عند نقطة الحدود السورية اللبنانية، تأمل موظف الجوازات إخراج قيد متهالك، أبرزه خليل النعيمي أمامه كوثيقة إثبات وحيدة بأنه مواطن سوري. كانت هذه الوثيقة ملغاة منذ نصف قرن، وستزداد دهشة الموظف أمام صحيفة "المتهم"، فهو مطلوب لكل الأفرع الأمنية بتهمة الفرار من الجندية، وتقارير كيدية أخرى (سنجد جانبا من وقائع فراره في روايته "مديح الهرب"). ففي مطلع سبعينات القرن المنصرم أحس صاحب "تفريغ الكائن"، أن هواء البلاد أصبح فاسدا، إثر منع ديوانه الشعري الأول مرفقا باستدعاء من المجلس العسكري للتحقيق معه، كما ستمنع روايته الأولى "الرجل الذي يأكل نفسه"(1972)، فكان عليه أن يفر إلى بيروت التي كانت على هيئة "معرض أجساد كوني في الهواء الطلق"، ثم سيبحر على ظهر باخرة شحن إلى مرسيليا، قبل أن يستقر في باريس لاستكمال دراسته في الطب والفلسفة.
اهتراء المكان والكائن
ولكن ما معنى أن تعيش في المنفى 54 عاما، من دون أن تتمكن من دخول البلاد؟ هذه قصة تحتاج إلى روائي من طراز غابرييل غارثيا ماركيز لتفكيك خيوطها المتشابكة ومتاهاتها العبثية، ومسرح اللامعقول العائم فوق مستنقع اليأس، كأن يكتب بطمأنينة "عندما عاد خوسيه نعيمي إلى البلاد، كان قد مضى على غيابه القسري، أربعة وخمسون عاما، وسبعة أشهر، وثلاثة أيام. وكان الزمن المنهوب يمضي مثل سلحفاة ضخمة تدفن بيوض الأسى تحت رمال الوقت الضائع".
نلتقيه في دمشق أخيرا، يتأبط دفتره الذي لا يفارقه لكتابة مشاهداته في رحلاته حول العالم. يقول: "لا أصدق أنني، الآن، في دمشق. لم تتغير علي الوجوه، فحسب، وإنما اللغة، أيضا.





