية" كمقابل لـ Bacteriophage، فهو اشتقاق أصيل من الجذر "عثي" بمعنى أفسد، صيغ بذكاء على وزن اسم الفاعل ليعبر بدقة عن الفيروس الذي يهاجم البكتيريا ويفسدها. ومن هذا القبيل أيضا كلمات مثل "المنفاس" بمعنى (Respirator) و"المنفسة" بمعنى (Ventilator)، كلاهما من نفس الجذر، لكنهما وردا بصيغتين للدلالة على مفهومين. وهذا يبرز طاقة العربية في التوليد الخلاق دون استعارة أجنبية. أما السؤال عن المصطلح الأكثر إشكالية واحتياجا إلى المراجعة، فلا أجد شيئا من هذا القبيل، لأن هذا المعجم وضع على أيدي كبار العلماء واللغويين في العالم العربي. ومع ذلك، كنت أتفكر في قدرة اللغة العربية على توليد كلمات عربية فصيحة لبعض المفاهيم بتوظيف آليتي الاشتقاق والنحت. على سبيل المثل، اسم مرض "كوفيد"، اقترضته اللغة العربية مباشرا من الإنكليزية. وهذا الاسم كما نعرف منحوت من المركب الإنكليزي Corona Virus Disease. وعندما اقترضته اللغة العربية لم تخضع لتكييف صوتي أو صرفي عربي، مما يجعلها ثقيلة على اللسان وغير قابلة للاشتقاق حسب القواعد العربية. وحسب رأيي المتواضع، كان من الممكن توظيف النحت في هذا الصدد، وتعريف مقابل عربي للدلالة على هذه الجائحة، مثل (مفك – منحوت من مرض فيروس كوفيد) أو (مفت – مختصر مرض فيروس تاجي).

دور التكنولوجيا

أوصت دراستك بالاستفادة من التقنيات الحديثة كالذكاء الاصطناعي في الرصد اللغوي. هل يمكنك توضيح رؤيتكم لكيفية توظيف هذه التقنيات بشكل عملي لخدمة الصناعة المصطلحية وتسريع عملية توحيد المصطلحات ونشرها؟

الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة تمثل فرصة ذهبية لدعم الصناعة المصطلحية العربية وتسريع عملية توحيد المصطلحات ونشرها. فباستخدام أدوات معالجة اللغة الطبيعية، يمكن رصد المصطلحات الجديدة في النصوص العلمية والإعلامية تلقائيا، مع تحليل سياقاتها الدلالية، مما يوفر قاعدة بيانات دقيقة للمتخصصين. كما يمكن الذكاء الاصطناعي اقتراح مكافئات عربية دقيقة للمصطلحات الأجنبية، مع مراعاة الخصائص الصرفية والدلالية للغة، مما يخفف العبء على اللغويين ويزيد سرعة الاعتماد.

التطورات العلمية السريعة، مثل الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحيوية، تفرض على اللغة العربية أن تتفاعل بسرعة مع مصطلحات جديدة ومتغيرات معرفية مستمرة

 والأهم من ذلك، نستطيع بناء منصات تفاعلية تمكن الباحثين والمترجمين من الاطلاع على المصطلحات ومناقشتها قبل توحيدها، مما يعزز المشاركة المجتمعية في صناعة اللغة.

كما تسمح هذه التقنيات برصد مدى انتشار المصطلح بعد اعتماده، لتوفير تغذية راجعة دقيقة تساعد في تحسين استراتيجيات وضع المصطلحات مستقبلا، بما يضمن أن تظل اللغة العربية حية ومواكبة للعصر.

إحدى توصياتك المهمة كانت "تعزيز التعاون بين المجامع اللغوية والمؤسسات العلمية". كيف يمكن ترجمة هذه التوصية إلى برامج عمل ملموسة، خاصة في ظل تعدد المرجعيات اللغوية في العالم العربي؟

تعزيز التعاون بين المجامع اللغوية والمؤسسات العلمية ليس مجرد توصية نظرية، بل يمكن تحويله إلى برامج عمل ملموسة تخدم اللغة العربية بشكل مباشر. أولا، يمكن تأسيس لجان مشتركة تضم لغويين وعلماء من مختلف الدول العربية، تكون مهمتها رصد المصطلحات الحديثة وتبادل الخبرات، مع وضع معايير واضحة لاعتماد المصطلحات الجديدة.

ثانيا، تمثل المنصات الرقمية المشتركة أداة فعالة لتوحيد الجهود، حيث تجمع مقترحات المصطلحات، وتتيح مناقشتها ومراجعتها بشكل تفاعلي، مما يقلل التكرار والتضارب بين المرجعيات المختلفة.

ثالثا، تعد ورش العمل وبرامج التدريب ركيزة أساسية، لتعريف المترجمين والباحثين بأساليب توحيد المصطلحات وتعزيز ثقافة الحوار بين اللغويين والعلماء. وكذلك، يمكن إطلاق مشاريع بحثية مشتركة لرصد انتشار المصطلحات بعد اعتمادها، وتقييم أثرها العملي، مما يضمن أن تبقى صناعة المصطلحات العربية حيوية ودقيقة.

 واس
المؤتمر السنوي الدولي الرابع لمجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية

الرؤية المستقبلية

في ضوء نتائج دراستك، كيف تتطلع إلى مستقبل الصناعة المصطلحية العربية؟ هل أنت متفائل بقدرتها على مواكبة الثورات العلمية المقبلة (الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحيوية)، أم أننا بحاجة إلى تغيير جذري في النموذج القائم؟

نعم، أنا متفائل بمستقبل الصناعة المصطلحية العربية، لكنها تواجه تحديات حقيقية تتطلب اليقظة والابتكار. التطورات العلمية السريعة، مثل الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحيوية، تفرض على اللغة العربية أن تتفاعل بسرعة مع مصطلحات جديدة ومتغيرات معرفية مستمرة. ولحسن الحظ، لا نحتاج بالضرورة إلى تغيير جذري في النموذج القائم، بل إلى تطويره وتحديث أدواته بما يتوافق مع العصر الرقمي. هذا يشمل اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي لرصد المصطلحات الجديدة وتحليل استخدامها، وإنشاء منصات رقمية تتيح التعاون بين المجامع اللغوية والمؤسسات العلمية، وتسهيل المشاركة المجتمعية في اعتماد المصطلحات. إذا نجحنا في دمج الخبرة اللغوية مع الإمكانات التقنية، فستتمكن العربية من مواكبة الثورة العلمية القادمة، مع الحفاظ على دقتها وثراء مفرداتها، حتى تصبح اللغة قادرة على التعبير عن كل جديد، ومواكبة كل تطور معرفي عالمي.

شعار المؤتمر

كيف تقيم الدور الذي تضطلع به المملكة العربية السعودية في تعزيز إنتاج المعرفة ونشرها عالميا، خصوصا من خلال مؤسساتها الأكاديمية والثقافية التي تسعى لبناء جسور فكرية بين الشرق والغرب؟

لا شك في أن المملكة العربية السعودية تؤدي اليوم دورا محوريا في تعزيز إنتاج المعرفة ونشرها عالميا، انطلاقا من رؤيتها الطموحة التي تجعل من الثقافة والمعرفة ركيزتين للتنمية والحوار الحضاري.

المملكة العربية السعودية تؤدي دورا محوريا في تعزيز إنتاج المعرفة ونشرها عالميا، انطلاقا من رؤيتها الطموحة التي تجعل من الثقافة والمعرفة ركيزتين للتنمية والحوار الحضاري

 فقد أسست المملكة منظومة متكاملة من المؤسسات الأكاديمية والثقافية، مثل مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، ومؤسسة الملك عبد العزيز للموهبة والإبداع – (الموهبة)، ومراكز البحوث الجامعية المتقدمة، التي تعمل على إنتاج المعرفة وتوطينها بلغات العالم. ويعد مجمع الملك سلمان العالم للغة العربية نموذجا رائدا في هذا المسار، إذ حقق خلال خمس سنوات من تأسيسه إنجازات كبيرة في تعزيز مكانة اللغة العربية ودعم انتشارها وتطورها، ليس في العالم العربي فحسب، بل في الدول الناطقة بغيرها أيضا.

واس
مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يختتم أعمال مؤتمره السنوي الدولي الرابع

ومن خلال هذه المؤسسات والمبادرات، تسعى المملكة إلى بناء جسور فكرية بين الشرق والغرب عبر المؤتمرات الدولية، وبرامج التبادل العلمي، والترجمة، ودعم الحوار الثقافي العابر للحدود.

إن هذا الحراك يعكس إيمان السعودية بأن المعرفة جسر إنساني مشترك يربط الشعوب، ويجعل من المملكة نموذجا عربيا في دمج الهوية الثقافية بالابتكار المعرفي في إطار رؤيتها الحضارية 2030.

font change

مقالات ذات صلة