صدمات وصفقات... كيف غيّر ترمب العالم

تتجلّى مقاربة الرئيس الأميركي للنظام الجديد في ثمانية ملفات استراتيجية

إيوان وايت
إيوان وايت

صدمات وصفقات... كيف غيّر ترمب العالم

يُمثل دونالد ترمب قطيعة كاملة مع إرث السياسة الخارجية الأميركية؛ فهو لم يأتِ لإدارة النظام القائم، بل جاء لتقويضه بشكل منهجي. إن الترمبية هي- في جوهرها- ظاهرة تتجاوز الانقسام الحزبي التقليدي، إنها تمثل تحديا بنيويا للنظام المؤسسي القائم، أو ما يُعرف بالدولة العميقة. لم يكن ترمب لاعبا ضمن قواعد هذا النظام، بل كان مُحركا له من الداخل، مستهدفا الأسس البيروقراطية والقيمية التي قامت عليها السياسة الأميركية لعقود.

تتجلّى مقاربة ترمب لتقويض النظام هذه في ثمانية ملفات استراتيجية، محولة عقيدة السياسة الخارجية الأميركية من إطار "القيم والهيمنة" الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى إطار "الصفقات والسيادة" الصريح. ويتجاوز التحليل مجرد دراسة شخصية ترمب إلى الظاهرة العميقة التي يمثلها.

إعادة تعريف ترمب للعلاقة الأطلسية لم تكن موجهة للخارج فقط، بل كانت رسالة داخلية بامتياز

هذا التحول الخارجي لم يكن سوى انعكاس مباشر لانقسام داخلي عميق. فالصراع السياسي في أميركا لم يعد مجرد خلاف بين حزبين، بل تحول إلى صراع هويات بين ما يمكن وصفه بقبائل اجتماعية وثقافية شبه مغلقة. كل قبيلة، سواء كانت اليمين المحافظ أو الشعبوي أو من اليسار التقدمي، أصبحت تستقي أخبارها من وسائل إعلامها الخاصة، وتعيش في فقاعتها الاجتماعية الخاصة بها، مما جعل الحوار الوطني معقّدا بشكل كبير، بل شبه مستحيل. وقد جسّد ترمب هذا الواقع القبلي ليقدم للعالم سياسة خارجية مبنية على نفس المنطق "أميركا أولاً" كقبيلة كبرى، وكل ما عداها هو الآخر الذي يجب عقد صفقة معه أو مواجهته.

أوروبا... من "مشروع مارشال" إلى دفع الفواتير

وجه ترمب ضربته الأولى لأسس النظام العالمي الذي أسسته واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية نحو حجر زاويته؛ العلاقة عبر الأطلسي. لم يكن استهدافه عرضيا، بل كان ذا منحى تقويضيا متعمدا للأساس الأيديولوجي الذي قامت عليه هذه العلاقة. فمشروع مارشال، الذي بدأ عام 1948، لم يكن مجرد مساعدات اقتصادية لإعادة إعمار أوروبا، بل كان استثمارا أيديولوجياً لبناء حلفاء أقوياء في مواجهة التهديد السوفياتي. وعلى مدى سبعة عقود، تم تقديم حلف شمال الأطلسي (الناتو) ليس كتحالف عسكري تكتيكي، بل كتحالف قيمي يجمع الديمقراطيات الليبرالية.

غير أن ترمب- بمنطقه النفعي المجرّد- لم يرَ أي قيمة تُذكر في هذا الإرث الأيديولوجي. لقد جرّد العلاقة من غطائها القيمي والأيديولوجي، وكشف عما اعتبره حقيقتها: صفقة تجارية فاشلة تستنزف الموارد الوطنية الأميركية. لقد حوّل ترمب الضمان الأمني الأميركي من التزام مقدس إلى خدمة مدفوعة، ليُحِلّ بذلك منطق التكلفة والعائد محل الالتزامات القيمية.

إن إعادة تعريف ترمب للعلاقة الأطلسية لم تكن موجهة للخارج فقط، بل كانت رسالة داخلية بامتياز. ففي نظر القاعدة الشعبوية التي أوصلت ترمب للسلطة، لم تكن أوروبا الحليف القيمي بل كانت النخبة العالمية المتعالية التي تشبه في سياساتها وتوجهاتها النخبة في واشنطن. لذلك، فإن هجوم ترمب على "الناتو" لم يكن مجرد مطالبة مالية، بل كان هجوما رمزيا على النظام القديم الذي يرى أنصاره أنه خان المصالح الوطنية الأميركية لصالح أجندة نخبوية عالمية.

الصراع الذي بدأه ترمب ليس كالصراع الأيديولوجي-العسكري مع الاتحاد السوفياتي. إنه نمط تنافسي مختلف: حرب باردة تكنولوجية-اقتصادية

طبقا لهذا المنطق، أعاد ترمب صياغة مفهوم الحليف. في عقيدته، لم تعد أوروبا- وتحديدا ألمانيا- شريكا استراتيجيا بل أصبحت منافسا اقتصاديا يستغل الكرم الأميركي، ويبيع منتجاته في السوق الأميركية بينما يعتمد على المظلة العسكرية الأميركية لحمايته. لقد كرر ترمب مرارا أن العجز التجاري مع أوروبا لا يقل خطورة عن التهديدات العسكرية، واضعا المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في نفس سلة الخصوم التجاريين التي وضع فيها الصين.

وعليه، لم يُمثل خطابه المتكرر حول تقاسم الأعباء دعوة حقيقية لإصلاح الحلف، كما حاولت إدارات أميركية سابقة. بل كان أقرب إلى الابتزاز لإنهاء الرعاية الأميركية المجانية. لم يسعَ ترمب لإصلاح "الناتو"؛ بل سعى- وبشكل منهجي- لكشف عدم جدواه بالنسبة لمبدأ "أميركا أولاً"، مهددا بالانسحاب أو بعدم الدفاع عن أي حليف لا يدفع فاتورته. لقد كرر ترمب أن أعضاء هذا النادي إما أن يدفعوا مقابل الحماية، وإما أن أميركا ستأخذ مظلتها الأمنية وترحل، تاركة أوروبا لمصيرها.

الصين... من الانخراط إلى المواجهة الاستراتيجية

أنهت إدارة ترمب عقودا من السياسة الأميركية الثابتة تجاه الصين، معلنة رسميا فشل إرث وزير الخارجية الراحل هنري كيسنجر. فمنذ السبعينات، سادت عقيدة الانخراط، والتي تقوم على فكرة أن دمج الصين في الاقتصاد العالمي وتشجيع التبادل التجاري سيؤدي حتما إلى تحريرها سياسيا. اعتبر ترمب هذه الفرضية ساذجة، وأنها لم تنتج سوى منافس استراتيجي استغل النظام التجاري العالمي لتقويض صانعه، أي الولايات المتحدة نفسها.

إيوان وايت

لم يكن هذا التحول مجرد مناورة استراتيجية، بل كان تجسيدا لرفض شعبي ضد الإجماع النخبوي في واشنطن. فعلى مدى عقود، دافعت النخبة المؤسسية، من كلا الحزبين، عن سياسة الانخراط لأنها خدمت مصالح الشركات متعددة الجنسيات والتمويل العالمي. هذا الإجماع النخبوي رأى في الصين شريكا صناعيا، متجاهلا تآكل القاعدة الصناعية في قلب أميركا. ترمب، بصفته القادم من خارج النخبة، وظّف غضب هذه القاعدة المنسية. وعندما أطلق الحرب التجارية، لم يكن يهاجم بكين فحسب، بل كان يهاجم نخبة واشنطن ودافوس التي باعت، من منظوره، العامل الأميركي مقابل أرباح العولمة.

يمثل هذا التحول اعترافا صريحا بأن فرضية الانخراط التي هيمنت لعقود كانت مبنية على وهم قيمي، وهو الافتراض بأن الانفتاح الاقتصادي سيؤدي حتما إلى التحرير السياسي على النموذج الغربي. من منظور ترمب الواقعي، كانت هذه الفرضية كارثية، لأنها سمحت للصين بالاستفادة من النظام التجاري العالمي كصفقة، دون الالتزام بقواعده الأيديولوجية القيمية، مما خلق "وحشا اقتصاديا" استغل سذاجة النظام الليبرالي لصالحه.

كان ترمب أول رئيس يعرّف الصين صراحة كمنافس استراتيجي وليس شريكا فحسب. هذا التغيير في التسمية لم يكن تجميليا، بل كان تحولا جذريا في العقيدة الأميركية، ينهي حقبة الشريك الاستراتيجي التي حاولت الإدارات السابقة، ديمقراطية وجمهورية، الحفاظ عليها.

غير أن هذا الصراع لا يطابق نموذج الحرب الباردة التقليدي. فالصراع الذي بدأه ترمب ليس كالصراع الأيديولوجي-العسكري مع الاتحاد السوفياتي. إنه نمط تنافسي مختلف: حرب باردة تكنولوجية-اقتصادية. محور هذا الصراع ليس سباق التسلح النووي التقليدي، بل هو السيادة في مجالات مثل الجيل الخامس (5G)، وأمن سلاسل الإمداد، والسباق على تفوق الذكاء الاصطناعي. لقد حوّل ترمب العلاقة من شراكة إلى مواجهة شاملة تتمحور حول من سيقود النظام التكنولوجي والاقتصادي للقرن الحادي والعشرين.

لم تكن سياسة ترمب تجاه إيران مجرد سياسة بديلة، بل كانت عملية هدم متعمد للنموذج الدبلوماسي الذي بناه سلفه، باراك أوباما

وفي سياق هذه المواجهة الاستراتيجية مع بكين، أعادت إدارة ترمب صياغة علاقتها بالقوى الرئيسية الأخرى؛ حيث أصبحت روسيا والهند أدوات تخدم منطق الصفقة الصارم الجديد. ففيما يتعلق بروسيا، غلب الغموض والتقارب الشخصي المثير للجدل مع الرئيس بوتين على نهج ترمب، ما اعتُبر تقويضا للتحالف التقليدي لحلف "الناتو" ضد موسكو. ومع ذلك، يمكن تفسير هذا التقارب كخطوة إجرائية لكسر العُزلة المفروضة على روسيا وإعادة تموضعها كقوة يمكن عقد صفقة مباشرة معها، متجاوزا بذلك بروتوكولات حقبة الحرب الباردة. في المقابل، جرى تعميق الشراكة مع الهند، ليس على أساس كونها حليفا ديمقراطيا، بل باعتبارها ثقلا استراتيجيا واقتصاديا لازما لموازنة النفوذ الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. لقد انحسر التركيز عن القيم الديمقراطية المشتركة لصالح المصالح الأمنية والاقتصادية المباشرة. هذا التناقض الظاهري في التعامل (من تقارب نفعي مع موسكو إلى تقوية شراكة برغماتية مع نيودلهي) يصب في جوهره في خانة تفكيك الكتلة التقليدية للقيم، وإحلال تحالفات مرنة ومؤقتة تخدم مبدأ "أميركا أولاً" وصفقاتها المباشرة.

كندا... كسر استثنائية الحليف.. وتطبيق "أميركا أولا"

إذا كانت أوروبا تُمثل الحليف الأيديولوجي الذي قوّضه ترمب، فإن كندا تُمثل الحليف الاستثنائي الذي كسر استثنائيته، مُثبتا أنه لا يوجد حلفاء مقدسون في عقيدته. لقد ألغى ترمب العلاقة الخاصة التي تمتعت بها كندا تاريخيا، والتي كانت تُعامل كامتداد شبه محلي للسياسة الأميركية. في نظر ترمب، كندا هي مجرد دولة أخرى تخضع لقواعد الصفقة.

لم يكن موقف ترمب الهجومي على كندا عشوائيا، بل كان استهدافا رمزيا متعمدا. وفي نظر ترمب، فإن كندا التي جسّدها جاستن ترودو، رئيس الوزراء السابق، كانت تُمثل النقيض الأيديولوجي للترمبية. إنها تجسيد لليبرالية العالمية، والتعددية، والصوابية السياسية. بالنسبة لقاعدة ترمب الشعبوية، كان ترودو هو النسخة الدولية من النخبة الليبرالية المتعالية التي يحاربها ترمب في الداخل. لذلك، فإن المواجهة العلنية معه لم تكن مجرد خلاف تجاري حول الألبان، وهو خلاف نابع من نظام إدارة الإمدادات الكندي الذي يحمي منتجي الألبان المحليين ويحد من الواردات الأميركية، مما أثار غضب المزارعين الأميركيين ودفع ترمب لفرض رسوم جمركية والضغط لتغييره، بل كانت استعراضا للقوة يهدف لإثبات أن منطق الصفقة الصارم يتفوق على القيم الليبرالية التي يراها ترمب ضعفا.

كان الهجوم على كندا ضروريا لإثبات منطق مبدأ "أميركا أولاً"، فالعلاقة الخاصة تاريخيا كانت قائمة على هوية شمال أميركية مشتركة تتجاوز الحدود. ترمب، بمنطقه الصارم، رفض هذا المفهوم. فبالنسبة له، لا يوجد مفهوم الـ"نحن" الذي يجمع أميركا وكندا، بل يوجد فقط أميركا كالقبيلة، والآخر المتمثل بكندا. وكان لا بد من كسر استثنائية كندا لإثبات أنه لا يوجد حليف، مهما كان قريبا جغرافياً أو ثقافياً، فوق منطق الصفقة التجارية البحتة.

تجلّى ذلك بوضوح في مفاوضات استبدال "نافتا" باتفاقية"USMCA" . لم تكن المفاوضات تحديثا للاتفاقية، كما حاولت الدبلوماسية الكندية تصويرها، بل كانت عملية فرض إرادة لتصحيح ما اعتبره ترمب خللا تجاريا فاضحا، كما في قضية الألبان الكندية التي هاجمها ترمب مرارا.

 لم يعد المنطق هو الشراكة القارية، بل تصحيح الخلل التجاري بالقوة.

إن تصريحات ترمب حول انضمام كندا لأميركا لم تكن زلات لسان عابرة، بل كشفت عن رؤية متعالية تقوم على موقف استحقاق الهيمنة غير المشروطة ترى أن مصلحة الدول الأضعف تكمن في الذوبان في فلك القوة الأكبر. هذا التصور هو عكس مفهوم تحالف الأنداد الذي قام عليه نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية. فالجغرافيا والتاريخ المشترك لم يشفعا لكندا  الجارة أمام منطق الصفقة التجارية في واشنطن إذا كانت في غير صالح "أميركا أولاً"، شعار الرئيس دونالد ترمب.

إيران... الضغط الأقصى كتصفية لإرث أوباما الدبلوماسي

لم تكن سياسة ترمب تجاه إيران مجرد سياسة بديلة، بل كانت عملية هدم متعمد للنموذج الدبلوماسي الذي بناه سلفه، باراك أوباما. لم يكن الانسحاب من "الاتفاق النووي" خلافا تقنيا حول بنود الاتفاق، بل كان رفضا فلسفيا كاملا لنهج أوباما القائم على الاحتواء عبر الدبلوماسية. لقد رفض ترمب فكرة الصفقة الكبرى من أساسها، واعتبر أن الاتفاق كان كارثيا لأنه قدم لإيران مليارات الدولارات دون أن يحد من سلوكها الإقليمي أو برنامجها الصاروخي. لقد رأى ترمب في هذا التراخي سببا مباشرا لتغوّل النفوذ الإيراني في المنطقة، ما شكل تهديدا صريحا لأمن حلفاء واشنطن التقليديين، وعلى رأسهم إسرائيل.

لم يكن ترمب يحاول إصلاح منظمة التجارة العالمية، بل كان يتعمد كسر أسنانها القضائية، محولا إياها إلى منتدى للنقاش بلا قوة تنفيذية، فاتحا المجال لعودة قانون القوة في التجارة بدلا من قوة القانون

تندرج عملية إلغاء الاتفاق النووي من طرف واشنطن في سياقها الأوسع، كجزء أصيل من حرب ترمب على "النخبة"  المؤسسية. فالاتفاق النووي، من منظور شعبوي، لم يكن مجرد إرث لأوباما، بل كان التجسيد المطلق للدبلوماسية النخبوية العالمية. لقد كان اتفاقا معقدا ومتعدد الأطراف، تفاوضت عليه ذات النخبة التي يراها أنصار ترمب ساذجة. لذلك، لم يكن الانسحاب من الاتفاق مجرد قرار سياسي، بل كان إعلانا بأن "الصفقات السيئة" التي عقدتها الإدارات السابقة قد انتهت، وأن منطق "أميركا أولاً" الأحادي هو البديل.

جوهر الخلاف حول "الاتفاق النووي" لم يكن تقنيا، بل كان صراعا بين مدرستين: مدرسة إدارة الصراع التي مثلها أوباما، والتي تقبل بتسوية دبلوماسية تمنع الأسوأ، ومدرسة حسم الصراع التي يتبناها ترمب بمنطق الصفقة الرابحة. فترمب لا يقبل بأنصاف الحلول، والاتفاق النووي في نظره كان صفقة خاسرة لأنه فشل في معالجة جوهر المشكلة: النفوذ الإقليمي الإيراني. لذلك، كان "الضغط الأقصى" هو الأداة للانتقال من الاحتواء الدبلوماسي إلى التراجع الإجباري.

لذلك، انتقلت الاستراتيجية من العقوبات الذكية التي كانت تهدف لتغيير السلوك، إلى حملة "الضغط الأقصى". هذه الحملة لم تكن تهدف لإعادة التفاوض، بل كانت تهدف لكسر اقتصادي أو حتى تغيير النظام، وإن لم يُعلن ذلك صراحة.

ويتوسع مفهوم قصف البرنامج النووي في هذا السياق، فلم يعد الهدف القصف الحرفي للمنشآت فقط، بل قصف البرنامج الإقليمي لإيران (نفوذها في العراق، وسوريا، ولبنان) عبر تجفيف منابعه المالية بالكامل. ويندرج اغتيال قاسم سليماني، قائد "فيلق القدس"، تحت هذا العمل العسكري المباشر لتأكيد هذا التحول؛ لقد كان ذلك إعلانا بأن أميركا مستعدة لاستخدام القوة العسكرية المباشرة لاستهداف رأس مشروع النفوذ الإيراني، وليس فقط الاكتفاء بحرب العقوبات.

تآكل التعددية الدولية... من القيادة إلى الانسحاب

لم يكن شعار "أميركا أولاً"  مجرد شعار انتخابي، بل كان عقيدة انسحاب منظمة من الالتزامات المؤسسية التي صاغتها أميركا بنفسها وقادتها لعقود. لقد مثّل هذا الشعار تحولا من القيادة العالمية إلى الانسحاب الاستراتيجي.

هذا الهجوم على التعددية هو، في جوهره، انعكاس مباشر للثورة الشعبوية الداخلية. ففي المنظور الترمبي، تمثل هذه المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة التجارة العالمية، تعريفا دقيقا للعولمة،  وهي مستنقع عالمي يديره بيروقراطيون غير منتخبين. هذه النخبة، من منظور قاعدته، ضحت باستمرار بسيادة أميركا ومصالح العامل الأميركي، كما في اتفاق باريس للمناخ، لصالح أجندات عالمية. لذلك، لم يكن انسحاب ترمب مجرد تحول في السياسة الخارجية، بل كان أداء داخليا ضروريا، يثبت لقاعدته أنه يفكك الهيكل العالمي الذي أضر بالطبقة العاملة الأميركية.

مثّل هذا الهجوم على التعددية رفضا بنيويا للمنظمات البيروقراطية، التي اعتبرها ترمب قيودا تكبل إرادته الشعبوية المباشرة. فهو يفضل منطق "قانون القوة" في صفقات ثنائية يستطيع فيها فرض شروطه كالطرف الأقوى، على "قوة القانون" التعددية التي تساوي أميركا بغيرها من الدول.

وعليه، لم يَرَ الناقدون قرار ترمب الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، ومنظمة الصحة العالمية في ذروة جائحة عالمية، والانسحاب من اليونسكو، كقرارات سياسية بحتة يمكن تبريرها، بل كصفقات فاشلة ورفض فلسفي لمبدأ الحلول التعددية. في عقيدة ترمب، لا يوجد حل تعددي فعال، بل يوجد فقط الحل السيادي الذي يضمن مصلحة أميركا أولاً، حتى لو كان ذلك على حساب الفوضى في النظام الدولي.

لكن الأخطر من الانسحاب كان شلّ المنظمات من الداخل. ما فعلته إدارة ترمب مع منظمة التجارة العالمية كان نموذجيا. عبر تعطيل تعيين القضاة في هيئة الاستئناف التابعة للمنظمة، نجح ترمب في قصف أساس النظام التجاري الحر الذي أسسته واشنطن، مما أدى إلى شلله الفعلي. لم يكن ترمب يحاول إصلاح منظمة التجارة العالمية، بل كان يتعمد كسر أسنانها القضائية، محولا إياها إلى منتدى للنقاش بلا قوة تنفيذية، فاتحا المجال لعودة قانون القوة في التجارة بدلا من قوة القانون.

إعادة هندسة الشرق الأوسط... "اتفاقات أبراهام" والمسار الفلسطيني

يمثل هذا المحور التحول الأبرز في سياسة أميركا بالشرق الأوسط، وهو تحول من عقيدة إدارة الصراع التي سادت لعقود، إلى عقيدة تجاوز الصراع. إن "اتفاقات أبراهام"، إلى جانب قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، مثّلت نهاية رسمية لعملية السلام التقليدية التي رعتها أميركا منذ مؤتمر مدريد. لقد تم استبدال مبدأ "الأرض مقابل السلام" بعقيدة "الاقتصاد مقابل السلام".

تُجسّد سياسة ترمب تجاه الحرب على الإرهاب التطبيق الأوضح لمنطق الصفقة على التدخل العسكري

هذا التحول هو أيضا هجوم مباشر على مؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن. فعلى مدى عقود، كان المسار الفلسطيني هو المشروع الحصري للنخبة الدبلوماسية البيروقراطية في وزارة الخارجية. لقد مثّل هذا المسار مشكلة معقدة ومستعصية، تستهلك المليارات والمؤتمرات الدبلوماسية، من مؤتمر مدريد إلى اتفاقات أوسلو، دون أي صفقة حقيقية. ترمب، بصفته القادم من خارج النخبة، رأى في هذا فشلا مؤسسيا. بتجاوزه المسار الفلسطيني، لم يكن يتجاوز المشكلة فحسب، بل كان يتجاوز طبقة الخبراء بأكملها، ليثبت أن منطقه التجاري المباشر يمكن أن يحقق نتائج سريعة فشلت النخبة في تحقيقها لعقود.

كانت القضية الفلسطينية تمثل، لعقود، العقبة القيمية أمام أي هندسة إقليمية. كانت هي الإرث الذي يجب التعامل معه أولاً. ترمب، بمنطق الصفقة البحت، رأى في هذا الإرث مجرد تكلفة غارقة تعيق صفقة أهم: وهي بناء التحالف الاستراتيجي-الاقتصادي ضد إيران. "اتفاقات أبراهام" هي التطبيق الحرفي لعقيدته: تجاهل القيمة، الحقوق والمسار التاريخي، لصالح الصفقة، أي الاقتصاد والأمن المباشر.

لم يكن الهدف هو السلام بحد ذاته، بل كان بناء تحالف مصالح بين إسرائيل ودول الخليج. الهدف الحقيقي كان بناء ما يشبه "ناتو" إقليمي تكون فيه إيران هي العدو المشترك. في هذا النموذج الجديد، لم يعد الصراع الفلسطيني هو العقبة المركزية أمام التطبيع، بل تم تهميشه ليصبح مسألة ثانوية يمكن معالجتها  لاحقا، أو اقتصاديا، بعد تشكيل التحالف الاستراتيجي الأهم.

لقد أعاد ترمب ترتيب أولويات المنطقة بما يخدم منطق الصفقات بدلا من منطق الحقوق. وقد تجلّى ذلك في تجاوز المسار الفلسطيني بالكامل، ليس عبر حله، بل عبر القفز فوقه، مقدما نموذجا جديدا يرى أن الأمن الإقليمي في مواجهة إيران، والمصالح الاقتصادية المشتركة، أهم من حل صراع تاريخي ظل مستعصيا على كل الإدارات السابقة.

وتأكيدا لهذا المنطق، يبرز تدخل ترمب لحسم وقف إطلاق النار في حرب غزة الأخيرة كمثال أيقوني على عقيدته.

فبدلا من الانخراط في المسار الدبلوماسي التقليدي المتعدد الأطراف، استخدم ترمب الضغط المباشر والتلويح بمزيد من القوة لحسم التوتر. لقد أثبت نجاحه في فرض الهدنة أن منطقه القائم على التهديد العسكري المباشر وقوة الصفقة، يتفوق في تحقيق نتائج فورية على جهود الدبلوماسية المعقدة والمماطلة التي جرت في العقود الماضية في منطقة الشرق الأوسط.

الحرب على الإرهاب... تغليب منطق التكلفة والعائد على الأيديولوجيا

تُجسّد سياسة ترمب تجاه الحرب على الإرهاب التطبيق الأوضح لمنطق الصفقة على التدخل العسكري، حيث تم استبدال عقيدة بناء الأمم، التي استهلكت المليارات والجهود الأيديولوجية الطويلة الأمد، بنهج واقعي يقوم على الانسحاب والقتل المستهدف منخفض التكلفة. يكمن جوهر هذا التحول في الرفض الصريح للتكلفة الغارقة التي خلفتها حروب أفغانستان والعراق. فبناء الأنظمة الديمقراطية ومكافحة التمرد المعقدة يمثلان- في نظر ترمب- هدرا للموارد بناء على ضعف الكفاءة الإدارية. بعد عقدين من إنفاق تريليونات الدولارات دون تحقيق نصر واضح، لم يعد الهدف هو تغيير مجتمعات بأكملها، بل تصفية التهديد بأقل خسائر أميركية ممكنة، مما يجسد نظرة تجارية بحتة للحرب: أقصى فائدة بأدنى تكلفة. وقد تجلّى هذا المنظور التجاري في مطالبته المستمرة بضرورة تحمل حلفاء واشنطن الإقليميين والمحليين الكلفة المالية للتدخل العسكري، محولا الالتزام الأمني إلى فاتورة مالية واجبة الدفع.

لم يكن نهج ترمب التقويضي لأسس النظام الليبرالي عشوائيا، بل كان استبدالا منهجيا لعقيدة "القيم والهيمنة" بمنطق "الصفقات والسيادة"

هذا المنطق النفعي تجسّد فوريا في أفعال حاسمة. كان الانسحاب من أفغانستان هو التجسيد الأبرز لفكرة التخلّص من فخ الحرب التي لا تنتهي وتحويلها إلى صفقة خروج. وعلى المستوى التكتيكي، تم تقليص الاعتماد على القوات البرية الضخمة بشكل كبير، لصالح عمليات فرق القوات الخاصة والاستخدام المكثف للطائرات المسيّرة، وهي أدوات تضمن القضاء على الأهداف دون تحمل الأعباء البشرية أو المالية للانتشار الواسع. وعلى الجانب الآخر، كانت عمليات القتل المستهدف لزعماء كبار، مثل قائد "فيلق القدس" الإيراني قاسم سليماني وزعيم تنظيم "داعش" أبو بكر البغدادي، إعلانا بأن أميركا ستستخدم القوة المباشرة المركزة لتحقيق نتائج فورية وقابلة للقياس، دون تحمل مسؤولية بقاء القوات أو إعادة بناء الدول.

شرعنة الشعبوية كأداة للسياسة الخارجية

لم يفصل ترمب بين شخصيته الشعبوية التي يخاطب بها قاعدته الجماهيرية، ودوره كرئيس للدولة العظمى، وهو ما يربط سياسته الخارجية بأسلوبه الداخلي. لقد تجاوز الدبلوماسية المغلقة والقنوات التقليدية المتمثلة في وزارة الخارجية، لصالح دبلوماسية "تويتر". لقد استخدم التواصل المباشر ليس فقط لمخاطبة جماهيره في الولايات المتحدة، بل لمخاطبة الجماهير العالمية والقادة الآخرين، معلنا عن قرارات مصيرية أو مهددا بفرض رسوم جمركية عبر تغريدة، متجاوزا بذلك النظام القائم في وزارته.

لم يكن ارتياحه للقادة الأقوياء مجرد تقارب شخصي، بل كان تقاربا في منهجية الحكم. فهؤلاء القادة يمثلون نموذجا للحكم الفعّال الذي يتخطى بطء البيروقراطية وتعقيداتها. لقد رأى فيهم صُنّاع صفقات يمكن التفاوض معهم مباشرة، بدلا من الحلفاء التقليديين كأنغيلا ميركل أو جاستن ترودو، الذين رآهم مديري أنظمة مقيدين بالأيديولوجيا والالتزامات التعددية التي يراها ترمب مجرد عوائق. الأهم من ذلك، أنه غيّر معيار الحليف الأميركي. لم يعد الحليف بالضرورة ديمقراطيا، كما كان مطلوباً أيديولوجياً في الحرب الباردة. بل أصبح الحليف هو من يُظهر قوة وقدرة على عقد الصفقات. لقد أسس ترمب ما يمكن تسميته بنادي القادة الأقوياء.

ولعل المثال الأبرز على هذا التفكيك الدبلوماسي هو لقاؤه التاريخي بزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون في سنغافورة. فبينما كانت النخبة المؤسسية في واشنطن ترفض لعقود اللقاء المباشر وتعتبره مكافأة للديكتاتور، رآه ترمب صفقة ممكنة. لقد قفز فوق وزارة خارجيته، وتجاهل البروتوكولات، واعتمد على العلاقة الشخصية المباشرة بين قائدين قويين، محولا أعقد ملفات الانتشار النووي إلى حدث تلفزيوني يمكن حسمه بمنطق الصفقات، وليس بمنطق القيم الليبرالية التقليدية.

وبفعله هذا، ومن خلال مدح قوة القادة الذين يُنظر لهم بأنهم أقوياء وشجعان في تخطي جمود البيروقراطية، أضفى ترمب شرعية عالمية على هذا النمط من الحكم. يرى معارضوه من اليسار الليبرالي هذا النمط سلطويا، لدرجة خروج مسيرات حاشدة مثل تلك التي في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2025. فهو هنا يقدّم إشارة واضحة بأن أميركا مستعدة للتعامل مع عالم الصفقات القوية بدلا من عالم القيم الديمقراطية.

ماذا بعد؟

لم يكن نهج ترمب التقويضي لأسس النظام الليبرالي عشوائيا، بل كان استبدالا منهجيا لعقيدة "القيم والهيمنة" بمنطق "الصفقات والسيادة". لقد ثبت أنه لم يكن مجرد رئيس انعزالي، بل كان مُفككا نشطا للنظام الذي اعتبره فاشلا وغير عادل بحق أميركا.

في هذا المسار، جُرّد الحليف الأوروبي من قِيَمِه ليصبح مجرد عميل يدفع الفواتير، وتحوّلت الصين من شريك إلى منافس تكنولوجي مباشر. كما كُسرت استثنائية الحليف الكندي ليُعامل كأي دولة أخرى في صفقة تجارية. وفي ملف إيران، هُدِم إرث أوباما الدبلوماسي بالكامل لصالح سياسة الضغط الأقصى.

التفكيك الأعمق الذي مارسه ترمب كان موجها ضد النظام المؤسسي لـ"الحزب الجمهوري" نفسه

وعلى المستوى العالمي، شلَّ ترمب المنظمات التعددية مثل منظمة التجارة العالمية. كما تجاوز المسار الفلسطيني في الشرق الأوسط لصالح "صفقات أبراهام". وغيّر عقيدة الحرب على الإرهاب من بناء الأمة المكلف إلى القتل المستهدف الفعال. وأخيرا، أضفى شرعية دولية على نادي القادة الأقوياء، مقدما الشعبوية كأداة شرعية للسياسة الخارجية.

لقد تركت الترمبية، كظاهرة، أثرا دائما يتجاوز فترة رئاسته الحالية. وعلى الرغم من الفوضى، نجح هذا التفكيك الذي استهدف الدولة العميقة والآليات البيروقراطية المعرقلة للقرار السيادي في تحقيق نتائج فورية طالما عجز النظام التقليدي عن إنجازها، كإجبار الحلفاء على تحمل الكلفة المالية لأمنهم وتحويل الانتباه عن حروب القيم التي لا تنتهي. لقد أجبرت الحلفاء والأعداء على حد سواء على إعادة حساباتهم في عالم لم تعد القيادة العالمية الأميركية فيه أمرا مفروغا منه، وأثبتت أن منطق الصفقات والسيادة يمكن أن يتفوق، ولو مؤقتا، على عقيدة القيم والهيمنة التي حكمت العالم لعقود.

لكن الأثر الأهم قد لا يكون خارجيا، بل هو داخلي. إن التفكيك الأعمق الذي مارسه ترمب كان موجها ضد النظام المؤسسي لـ"الحزب الجمهوري" نفسه. لقد نجح ترمب في استبدال عقيدة الحزب القديمة القائمة على إرث رونالد ريغان وجورج بوش من "التدخل القيمي" و"التجارة الحرة"، بعقيدته الخاصة  القائمة على القومية الشعبوية ومنطق "أميركا أولاً".  هذا التحول يضمن أن الترمبية كظاهرة ستستمر كقوة مهيمنة في السياسة الأميركية، لأنها لم تعد مجرد قائد، بل أصبحت هي النهج الواعد بالترسخ الذي يصعب تجاوزه.

font change

مقالات ذات صلة