أبو حيان التوحيدي وصراع المثقف مع السلطة والمجتمع

كتاب جديد يتناول بالتحليل فكره وحياته

غلاف كتاب "أبو حيان التوحيدي: محنة مثقف عضوي"

أبو حيان التوحيدي وصراع المثقف مع السلطة والمجتمع

يقدم كتاب "أبو حيان التوحيدي: محنة مثقف عضوي في الثقافة العربية القديمة، دراسة في السياق والخطاب"، الصادر حديثا في بيروت (2025)، عن "المركز العربي للأبحاث"، للمؤلف محمد همام، أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب في جامعة ابن زهر بأكادير، المغرب، دراسة تحليلية لمسيرة المثقف في الثقافة العربية القديمة، متخذا من أبي حيان التوحيدي نموذجا حيا. يغوص الكتاب في أعماق شخصية التوحيدي الفكرية، مسلطا الضوء على صراعه المرير وعلاقته المعقدة مع السلطة والمجتمع، وكيف شكل التراث اليوناني فلسفته وهويته، ليقدم تحليلا جريئا لأزمة المثقف العضوي في عصره.

الأصول الثقافية والفكرية

يتتبع الكتاب المراحل التكوينية لتشكل ثقافة التوحيدي (922-1023م)، من خلال تأثره برموز الفكر العربي، مبتدئا بتأثره العميق بالجاحظ (868م)، الذي كان الأستاذ المؤسس في الأدب والتقنيات البلاغية، ويتبدى أثره خصوصا في كتابي التوحيدي، "البصائر والذخائر" و"الإمتاع والمؤانسة".

وقد أشار التوحيدي إلى الجاحظ في أكثر من كتاب، واصفا كتبه بأنها "الدر النثير واللؤلؤ المطير"، وكان استفاد من عناصر الصراع الحضاري، خصوصا بين العرب والعجم، معتبرا إياه عنصرا فاعلا في تشكيل وعيه. ولم يتوقف عند تأثره بالجاحظ، بل امتد إلى العالم اللغوي والفيلسوف علي بن عيسى الرماني (994م)، الذي لازمه التوحيدي كثيرا، وقبس من علمه وتلقى منه ما بثه من ثقافة كلامية في كتبه، ويذكره التوحيدي بصفة "الشيخ الصالح".

أما في المحور اللغوي، فتأثر التوحيدي بالنحوي المعروف بالقاضي، أبو سعيد السيرافي (978م)، الذي رآه "شيخ الدهر، وقريع العصر، العديم المثل، المفقود الشكل".

ويناقش الكتاب الانفتاح المعرفي غير المسبوق للتوحيدي على الثقافات الأخرى، ويرصد الأثر الأجنبي وحدوده في ثقافته، خصوصا أن كتبه تؤشر إلى أنه درس الفلسفة اليونانية على يد أعظم فلاسفة عصره، إذ تتلمذ على يد الفيلسوف والمترجم متى بن يونس القنائي (939م)، وأبي سليمان المنطقي (توفي 990م)، دون إغفال تأثره بالتصوف الإسلامي الذي ظهر في كتاباته، مما يوضح تكوينه الثقافي المتنوع والمتوازن.

وفي مرحلة الانكفاء والعزلة، انعزل التوحيدي في بغداد، منصرفا إلى كتابة صوفية ذات بعد تربوي، كما في كتابه "الإشارات الإلهية"، الذي لم يكن انتحابا، بل كان تعبيرا عن "غربة وجودية مؤمنة"، ويؤكد المؤلف أن "نصوصه تدل على عمق إيمانه واتزانه".

تشويه الصورة وحقيقة التهم

شغل التوحيدي موقعا متميزا في المشهد الثقافي العام للقرن الرابع الهجري، حيث استطاع بصفته أديبا ومتصوفا وفيلسوفا، مزج الفلسفة بالأدب، وجمع ببراعة بين التراث اليوناني والثقافة العربية. غير أن هذه المكانة لم تسلم من التشويه المتعمد عبر العصور، إذ تعرض لهجوم حاد من مؤرخين ومفكرين بارزين. فقد هاجمه قاضي القضاة وأحد أشهر كتاب التراجم العربية، ابن خلكان (1282م)، في كتابه "وفيات الأعيان"، وهاجم خصوصا كتاب التوحيدي "أخلاق الوزيرين"، وادعى أن من يقتنيه تتعسر أحواله. وكان المؤرخ والمحدث الحافظ الذهبي(1348م)، هو الآخر هاجم التوحيدي، واتهمه بالزندقة.

يناقش الكتاب الانفتاح المعرفي غير المسبوق للتوحيدي على الثقافات الأخرى، ويرصد الأثر الأجنبي وحدوده في ثقافته، خصوصا أن كتبه تؤشر إلى أنه درس الفلسفة اليونانية على يد أعظم فلاسفة عصره

أما في العصر الحديث، فقدم الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي (1917-2002)، صورة قاتمة عن التوحيدي، ففي مقدمته المطولة لتحقيقه كتاب "الإشارات الإلهية" للتوحيدي بعنوان "أديب وجودي في القرن الرابع الهجري"، عقد مقارنة بين فلسفة التوحيدي وفلسفة الكاتب الألماني فرانتز كافكا (1883-1924)، واصفا حياة التوحيدي بأنها "حياة كوارث وأحزان وويلات".

Wikimedia Commons
عبد الرحمن بدوي (1917–2002).

ومن جهته يرى المفكر والفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري (1935-2010)، أن التوحيدي نموذج للمثقف "المستقيل" الذي انغلق على نفسه في دوامة "من الشكوى والانتقام الأدبي، عاجزا عن بناء مشروع فكري متماسك، مما جعله مرآة لأزمة العلاقة بين المثقف والسلطة".

ومن هنا ساهمت هذه التقييمات في تكوين صورة مشوهة ومبسطة عن التوحيدي وأظهرته إما "زنديقا أو متعصبا أو وجوديا يعاني نقصا"، وهي رؤية تناقض جذريا التقديس الذي يضفيه عليه كتاب محمد همام، وتكشف عن الجانب النفسي- الاجتماعي المأزوم في شخصية التوحيدي ونصوصه.

AFP PHOTO / ALBERTO PIZZOLI
أشخاص يتأملون تمثالًا لفرانز كافكا من تصميم الفنان التشيكي ديفيد تشيرني في براغ

مثقف المدينة وشاهد العصر

يسعى الكتاب إلى إعادة كتابة السيرة الفكرية للتوحيدي من خلال دراسة معمقة لسياقات تشكل أفكاره وبناء خطابه، حيث لم يكن "منغلقا ولا مضطربا ولا بعيدا عما يجري في عصره في العلم والثقافة والسياسة". كما أنه كان "مثقفا مستقلا، يمتلك سلطة رمزية، سعى من خلالها إلى إعادة بناء الواقع وإنتاج خطاب معرفي وجمالي مؤثر".

وكان التوحيدي، باعتباره مثقف المدينة (بغداد)، وسط واقع اجتماعي لا مهرب فيه من إبداء الرأي في شؤون الناس، أو في "الشأن العام". وبحسب الكتاب، يظهر "مثقفا عضويا"، بتعبير أنطونيو غرامشي (1891-1937)، وبالرغم من أن بعض النقاد يشككون في تصنيفه ضمن فئة "المثقف العضوي"، كما حددها غرامشي، حيث يرون أن هذا الأخير يقصد بالمثقف "العضوي"، "الفاعل الاجتماعي الذي يشتبك مع الواقع، ويقود عملية التحول الثقافي والسياسي". إلا أن المفكر الجزائري محمد أركون (1928-2010)، يرى فيه "ظاهرة فكرية استثنائية، تستحق القراءة النقدية العميقة وليس فقط الوصف النفسي".

ويقسم الكتاب مسيرة التوحيدي الفكرية ثلاث مراحل، وهي الانفتاح والمشاركة، والنقد والمواجهة، والانكفاء والعزلة. في مرحلته النقدية، هاجم التوحيدي العامة وفضح المثقفين الذين ذكرهم في كتبه، وسخر من الفقهاء وذم الوزراء والحكام الذين كان مخالطا لهم، مثل أبو محمد الحسن المهلبي (903-962)، الذي يعرف بالوزير المهلبي (رجل عربي استطاع أن يشغل منصب وزير الدولة البويهية)، وكذلك ابن العميد (ت نحو 360 هـــ)، وأبو الفضل محمد بن الحسين، أحد أبرز الكتاب في العصر العباسي(750-151). والصاحب بن عباد (326-385 هــ)، اللذين ألف فيهما كتابه "أخلاق الوزيرين".

وفي "مرحلة الانكفاء والعزلة"، أنجز التوحيدي نصا مؤلما ومملوءا بالشكوى والألم، وهو نص "الإشارات الإلهية"، الذي بادر الفيلسوف بدوي إلى سحبه على حياة التوحيدي كلها. وهو في الحقيقة يمثل مرحلة محدودة من حياة التوحيدي، عندما تقدم به العمر وضعف بدنه، لكنه بقي متفائلا ومؤمنا وإن كان غريبا داخل مدينة عشقه.

ساهمت هذه التقييمات في تكوين صورة مشوهة ومبسطة عن التوحيدي وأظهرته إما "زنديقا أو متعصبا أو وجوديا يعاني نقصا"

 

ومن هنا يخوض الكتاب معركة "اشتباك علمي" مع تحليلات بدوي والمفكر المصري زكريا إبراهيم (1924-1976)، اللذين رأيا في شخصية التوحيدي مثالا للاضطراب والتناقض. فيثبت عكس ذلك، مؤكدا أن التوحيدي "كان مثقفا مشاركا وفاعلا في واقعه، بل كان خير شاهد على عصره"، وكان متنه يحمل بين سطوره ضميرا إنسانيا حيا، أدان بشجاعة كثيرا من جوانب عصره لما رأى أنه يستحق الإدانة.

بين العربية والفارسية

يناقش الكتاب الإشكالية المتعلقة بأصل التوحيدي العرقي، بوصفها انعكاسا للصراع الثقافي بين العرب والفرس آنذاك، وهي قضية أثارت جدالا واسعا بين الدارسين. فبينما ذهب بعضهم إلى تأكيد أصله الفارسي، استنادا إلى مؤرخين مثل الذهبي، والمستشرق الإنكليزي صامويل مارغيليوث، فيما ذهب مؤرخون قدماء ودارسون محدثون آخرون إلى الجزم بعروبته. مستدلين على ذلك بانتسابه إلى بغداد وارتباطه الوثيق بالثقافة العربية، حيث كان ابن بيئة عربية أصيلة، متشبعا بقيمها ومعتزا بانتمائه إليها، كما يتجلى بوضوح في كتبه مثل "الإمتاع والمؤانسة" و"أخلاق الوزيرين".

وفي ما يخص عقيدته، يعمل الكتاب على تفكيك سردية اتهام التوحيدي بـ"الزندقة"، كما روج لذلك ابن الجوزي (1116-1201)، في نص نقله عنه الذهبي في الجزء السابع من مدونته "سير أعلام النبلاء"، مظهرا أن هذه التهمة جاءت في سياق الصراع السياسي والفكري في عصره. ويستشهد الكتاب بالنصوص الإيمانية العميقة التي خلفها التوحيدي، مثل تلك الواردة في "الإشارات الإلهية"، والتي تظهر تعلقه بالله والبحث عن الحقيقة المطلقة.

ومن هنا لم يكن التوحيدي في خصومة مع الدين، بل استثمره أداة في مشروعه النقدي والتحريضي، موظفا سلطته الرمزية المتأتية من اللغة والمعرفة في وجه ما سماه محمد أركون "الجهل المؤسس".

كان المثقف في عصر التوحيدي يمتلك قدرة تأثيرية كبيرة، بيد أن بعضهم انخرط في خدمة السلطة. في المقابل، حافظ التوحيدي على استقلالية فكرية صارمة، ورفض الإغراء المادي، معتمدا على لغته النقدية الحادة كمشروع مقاوم. فالتوحيدي انحاز إلى الكتابة على حساب السياسة، ليعيش غربة الكاتب، وبذلك وحده سعى إلى بناء ما يمكن تسميته "الكتلة الحرجة" التي يقودها المثقف العضوي، المثقف المنخرط في الحدث بوعي فكري وتقدي وتاريخي.

وهكذا، نأى التوحيدي بنفسه عن المثقفين الزائفين، وبقي منتجا للأفكار. في استقلال تام عن شخصية مشحونة بالتوتر النقدي الجريء، مجسدا "سلطة ضد السلطة"، ومشحونا بـ"فائض المعنى" الذي يزيد قوة خطاباته التأثيرية.  

AFP PHOTO / ALBERTO PIZZOLIAFP PHOTO / ALBERTO PIZZOLI
رسم غرافيتي للفنان الإيطالي أوزمو يصوّر الكاتب الإيطالي أنطونيو غرامشي يغطي جدارا في روما

المفكر الهامشي

عاش التوحيدي في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، الذي شهد ظهور عمالقة الفكر مثل المتنبي وابن سينا والفارابي، إلا أن الدولة الإسلامية كانت تعاني من التفتت والضعف. في هذا المناخ، وجد التوحيدي نفسه "غريبا" وحيدا، يحاول إحداث تغيير في مجتمع يعاني من الانهيار، ويقول الكاتب إن "التوحيدي كان يواجه عصرا بأكمله". لذلك حاول خرق جدار العزلة والتشويش التي مورست ضده كإنسان ومفكر. وردا على هذا الواقع المرير، انخرط في مرحلة من النقد الجريء، لم يتوقف فيها عند العامة، بل تجرأ على نقد أساتذته وكبار مفكري عصره.

لم يكن التوحيدي في خصومة مع الدين، بل استثمره أداة في مشروعه النقدي والتحريضي، موظفا سلطته الرمزية المتأتية من اللغة والمعرفة في وجه ما سماه محمد أركون "الجهل المؤسس"

من هنا كان لتلك المحاولات دور في رسم المعالم الكبرى للتوحيدي، الإنسان والمثقف العضوي القلق. ويحلل الكتاب أسباب إقصاء التوحيدي من التاريخ الرسمي، ويعزو ذلك إلى "جرأته النقدية ورفضه للمسايرة".

غلاف كتاب"أخلاق الوزيرين"

ويشكك الكتاب في رواية إحراق التوحيدي لمؤلفاته، معتبرا أن بعض الباحثين بالغ في تفسير هذه الحادثة. بينما رأى آخرون أنه أقدم على ذلك لـ"قلة جدواها"، أو كتعبير عن يأس نفسي. يبقى الأمر محل جدال بين الشك واليقين، مما يضيف بعدا دراميا لسيرته، لكن الكتاب يصحح هذه المعلومة، مؤكدا أن رواية الإحراق مبالغ فيها، وأن ما حرق لم يكن "سوى جزء محدود من إنتاجه، وأن الدوافع الحقيقية وراء ذلك تظل محل جدال".

وقد شكل غموض شخصيته - بين الأديب والعالم - إضافة إلى قراره حرق كتبه، جزءا من أسطورته الفكرية التي جعلته نموذجا للمثقف المهمش رغم عطائه الاستثنائي.

font change