"آلات" ومسار السعودية نحو الاكتفاء الذاتي التكنولوجي

شراكات عالمية واستثمارات ضخمة في أشباه الموصلات ومشاريع الذكاء الاصطناعي

المجلة
المجلة

"آلات" ومسار السعودية نحو الاكتفاء الذاتي التكنولوجي

يشهد العالم موجة مستمرة من الحروب والصراعات، التي تبدو في ظاهرها سياسية وعسكرية، لكنها في جوهرها تحمل أبعادا اقتصادية وتجارية استراتيجية. يأتي في مقدمها السباق التكنولوجي المحموم بين مختلف دول العالم، ولا سيما في مشاريع الذكاء الاصطناعي، الذي أصبح اليوم حجر الزاوية لكل القطاعات والمجالات الحيوية.

بات جليا أن الدول لن تحقق طموحاتها ما لم تبنِ قاعدة صناعية صلبة، تؤمّن لها استقلالية تكنولوجية تضمن استقلاليتها التكنولوجية، وتوفر لها التقدم والريادة والأمان في عالم سريع التحولات، حيث صار الابتكار التكنولوجي هو مقياس القوة والقدرة على المنافسة.

تلعب أشباه الموصلات اليوم دور رأس الحربة في المنافسة العالمية عبر مختلف الصناعات، سواء العسكرية أو الطبية أو الاستهلاكية، من السيارات والطائرات الى الهواتف الذكية. وتشكل الرقائق الذكية محور التجاذب الأميركي-الصيني على جزيرة تايوان، الوجهة الأبرز في العالم لصناعة الشرائح الإلكترونية، فيما يسعى العديد من الدول بلا هوادة لتحقيق الاكتفاء الذاتي في انتاجها واستخدامها.

أطلقت الرياض في مطلع عام 2024 شركة "آلات" تحت مظلة صندوق الاستثمارات العامة، لتكون منصة للصناعات المتقدمة في المملكة. وتركز الشركة على أكثر من 30 قطاعا، تشمل أشباه الموصلات، والأجهزة الذكية، وإنترنت الأشياء، والصحة، والتعليم

وفي هذا السياق، تبرز المملكة العربية السعودية كأحد اللاعبين الدوليين القلائل الذين يضعون هذا القطاع في صميم استراتيجياتهم. فقد كرست "رؤية 2030" كل الامكانات والجهود لتحقيق نمو مستدام للناتج المحلي وتوسيع المشاريع المعتمدة على الطاقة المتجددة، التي تساهم فيها الرقائق الإلكترونية بشكل أساسي.

استثمارات عالمية ورؤية وطنية متقدمة

لتحقيق هذه الأهداف، أطلقت الرياض في مطلع عام 2024 شركة "آلات" تحت مظلة صندوق الاستثمارات العامة، لتكون منصة للصناعات المتقدمة في المملكة. وتركز الشركة على أكثر من 30 قطاعا، تشمل أشباه الموصلات، والأجهزة الذكية، وإنترنت الأشياء، والصحة، والتعليم، وغيرها، مع توقع أن تصل مساهمة هذه المجالات إلى 35 مليار ريال في عام 2030 وفقا للبيانات الرسمية.

.أ.ف.ب
حضور القمة العالمية للذكاء الاصطناعي، في الرياض 20 أكتوبر 2020

لم تمض فترة طويلة على إطلاق الشركة حتى كشفت، في الشهر نفسه، عن توقيع أربع اتفاقيات استراتيجية مع شركات عالمية بارزة. فقد أُبرمت الصفقة الأولى مع مجموعة "سويفت بنك" لتأسيس شركة الأتمتة الصناعية الحديثة في المملكة، التي ستتخصص في تصنيع الروبوتات الصناعية الرائدة بقيمة تصل إلى 150 مليون دولار.

أما الصفقة الثانية فكانت مع شركة "كاريير كوربوريشن" المتخصصة في حلول المناخ وأتمتة الطاقة، وتشمل تطوير المصانع وبناء منشآت حديثة لصناعة أجهزة التكييف والتدفئة العالية الجودة، مع التركيز على القضاء على الانبعاثات الكربونية الناتجة من المباني والأبراج. ومن المتوقع أن تساهم هذه الاتفاقية في توفير أكثر من 5 آلاف فرصة عمل.

يُذكر أن أحد أبرز أهداف إطلاق شركة "آلات" يتمثل في دعم تحقيق أهم مستهدفات "رؤية 2030"، وفي مقدمتها الوصول بالمملكة إلى الحياد الصفري للكربون في عام 2060.

تأتي هذه الصفقات في إطار مشروع "مركز المستقبل" الذي كشفت عنه شركة "آلات" لاحتضان برامجها ومصانعها، ويضم المركز مناطق صناعية مجهزة تعتمد على الطاقة المتجددة على مساحة تصل إلى 20 كيلومترا 

كما تركز الصفقة الثالثة مع شركة "داهوا تكنولوجي" المتخصصة في الأمن والسلامة على التعاون الثنائي لتأسيس شركة "آلات إيه. آي. فيزيو تكنولوجي" المحدودة، التي ستتولى إنتاج تقنيات وأجهزة مراقبة متطورة تتوافق مع متطلبات المدن الذكية مثل "نيوم"، "ذا لاين"، والقدية. وتبلغ قيمة هذه الاتفاقية 200 مليون دولار. أما الاتفاقية الرابعة فتمثلت في التعاون مع الشركة التقنية السعودية "تحكم"، حيث يهدف الاتفاق إلى تعزيز البنية التحتية التقنية وتزويد الشركات السعودية حلول الذكاء الاصطناعي وتقنياته المتقدمة.

.أ.ف.ب
جانب من جناح شركة الذكاء الاصطناعي السعودية "هيوماين" خلال منتدى "مبادرة مستقبل الاستثمار" في الرياض 28 أكتوبر 2025

كما أعلنت شركة "آلات" في أغسطس/آب الماضي إتمام إجراءات اتفاقها مع شركة "تي. كي. ألفايتر" بقيمة 160 مليون يورو (نحو 696 مليون ريال أو نحو 185 مليار دولار)، في مشروع يختص بتصنيع المصاعد محليا وتغطية احتياجات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. يضاف إلى هذه الصفقة استثمار شركة "آلات" في امتلاك حصة نسبتها 15 في المئة.

"مركز المستقبل" حاضنة مصانع "آلات"

وبعد مرور عام على تأسيسها، بدأت شركة "آلات" ترجمة خططها إلى واقع ملموس، حيث كشف الرئيس التنفيذي أميت ميدا خلال مؤتمر "مبادرة مستقبل الاستثمار" عن تطوير التعاون مع شركات عالمية عدة، منها "سويفت بنك" و"لونوفو" و"تيك"، لنقل مصانعها ومقراتها إلى المملكة، ومن أبرزها أحد أكبر مصانع شركة "لونوفو" خارج الصين.

وأضاف ميدا أن شركة "آلات" ستبدأ، بالتعاون مع "لونوفو"، إنتاج الأجهزة الذكية بهدف التوسع في السوق المحلية وتصديرها إلى الخارج، بما يشمل الحواسيب، الهواتف الذكية، وبعض القطع الإلكترونية، وذلك ابتداء من العام المقبل.

وتأتي هذه الصفقات في إطار مشروع "مركز المستقبل" الذي كشفت عنه شركة "آلات" لاحتضان برامجها ومصانعها، ويضم المركز مناطق صناعية مجهزة تعتمد على الطاقة المتجددة على مساحة تصل إلى 20 كيلومترا مربعا. كما تشارك شركة "لونوفو" في الاستثمار وتمويل المصنع بقيمة تصل إلى نحو ملياري دولار من خلال إتاحة الاكتتاب في السندات القابلة للتحويل، بحسب بيانات الشركة.

تندرج شركة "آلات" ضمن خطة الصندوق الرامية إلى إنشاء 50 شركة لتصميم الرقائق الإلكترونية

وتعتبر هذه الاستثمارات استكمالا للصندوق الاستثماري الذي أعلن بقيمة مليار ريال (226,6 مليون دولار) خلال منتدى أشباه الموصلات في العام المنصرم. وتقع شركة "آلات" ضمن خطة الصندوق الرامية إلى إنشاء 50 شركة لتصميم الرقائق الإلكترونية.

مسار الاكتفاء الذاتي التكنولوجي

في الجانب الاستثماري، تواصل شركة "آلات" تخصيص ميزانيات إضافية لتمويل مشاريع ضمن صناعاتها، سواء من خلال برامجها الداخلية أو عبر شراكات مع مؤسسات تعليمية مرموقة مثل جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية "كاوست". وتركز هذه الشراكات على تأهيل كوادر بشرية قادرة على توظيف الذكاء الاصطناعي في تطوير الأجهزة والحلول عبر مختلف القطاعات والمراكز، بالإضافة إلى تعزيز صناعة الرقائق وأشباه الموصلات.

رويترز
محافظ صندوق الاستثمارات العامة السعودي، ياسر الرميّان يلقي كلمته في افتتاح الدورة التاسعة من مبادرة مستقبل الاستثمار (FII)، في الرياض، 28 أكتوبر 2025.

على الرغم من أن السوق الصناعية التكنولوجية السعودية تُصنَّف حديثة النشأة، فإن كل شركة تعمل ضمنها تضم في طياتها مجموعة متنوعة من الصناعات التي تلبي احتياجات مختلف القطاعات، مصحوبة بتطور مستمر في التقنيات. ومن خلال هذه الشركات، وبفضل الابحاث وجهود التطوير المستمرة، تمكنت المملكة خلال السنوات الثلاث الماضية من استثمار الفرص وقيادة المبادرات حتى في أصعب الظروف السياسية والاقتصادية، حيث حظي القطاع الصناعي التكنولوجي بالاهتمام والدعم الاستثماري اللازم لضمان نجاحه واستدامته.

وقد أسهمت هذه الجهود في توجيه مسار صناعات الذكاء الاصطناعي نحو المملكة، وحققت تقدما ملموسا في طريق تحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي، وهو ما يمثل جوهر مساعي "رؤية 2030" لبناء اقتصاد مستدام ومتنوع قادر على المنافسة عالميا.

font change

مقالات ذات صلة