سلام دونالد ترمب وشروط اللاعبين المنهكين

متغيرات كبيرة تجعل قدرة الفاعلين الصغار على التأثير في المشهد ضعيفة

رويترز
رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب في قمة شرم الشيخ لإنهاء حرب غزة، في شرم الشيخ، مصر، 13 أكتوبر 2025

سلام دونالد ترمب وشروط اللاعبين المنهكين

كان المشهد في الشرق الأوسط أمس الاثنين ضخما، لكنه وبالرغم من الصور الجماعية في الكنيست الإسرائيلي وفي شرم الشيخ، فإنه كان مشهد الرجل الواحد: دونالد ترمب. والأسئلة تبدأ من هنا: هل في استطاعة رجل واحد أن يفعل هذا كله؟ هل يمكن لرجل واحد أن يحقق السلام في غزة والأراضي الفلسطينية والمنطقة؟ وهي يمكن لـ"السلام بالقوة" أن يخلق سلاما حقيقيا؟

الأكيد أنه بالنسبة للقضية الفلسطينية فإنه ما عاد يمكن الحديث عن سلام بالمعنى التقليدي للكلمة، أي بما كانت تعنيه هذه الكلمة قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لسنا إذن في صدد سلام عادل وشامل، ولا في صدد "الحل النهائي" وفق المعنى القديم لهذه العبارة. فالحرب التي خلقت وقائع جديدة ليس في غزة وحسب بل وفي المنطقة ككل، فرضت مفاهيم جديدة ومعاني جديدة لمفردات مثل السلام.

ولعل المتغير الأساسي أن السلام لم يعد محصورا بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بل أصبح تعبيرا عن الهندسة الإقليمية الجديدة التي تدفع الولايات المتحدة باتجاهها، ومن ضمنها خلق ترتيبات أمنية وسياسية واقتصادية في غزة والضفة الغربية، أي إننا لسنا في عملية سلام قائمة على مبدأ "الأرض مقابل السلام"، أو عملية تعالج قضية اللاجئين، أو قضية القدس، بل إن أقصى ما تتضمنه هو انسحاب إسرائيل من غزة، ومن الأراضي التي احتلتها في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، ومن النقاط الخمس في جنوب لبنان، وأقصى ما تعد به هو عدم تهجير فلسطينيي غزة والضفة الغربية.

كل ذلك يستبعد مفردة حقوق من قاموس "السلام الجديد" الذي يعادل "الشرق الأوسط الجديد"، كمفهوم جيو- استراتيجي، يعكس موازين القوى الجديدة. أي إننا هنا لسنا في عملية تفاوض على حقوق الشعب الفلسطيني ولا على حق الشعبين السوري واللبناني في أرضه وسيادته، بل في صدد التأقلم مع الوقائع الجديدة، والتي لا يمكن النظر إليها بوصفها نهائية، وكأن "خطة الـ20" للرئيس ترمب هي الوصفة السحرية للسلام والازدهار في المنطقة التي ستنتقل بين عشية وضحاها من الحرب إلى السلام.

لا يمكن النظر إلى الاندفاعة الإسرائيلية لاستخدام القوة، على قاعدة أن ما لا يؤخذ بالقوة فبالمزيد من القوة، على أنها قادرة على تحقيق ما تريد من دون استنزاف نفسها بنفسها

ولعل استبعاد مبدأ الأرض مقابل السلام، واستبعاد أن تكون القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية، يعكس تطور القدرة الإسرائيلية، بعد الحرب على قطاع غزة، للتحكم بالمعطى الجغرافي، وبدعم أميركي صريح في انقلاب على كل التاريخ التفاوضي للولايات المتحدة في المنطقة، وهذا يحيل إلى كلام المبعوث الأميركي توماس باراك عن أن إسرائيل لم تعد تعترف بحدود سايكس–بيكو، ليس من ناحية الاستراتيجية الأمنية الجديدة لإسرائيل، بل من ناحية تأمين الولايات المتحدة غطاء فضفاضا لهذه الاستراتيجية، وبالتالي فإن الوحدة الجغرافية لدول المنطقة، لم تعد معطى ثابتا إلا بقدر تطابقها مع المصالح الإسرائيلية والأميركية، وهذا يمثل قطعا تاريخيا مع كل مشاريع الدولة الوطنية في المنطقة والتي انحصرت عمليا في مسألة الوحدة الجغرافية.

أ.ف.ب
لوحة إعلانية تحمل صور الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خارج مركز المؤتمرات قبل انعقاد قمة شرم الشيخ للسلام في منتجع شرم الشيخ المصري في 13 أكتوبر 2025

والحال فإن الانتقال من مفهوم الأرض مقابل السلام إلى مفهوم الأمن مقابل السلام، يقرأ حتى بالنسبة للمحللين العرب، باتجاه واحد، أي باتجاه أن إسرائيل مستعدة للسلام مقابل تحقيق شروطها الأمنية، ولكن الهجوم الإسرائيلي على الدوحة والذي مثل ذروة الاستراتيجية الحربية الإسرائيلية، أو المدى الأقصى الذي كان يمكن أن تصل إليه "اليد الطولى" لإسرائيل، شكل انقلابا في هذا المفهوم، وأنتج اتجاها آخر له، يتمثل في أن قبول دول المنطقة بالسلام مشروط بكف يد إسرائيل عن استهدافها، أو بصورة أعم بتقييد الاندفاعة الإسرائيلية لاستخدام القوة. وهذا أمر كان قد جرب في سوريا، وإن بسياق مختلف، بالنظر إلى هشاشة الوضع السوري في المعادلة الجديدة، بخلاف قطر التي تمتلك أدوات قوة تجعلها لاعبا رئيسا على الساحة الإقليمية بدعم أميركي، وإن كان الهجوم الإسرائيلي على الدوحة، قد طرح سؤالا رئيسا عما إذا كانت الدولة الخليجية بصدد إعادة تموضع، أقله جزئيا، على المدى البعيد.

لكن من جانب آخر، لا يمكن النظر إلى الاندفاعة الإسرائيلية لاستخدام القوة، على قاعدة أن ما لا يؤخذ بالقوة فبالمزيد من القوة، على أن إسرائيل قادرة على تحقيق ما تريد من دون استنزاف نفسها بنفسها. أي إن لهذه الاندفاعة، مهما بلغ زخمها، حدودا، وصلت إليها في الهجوم على الدوحة من حيث إن إسرائيل لم تكن قادرة على الذهاب أبعد من ذلك من دون أن تنعكس قوتها ضدها. خصوصا أن هذا الهجوم طال أحد أبرز حلفاء أميركا في المنطقة، وبالتالي فإن التعامل الأميركي معه كما لو كان "أمرا عاديا" كان سيعني أن انقلابا جذريا في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة وتحديدا في العلاقات الأميركية الخليجية.

الوضع الجديد في المنطقة يفترض النظر بشكل مختلف إلى التحالف الأميركي-الإسرائيلي، من حيث إن "تغيير الشرق الأوسط"، لم يكن هدفا إسرائيليا وحسب بل هدف أميركي بالدرجة الأولى

بيد أن هذا لا يعني أن دونالد ترمب لم يستغل هذا الهجوم لمصلحته بغض النظر عن مدى "مشاركته" فيه، وبالتحديد لدفع جميع الأطراف إلى الانخراط في "التسوية" وإنجاحها. إلا أن كل هذه المتغيرات لا تنفي أن خيار التصعيد سواء في غزة أو في المنطقة قد بدأ يستنزف إسرائيل، ميدانيا في غزة، وعلى مستوى الرأي العام العالمي، ليس في نطاق الشعوب وحسب بل على صعيد الدول مع اعتراف دول غربية رئيسة، في مقدمتها فرنسا وبريطانيا، بدولة فلسطين، وفق المبادرة السعودية-الفرنسية خلال سبتمبر/أيلول الماضي.

بالتالي فإن "انتهاء الحرب" لا يعبّر أولا عن رغبة إسرائيل، التي تتحكم فيها ديناميات أقصى اليمين الديني والقومي، بالسلام، بل عن عدم قدرة إسرائيل على مواصلة الحرب بالوتيرة نفسها من دون تحمل أكلاف كبيرة على مستوى وضعها الدولي والإقليمي، هذا فضلا عن غرقها المتمادي في وحول غزة. لكن هذا لا يعني أن إسرائيل لم تحقق أهدافا كبرى في هذه الحرب، خصوصا بإخراج "حزب الله" و"حماس" من دائرة تهديدها، فضلا عن توجيه ضربة قاسمة للبرنامج النووي الإيراني بمشاركة أميركا، كذلك فإن سقوط نظام الأسد في سوريا "خنق" محور إيران، بالتالي أيا تكن اعتبارات تل أبيب إزاء الحكم الجديد في سوريا، فإن سقوط نظام الأسد حقق لها مكسبا استراتيجيا ضخما.

رويترز
طفل فلسطيني يمشي بين الأنقاض بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من خان يونس، جنوب قطاع غزة 11 أكتوبر 2025

ولذلك فإن استمرار إسرائيل في حرب غزة طيلة عامين متواصلين لم يكن بهدف القضاء على "حماس" بالمعنى الحصري، بل كانت تلك الحرب غطاء ودافعا لديناميكية الحرب الإقليمية والتي وصلت إلى منتهاها في الهجوم الإسرائيلي على الدوحة. وفي اتجاه معاكس فإن "انتهاء الحرب" في غزة لم يكن إلا ترجمة لـ"انتهاء الحرب" في الإقليم أو لعدم القدرة على استكمالها بعدما فرغ "بنك الأهداف" الإسرائيلي–الأميركي، ولاسيما بعد الهجوم على إيران، بغض النظر عما حققته إسرائيل أو عجزت عن تحقيقه، بناء للأهداف التي كانت تضعها لتلك الحرب.

ولا شك في أن الوضع الجديد في المنطقة يفترض النظر بشكل مختلف إلى التحالف الأميركي-الإسرائيلي، من حيث إن "تغيير الشرق الأوسط"، لم يكن هدفا إسرائيليا وحسب بل هدف أميركي بالدرجة الأولى، وهو ما تجلى في تصريحات دونالد ترمب في إسرائيل وشرم الشيخ، من خلال الحديث عن فجر جديد في المنطقة. لكن ذلك لا يعني أن أميركا في صدد الانخراط مجددا في المنطقة كما في حقبة الحرب الباردة، أو في مرحلة غزو العراق، بل إن غالب الظن أن الهندسة الإقليمية الجديدة التي ترعاها الولايات المتحدة هدفها تأمين ظروف مواتية لخفض مستوى انغماسها في ملفات المنطقة، والتي تأتي أولا وأخيرا على حساب أولويتها القصوى في احتواء "الصعود الصيني"، مع الأخذ في الاعتبار أن الحرب الدائرة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 لم تكلف أميركا نقطة دم واحدة تقريبا، وهو ما يجعل ترمب منسجما مع مبدئه منذ ولايته الأولى بعدم إرسال جنود أميركيين للقتال في الخارج، بعد تجربة العراق الكارثية.

ماذا كان قصد ترمب عندما قال إن بنيامين نتنياهو كان الرجل المناسب في الحرب، بالرغم من أنه دعا الإسرائيليين إلى انتخابه مجددا، فهل عنى بذلك أنه لا يمكن أن يكون رجل السلام في المرحلة المقبلة؟

لكن إلى أي حد يمكن لترمب أن يكون مطمئنا لـ"الإنجاز التاريخي" الذي حققه في الشرق الأوسط بخلاف جميع أسلافه. لقد أخذ ترمب الصورة التي يريدها وإن كانت لا تعوض عدم نيله "نوبل للسلام"، لكنه كان الرجل الذي سلطت عليه الأضواء ليوم كامل، وكان سيد المسرح بلا منازع، يمدح الرؤساء والأمراء، ويعبر عن كرهه لآخرين على الأرجح أن بينهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون... فضلا عن مغازلته لرئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني السيدة الوحيدة في قمة شرم الشيخ. لكن رجلا واحدا ويوما واحدا لا يمكن أن يمسحا كل الدماء التي أريقت طيلة عامين كاملين، فإذا كان ترمب قد طلب من الرئيس الإسرائيلي أن يعفو عن "بيبي" فهل يمكن للعالم أن يعفو عنه؟ وأي معنى للقانون الدولي وقتذاك؟ وأي معنى للأمم المتحدة، التي تطرح حرب غزة سؤالا رئيسا حول دورها المستقبلي؟

أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يمسك بيد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) بالقدس في 13 أكتوبر 2025

لكن ماذا كان قصد  ترمب عندما قال إن بنيامين نتنياهو كان الرجل المناسب في الحرب، بالرغم من أنه دعا الإسرائيليين إلى انتخابه مجددا، فهل عنى بذلك أنه لا يمكن أن يكون رجل السلام في المرحلة المقبلة؟ عدم انضمام نتنياهو إلى قمة شرم الشيخ يمكن أن يكون مؤشرا إلى أن نتنياهو لا بد أن يتقاعد وإن لم يحاكم... لكن في الجانب الآخر ماذا عن "حماس" التي خرجت من الأنفاق وهي تعيد سيطرتها على المناطق التي انسحبت منها إسرائيل في قطاع غزة، وتدير نوعا من أنواع الحروب الأهلية الصغيرة التي تلي، عادة، الحروب الكبرى؟ هل ستظل تتمتع بهامش المناورة نفسه بعدما أصبح هامش تحالفاتها أضيق، سواء مع محور "المقاومة المتهاوي" أو مع قطر وتركيا اللتين اختلفت حساباتهما وأصبح من الصعب تصور أنه من الممكن أن يستمرا في دعم "حماس" كما في السابق؟ لكن تسريبات "حماس" نفسها تشي بأنها مستعدة للابتعاد عن المشهد في المرحلة الانتقالية؟ كما لو أن ظهورها الراهن هو ظهور وداعي وبغض طرف أميركي، لكن مع ذلك فإنه يستبعد أن تتخلى "حماس" عن إدارة المشهد في غزة من الخلف، إلا أن المعادلة الجديدة التي فرضتها الحرب تجعل ملف "حماس" ملفا إقليميا بالدرجة الأولى أي خاضعا لتقاطع حسابات وشروط إقليمية ودولية أكبر من "حماس". لكن هذا لا يعني أن الأمور بلغت خواتيمها بمجرد إعلان خطة "العشرين" وأن السلام أصبح واقعا نهائيا بمجرد أن ترمب أعلن أنه وضع حدا لصراع عمره 3000 سنة! بيد أن المتغيرات كبيرة جدا، بما يجعل قدرة اللاعبين الصغار على قلب المعادلات ضعيفة جدا، وهذا وضع جديد في الشرق الأوسط قياسا على العقدين الماضيين اللذين شهدا صعود الميليشيات الإقليمية.  

font change

مقالات ذات صلة