الحرب على غزة... دور الفلسطينيين قبل مبادرة ترمب وبعدها

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يمسك بيد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) بالقدس في 13 أكتوبر 2025

الحرب على غزة... دور الفلسطينيين قبل مبادرة ترمب وبعدها

حيفا- بعد "مبادرة ترمب" لتسوية ممكنة لحرب غزة وبما يشمل وقف الحرب وويلاتها، ومع مرور عامين على بداية الحرب على غزة، تكثر التقييمات للحرب ونتائجها. ومن المفهوم والمبرر أن تقوم أحزاب وفصائل سياسية وعسكرية بإنتاج بيانات النصر، حتى وإن هُزمت واستسلمت، لكن من غير المنطقي أن يقوم مثقفون وأكاديميون بذلك، لأن دروس التجربة تذهب باتجاهين، إما الإمعان في تسويق الانتصار وبالتالي التمهيد لهزيمة أخرى وإما التعلم من التجربة لأجل الانطلاق نحو تجارب ومحاولات مختلفة قد تفضي إلى مستقبل مختلف.

إن ما حصل ويحصل في قطاع غزة هو كارثة إنسانية ووطنية وأخلاقية، ليس هنالك ما يليق وصفه بها غير ذلك، ومركبات الكارثة واضحة للعيان، ولا تبرير لمقولات إن الوقت لم يحن للتقييم. أي تقييم هذا الذي يحتاج لأكثر من آلاف التقارير ومليارات الصور الواضحة والشهادات المبثوثة على المنصات الاجتماعية والشبكات الإعلامية ببث حي ومباشر؟

إن الكارثة واضحة المعالم، إبادة جماعية، قتل جماعي، تطهير عرقي، تحويل البلد إلى مكان غير قابل للعيش الآدمي، من محو للبيوت والأحياء والمؤسسات وقتل للتجارة والاقتصاد والزراعة، وكل أوجه الحياة.

"حماس" التي بادرت إلى هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 بحسابات خاطئة وأرفقت الهجوم بتصريحات غيبية، كانت على علم مسبق بسيناريوهات الرد الإسرائيلي

إنها كارثة إنسانية بأبعاد غير مسبوقة في التاريخ الحديث، حتى عندما نستذكر هدم المدن الألمانية، وقصف هيروشيما ونغازاكي، فإننا نتحدث عن قصف بربري، لكنه جرى لأجل إخضاع دول ومجتمعات في حالة حرب، وكان لها أن تنتصر أو تقترب من ذلك، وعندما يتم استحضار الهولوكست اليهودي من قبل النازية وهو جريمة إنسانية نكراء بأبعاد تاريخية، إلا أن مركبات في المجتمعات الأوروبية، بما في ذلك الألمانية، قاومت الفعل النازي ورفضته. وهناك دول ذات وزن عالمي حاربت في جبهات الفعل النازي وكسرت شوكته. أين نحن من ذلك؟ ما هو ثقل الأصوات الإسرائيلية التي تحدّت فعل الإبادة والجرائم؟ أين هي القوى العربية والإسلامية والعالمية التي حاربت الوحش الإسرائيلي الذي أفلت من عقاله لينفّذ آلة القتل والإفناء؟

أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يمسك بيد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) بالقدس في 13 أكتوبر 2025

"حماس" التي بادرت إلى هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 بحسابات خاطئة وأرفقت الهجوم بتصريحات غيبية، كانت على علم مسبق بسيناريوهات الرد الإسرائيلي، وقد كتب ونشر عشرات المرات وبكل اللغات ومن قبل فلسطينيين وعرب وغيرهم عن إسرائيل وتوحشها واستعدادها لتنفيذ جرائم غير مسبوقة، وذكر المحللون، ومنهم مقربون من "حماس" التوحش الإسرائيلي في الضاحية الجنوبية لبيروت، وعن صعود اليمين الفاشي الجديد للسلطة في إسرائيل، وعن آلة إسرائيل العسكرية التي تتفوق على كل دول الشرق الأوسط مجتمعة، ورغم ذلك صدحت قيادات ومثقفو وقادة العمل العسكري بأفكار وبمقولات لا تأخذ في حساباتها كل ذلك، بل تُجري مؤتمرا تحت اسم "وعد الآخرة" وتوزع المناصب على قادتها في "فلسطين المحررة" قريبا من الصهاينة!

إنها قمة الاستهانة في التفكير والفعل، إنه النشاط والعمل الخالي من أي تفكير منطقي ومسؤول في تداعيات ذلك على الناس ومستقبلهم. "حماس" هُزمت بإعلانها قبول خطة ترمب التي تشمل نهاية دورها السياسي والعسكري وكل جوانبه الأخرى.

المسار السياسي التفاوضي، كما بدأ في أوسلو، وحتى قبلها، انهار نهائيا، والدولة الفلسطينية لم تعد هنالك إمكانية للوصول إليها ولم تعد قابلة للتنفيذ، والعودة وصلت إلى طريق مسدود، وبموافقة فلسطينية

طبعا هنالك إنجازات، إن صح التعبير، بعد الكارثة المهولة. فعلا حصل تغيير جدي في الرأي العام الدولي ضد إسرائيل وسياساتها، إسرائيل أصبحت منبوذة ومكروهة بشكل كبير جدا على مستوى الرأي العام، وحتى من قبل بعض القيادات التي بادرت إلى الاعتراف بدولة فلسطين كتعبير عن الاستياء والرفض للسياسات وللممارسات الإسرائيلية، طبعا لن تؤدي هذه الاعترافات إلى دولة، لأن إمكانية ذلك أصبحت في عداد الماضي، لكن هذا الغضب على السياسات الإسرائيلية هو تعبير عن استعداد شعبي عارم وعن استعداد رسمي وشعبي لمحاصرة إسرائيل دبلوماسياً وسياسياً واقتصادياً، وهذا يحصل فعلا. لكن هل هنالك حقا تفكير وعمل دبلوماسي وسياسي فلسطيني للاستفادة القصوى من ذلك، الجواب بالنفي... لا توجد أطر رسمية فلسطينية تعمل جديا وبشكل منظم للاستفادة من ذلك، والاستفادة تعني حماية هذا الإنجاز التاريخي وتعضيده وتأطيره ورعايته وتعظيمه ليكون أداة رادعة وداعمة للتغيير في فلسطين، من النهر إلى البحر، بما يشمل التصدي لأصوات خطيرة ومضرة تمجد فعل "حماس" في السابع من أكتوبر، أو تستعمل مفردات ضد اليهود بصفتهم يهودا، وحتى ضد الإسرائيليين بصفتهم هذه... المطلوب موقف واضح يشيد بالإنجازات العالمية ويفتح المجال لأفكار ومبادرات تحتضن اليهود والإسرائيليين المعادين لحكومتهم ولأفعال دولتهم، لا إبعادهم واستثناؤهم.

والإنجاز الأكبر، هو وضوح عجز الحركة الوطنية والسياسية الفلسطينية بفصائلها عن تقديم شيء جدي لشعبها، هذه الفصائل التي لم تجلس مع بعضها البعض ولو لمرة واحدة خلال عامي الحرب، لا تستحق شعبنا الفلسطيني ولا غزة وتضحياتها، إنه الفصل الأخير في تاريخ الفصائل التي قدمت الكثير، لكنها لم تقدم لشعبنا ما وعدته به منذ إقامة "منظمة التحرير"، لا تحرير ولا عودة ولا دولة، ولا حتى نصف دولة، بل إدارات خائبة وفاشلة وفاسدة، في رام الله كما في غزة، وفي أماكن سبقتها من "الحكم الفلسطيني".

وأهم ما حصل خلال الحرب على غزة كجزء مركزي في هذا الإنجاز، هو تبيان لا غبار عليه بأن الاستراتيجيات النضالية للفلسطينيين فشلت ووصلت إلى طريق مسدود. لا النضال السياسي الدبلوماسي قدم شيئا، ولا النضال المسلح أتى بنتيجة، ووصلت هاتان الاستراتيجيتان إلى طريق مسدود ونهائي.

المسار السياسي التفاوضي، كما بدأ في أوسلو، وحتى قبلها، انهار نهائيا، والدولة الفلسطينية لم تعد هنالك إمكانية للوصول إليها ولم تعد قابلة للتنفيذ، والعودة وصلت إلى طريق مسدود، وبموافقة فلسطينية. إن الاعترافات بالدولة ومساعي قيادة السلطة لذلك هي ذر للرماد في العيون، بل تغطّي على عجز قيادة "منظمة التحرير" التي وقعت على "أوسلو" ولا زالت تراهن على هذه الإمكانية، وتسعى إليها وكأنها لا زالت ممكنة، والحقيقة غير ذلك.

مبادرة ترمب والانفراج النسبي، على الأقل في القضايا المركزية المتعلقة بوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى من الطرفين، هي قضايا مهمة، لكنها ليست كافية

وأما طريق الكفاح المسلح التي بدأت مع إعادة ظهور الحركة الوطنية قبل ستة عقود ونيف، والتي تخلت عنها "منظمة التحرير" تدريجيا، بما في ذلك بعد "أوسلو"، وقامت "حماس" بتبنيها كاستراتيجية عمل أساسية مقابل إسرائيل، هي كذلك وصلت إلى طريق مسدود، ووصلت خلال الحرب على غزة إلى الانهيار الكامل. تكشف الأمر تدريجيا مع توضيح تداعيات الحرب على غزة، وعجز "المقاومة" عن الدفاع عن أهل غزة في مقابل الجرائم الإسرائيلية بما يشمل الإبادة والتطهير العرقي. ومع قبول "حماس" بمسار أو "خطة ترمب"، تكون قد سلمت نهائيا بأن الخيار العسكري لم يعد نافعا أبدا، بل جرّ الفلسطينيين إلى أعمق وأعقد أزمة في تاريخ الفلسطينيين بعد نكبتهم 1948.

مبادرة ترمب والانفراج النسبي، على الأقل في القضايا المركزية المتعلقة بوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى من الطرفين، هي قضايا مهمة، لكنها ليست كافية. إسرائيل لم تتغير والفلسطينيون لم يتغيروا، وهذا يعني أن الصراع سيستمر، وحول كل نقطة في مبادرة ترمب، وهذا الصراع قد يتعقد أكثر. والتغيير الجدي في الصراع، بما في ذلك إنجاز تغيير في الأداءين الفلسطيني والإسرائيلي هي شروط مسبقة يتطلب الوصول إليها الكثير لجهود من الأطراف التي تجابه السياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، هذه الجهات عربية وإسلامية ودولية وشعبية ورسمية، لن تستطيع التحرك جديا بغير إرادة فلسطينية وبغير مبادرة فلسطينية وهذا لا يحدث بغير تغيير فلسطيني داخلي.

أ.ف.ب
فلسطينيون يتوجهون إلى مدينة غزة عبر "ممر نتساريم" من النصيرات في وسط قطاع غزة في 11 أكتوبر 2025.

"الإنجازات" أعلاه تصبح مهمة وذات جدوى إذا استفاد منها الفلسطينيون في نضالهم من أجل جعل فلسطين التاريخية دولة ديمقراطية ومدنية، وذلك مرتبط بقدرتهم على بناء تصور مختلف جذريا عن الدولتين ومضامينها، ليس من خلال الانفصال، بل من خلال عملية إزالة آثار الاستعمار الاستيطاني في وطنهم فلسطين، بما يشمل اليهود الإسرائيليين، فهل يستطيعون ذلك؟ هذا السؤال الأساسي، وبعده يبقى سؤال آخر: هل يستطيع الفلسطينيون تطوير نضالهم بشكل يلائم ذلك؟ إنها ساعة الحقيقة من حيث تطوير نضال مدني حقيقي يسعى لاستنفار عربي وإسرائيلي ودولي ضد الأبرتهايد والفصل العنصري، ويرى في الفلسطينيين والإسرائيليين شركاء في وطن واحد وديمقراطي.

وهل يستطيعون تطوير صمودهم في سبيل ذلك من خلال إعادة الاعتبار للشعب الفلسطيني كمحرك أساسي للعمل الوطني، وليس من خلال تفرد القيادات والنخب؟ وأساسا كيف سيقدرون على المحافظة على إنجازات غزة ودمائها ومعاناة أهلها باتجاه كل ذلك؟ إنها الأسئلة التي يفكر بها الكثيرون ويعملون على معالجتها، لكنها لم تصل بعد إلى النضوج كفكرة سياسية رائدة، فهل نستطيع ذلك؟

font change

مقالات ذات صلة