باسم خندقي لـ"المجلة": نحن بحاجة إلى إعادة كتابة السردية الأدبية الفلسطينية

هكذا ينظر إلى الحرية وهذه أبرز مشاريعه

الروائي الفلسطيني باسم خندقجي

باسم خندقي لـ"المجلة": نحن بحاجة إلى إعادة كتابة السردية الأدبية الفلسطينية

قبع الروائي الفلسطيني باسم خندقجي، في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 2004، حيث كان يقضي ثلاثة أحكام بالسجن المؤبد في واحدة من أبشع صور القهر الاحتلالي. أراد الاحتلال أن يحجب حضوره، وأن يمحو أثره من الذاكرة والحياة، غير أن باسم ورفاقه حولوا الأسر إلى فضاء من الإبداع، فكانوا أكثر تأثيرا وحضورا من كثيرين أحرار.

في زنازين العتمة، حمل باسم قلمه وجعله سلاحا في وجه السجان، فكتب بوعي وإتقان، وأبدع نصوصا أربكت جلاديه وأثرت الوجدان الفلسطيني والعربي. لم يترك كتابا يقع بين يديه إلا التهم صفحاته بشغف وتأمل، قارئا فاعلا يحول القراءة إلى فعل خلاق ينتج نصوصا أكثر عمقا واتساقا.

ولد خندقجي في مدينة نابلس عام 1983، وبدأ شغفه بالكلمة مبكرا، فدرس الصحافة والإعلام في جامعة النجاح الوطنية، وراح يخط قصصه القصيرة قبل أن يعتقل عام 2004 وهو في الحادية والعشرين من عمره. ورغم أسره، لم يثنه السجن عن مواصلة مسيرته الفكرية والأدبية، إذ أكمل دراسته الجامعية انتسابا إلى جامعة القدس، حيث تناولت رسالته موضوع الدراسات الإسرائيلية في العلوم السياسية.

وخلال سنوات اعتقاله، تحول خندقجي إلى صوت أدبي متميز داخل الزنازين، فكتب مجموعتين شعريتين هما "طقوس المرة الأولى" (2010)، و"أنفاس قصيدة ليلية" (2013)، إضافة إلى ثلاث روايات نالت اهتماما نقديا واسعا، "نرجس العزلة" (2017)، و"خسوف بدر الدين" (2019)، و"أنفاس امرأة مخذولة" 2020.

بمجرد ترشيحي لجائزة "بوكر"، شنّ العدو حملة تحريض شرسة ضدي، الهدف منها نزع إنسانيتي وإيصال رسالة إلى العالم بأن الفلسطيني لا يمكنه أن يكتب

وفي إنجاز أدبي استثنائي، توج خندقجي عام 2023 بجائزة "بوكر" العربية في دورتها السابعة عشرة التي أعلنت في أبوظبي، عن روايته "قناع بلون السماء"، ليثبت أن الإبداع قادر على اختراق القضبان، وأن الحرية الحقيقية هي حرية الفكر والكلمة. هنا حوار معه.

رواية قناع بلون السماء

بداية، ما نقطة التحول التي أسست فعلا لبدء مسيرتك الأدبية؟

نقطة التحول الحقيقية لبدء المشروع الأدبي الخاص بي، تحديدا الروائي، عندما فكرت بصورة جادة بضرورة كتابة الرواية وبأن الشعر لم يعد قادرا على حمل مجموعة الأفكار والرؤى التي أحاول من خلالها تمثيل المعاناة الفلسطينية والتفكير بصوت آخر ومغاير داخل الأدب الفلسطيني، صوت قادر على تسليط الضوء على مناح وأبعاد أخرى في الحالة الفلسطينية وفي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بصورة عامة.

كان فوزك بجائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) رسالة مثلما أن الرواية نفسها رسالة الى العالم، فهي لا تمثل اعترافا أدبيا فحسب، بل أيضا اعترافا برسالتها؟

الفوز بجائزة "بوكر" هو باعتقادي انتصار وليس فوزا، لأنني نلت الجائزة في أوج الهجمة الاستعمارية الشرسة والإبادة الجماعية التي شنها العدو الصهيوني على شعبنا في غزة. فجاء الانتصار ليسلط الضوء أيضا على المعاناة الفلسطينية وقدرة الفلسطيني على مواجهة عدوه بنصه الأدبي وبنصه السردي. وأيضا هي تمثل اعترافا، ليس بي ككاتب وإنما بالحالة الأدبية الفلسطينية التي تحاول اليوم من خلال صوت مختلف أن تؤكد مفهوم أدب الاشتباك.

 هل الجوائز تنصف الكاتب، أم أنها انعكاس لإشكاليات بيئته ومحيطه العربي، أم أنها تصالح العالم مع صورته عن الفلسطيني؟

 لا أعتقد أن الجوائز التي تمنح هنا وهناك تنصف الكاتب، الكاتب لا يوجد لديه أو لا يوجد عنده سقف معين، الكاتب حدوده أبعد من السماء في بعض الأحيان. لكن الجوائز تدعم وتفتح أفق الكاتب العربي على العالمية أيضا. بمعنى أني كنت أطمح دائما للانتشار ولأن أترجم لأكثر من لغة. والفوز بجائزة "بوكر" منحني فرصة لكي أنطلق إلى العالمية وإلى أن أترجم إلى العالم وأن أحمل رسالة شعبي. وفي المناسبة، وبمجرد ترشيحي لجائزة "بوكر"، شنّ العدو حملة تحريض شرسة ضدي، الهدف منها نزع إنسانيتي وإيصال رسالة إلى العالم بأن الفلسطيني لا يمكنه أن يكتب. ولكن بالرغم من ذلك، الانتصار بهذه الجائزة أزعج العدو ومنظومته الثقافية الاستعمارية والعنصرية.

في الحديث عن الرواية نفسها، وشخصية البطلنور الشاهدي، هي شخصية مركبة وإشكالية. كيف بنيت هذه الشخصية، وما الأبعاد التي كنت تسعى لكشفها من خلال رحلته وارتدائه "قناع الآخر"؟

شخصية نور الشاهدي في الرواية هي شخصية إشكالية بامتياز. وغالبا ما أبحث، عندما أبلور شخصياتي وأبطالي في رواياتي كافة، عن الشخصية الإشكالية ولا أبحث عن البطل الجاهز والشخصية الجاهزة التي يمكنها أن توفر إجابات جاهزة. وشخصية نور الشاهدي هي شخصية متناقضة بامتياز. لربما في بعض الأحيان كنت أشعر أنني قريب منه وأنني كنت أتعاطف معه داخل النص، ولكنني في الوقت نفسه كنت أحاسبه. وحاولت من خلاله أن أسلط الضوء على الأبعاد الخفية داخل السردية الإسرائيلية، وذلك من خلال اعتماد مجموعة تقنيات، من أهمها رؤى فرانز فانون في هذا الجانب من خلال مقالته الرائعة "أقنعة بيضاء وجلود سوداء".

الصوت الصهيوني واضح في "سادن المحرقة" بطريقة لا تكاد تصدق من خلالها أن الذي كتب هذه الرواية هو روائي عربي فلسطيني

 نور الشاهدي حاول من خلال استخدام قناع الآخر وملامحه، أن يدخل إلى أعماق هذا الآخر ، في الوقت الذي لم يكن يسمح به هذا الآخر للفلسطيني بأن يدخل إلى عالمه المعرفي وإلى نظرته الشمولية للفلسطيني. حاول نور الشاهدي من خلال ارتداء قناع الآخر، أن يرى بأعين الآخر الفلسطيني. وهذا لم يحدث من قبل في الأدب الفلسطيني تحديدا. للأسف في الأدب الفلسطيني هناك دائما صورة نمطية للعدو، كما هناك صورة نمطية للآخر الفلسطيني داخل الأدب الإسرائيلي. من هنا حاول نور الشاهدي أن ينزع الأقنعة، ولكنه في الوقت نفسه ارتدى قناعا إسرائيليا. الهدف من وراء هذا القناع هو أن يقوم بعملية تجريب واسعة يسعى من خلالها إلى إثبات أن القضية تكمن أساسا في الهوية.

ذكرت مصطلح "أدب الاشتباك"، هل يمكن أن تشرح لنا أكثر عن هذا المشروع الأدبي الذي تعتبر رواية "قناع بلون السماء" باكورته من "رباعية المرايا"؟ وما الرسالة التي تدعو إليها من خلاله؟ وماذا عن الأجزاء الأخرى؟

رواية "قناع بلون السماء" هي باكورة مشروعي الذي أعمل عليه حاليا، ألا وهو "أدب الاشتباك". أدعو الأدباء العرب والفلسطينيين إلى الالتحاق بهذا المشروع الذي يدور بشكل أساس حول تساؤل: كيف نكتب أدبا ضد الاستعمار داخل السياق الاستعماري؟ كيف نكشف ملامح الآخر؟ كيف نسلط الضوء على العلاقة الإشكالية ما بين الفلسطيني والإسرائيلي؟

وبالتالي جاءت "قناع بلون السماء" كافتتاحية لهذا المشروع، يتلوها أيضا الجزء الثاني "سادن المحرقة"، التي ربما هي الرواية الأكثر إشكالية التي أكتبها حتى الآن، لأنني تناولت فيها شخصية صهيونية بامتياز، شخصية صهيونية بيضاء، أشكنازية بيضاء. وقد كتبتها من خلال استخدام تقنية مرهقة ومخيفة أيضا في الوقت نفسه، ألا وهي أنني كنت أفكر بالعبرية وأكتب بالعربية، بحكم أن البطل الذي أتعامل معه هنا هو شخصية صهيونية، ضابط سابق في وحدة المظليين، أشكنازي أبيض يسكن ما بين تل أبيب ودير ياسين. وهي رواية، الصوت الصهيوني واضح فيها بطريقة لا تكاد تصدق من خلالها أن الذي كتب هذه الرواية هو روائي عربي فلسطيني.

Mohammed ABED / AFP
أبناء مدينة غزة يشاركون في تجمع في 25 مايو/ أيار 2023 للمطالبة بالإفراج عن الأسير الفلسطيني المريض وليد دقة

تتحدث بعمق عن الصداقة والنضال المشترك. من الواضح أن علاقتك بالراحل وليد دقة كانت علاقة استثنائية. كيف أثرت هذه العلاقة في مسيرتك الأدبية والإنسانية، وكيف تعرفت اليه؟ وبماذا ألهمك عن الرواية التي كتبتها عنه؟وهل هناك عمل قادم يخلد ذكراه؟

صديقي الشهيد الراحل وليد دقة هو ليس مجرد علاقة صداقة أو علاقة عابرة جمعتني به، وإنما هي علاقة نضالية عميقة جدا. غياب وليد، ونحن في داخل السجن، شكل لدي لوعة وفاجعة كبيرة ما زلت أعيشها حتى هذه اللحظة.

كتبت رواية مكتملة الأركان داخل ذهني عن وليد دقة، وسأنقلها إلى الورق في القريب العاجل بحكم استقراري الآن في القاهرة

 تعرفت الى وليد في السجن منذ بدايات الاعتقال، وشعرت أن هذا الأسير مختلف ويمتلك صوتا مميزا ومختلفا عن بقية الأسرى. وعندما أرى أمامي قامة مثل وليد، لا يمكنني أن أتجنب الجلوس اليه والحديث معه والتعلم منه وأن يلهمني أيضا. عندما كتبت "قناع بلون السماء" كان وليد معتقلا في السجن نفسه الذي كنت فيه وفي القسم نفسه، وكنت في بعض الأحيان أتناقش معه في أمور عدة... في الستة أشهر الأخيرة ما قبل التحرر، التي عانيت فيها ما عانيت من إقصاء وحرمان وتنكيل، كتبت رواية مكتملة الأركان داخل ذهني عن وليد دقة، وسأنقلها إلى الورق في القريب العاجل بحكم استقراري الآن في القاهرة، وستكون الرواية فكرتها العامة حول وليد وتجربته.

AHMAD GHARABLI / AFP
سناء السلامة، زوجة الأسير الفلسطيني الراحل وليد دقة، تشارك مع ابنتها في تجمع قرب مدينة شفاعمرو عشية إحياء الذكرى الـ76 للنكبة

في أعمالك تطرح أسئلة الوجود الكبرى من قلب التجربة الفلسطينية... هل كانت فلسطين في كتاباتك منصة لسؤال الإنسان، أم أن هذه الأسئلة تمثل معبرا لسؤال فلسطين؟

المسألة الفلسطينية بالطبع حاضرة في رواياتي، فأنا أنطلق من موقع ثقافي فلسطيني مشتبك. وتصبح فلسطين في هذه الحالة قضية وجودية إشكالية، أنطلق منها وإليها، أرحل عنها وأعود إليها. ودائما فلسطين حاضرة في كتاباتي حتى في الكتابات التاريخية، الخيزران في "مسك الكفاية" هي المرأة الفلسطينية، هي الوطن الفلسطيني. بدر الدين في "خسوف بدر الدين" هو الفلسطيني الذي يبحث عن إجابات معينة، ولماذا يعاني الفلسطيني من أزمة وجود؟ هذا يعود لأنه يعاني من أزمة هوية. إن لم أكن أمتلك هويتي، فإنني لا أمتلك وجودي، وأرى أننا كفلسطينيين لم ننجز بعد مفهوما واسعا عن الهوية الفلسطينية، وهذا ما أسعى إلى تحقيقه، نحن اليوم في حاجة إلى امتلاك وإلى إعادة كتابة السردية الأدبية الفلسطينية والثقافية بما يكفل توفير الخطاب الأخلاقي الذي نستند إليه في مواجهة هذا العالم الذي يعاني من ازدواجية المعايير.

هل تفكر في كتابة رواية عن غزة؟

في ما يتعلق بغزة، هي جرحي المفتوح. عندما أرى وما زلت أرى الدمار في غزة، أسأل نفسي: كيف سأكتب هذا الدمار؟ كيف سأكتب هذا الصمود وهذه المقاومة أيضا؟ كيف سنفي بوعودنا لأطفال غزة؟ أرى أن غزة أكبر من أي رواية. وعندما أريد أن أكتب، يجب أن أخلق تلك المسافة النقدية التي تفصلني عن جرحي، وأنا مؤمن تماما أن ذلك الخراب سيغدو خرابا جميلا في يوم ما، ولن يكون جميلا إلا عندما نحققه داخل النص. طبعا غزة ستكون حاضرة في أعمالي المقبلة.

EYAD BABA / AFP
فلسطينيون نازحون ينصبون خيامهم بين ركام المباني المدمرة في مخيم البريج وسط غزة، في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025

هل أثرت تجربتك الشعرية علاقتك بلغة السرد في الرواية؟ وما مدى استطاعة السرد إنقاذنا من العجز السياسي الحالي؟

تجربتي الشعرية ساهمت بشكل كبير في صقل تجربتي وفي القدرة على حمل أفكار الرواية. هناك أثر شعري في لغتي السردية وهذا ما أحبذه دائما. عندما انتقلت من الشعر إلى الرواية، كنت أخشى من عدم قدرة لغتي الشعرية، بما أنها لغة اختزالية ومكثفة، على حمل الرحابة الواسعة لعالم الرواية. ولكنني ذهلت من قدرة هذه اللغة على النفس الطويل. وبالتالي، اللغة الشعرية حاضرة دائما، وأحاول دائما أن أغذيها وأن أطورها وأبلورها دون أن أكتب الشعر.

بعد تحررك، ماذا عن معاناة الأسرى في السجون الإسرائيلية وما الرسالة التي توجهها الى رفاقك الأسرى؟

منذ شهر تحررت من الأسر ولا أزال أعيش معهم هناك بصورة أو بأخرى. لا ازال أعيش على إيقاع السجن. تركت ورائي أسرى رائعين وكتابا مبدعين، لا يمكنني أن أصف حجم اللوعة وما أشعر به الآن تجاههم.

عندما حللت في مصر ودخلت إليها آمنا، ذهلت بالعمق الثقافي والأدبي وبهذا الاحتضان الدافئ لي ولحالتي الأدبية والثقافية

 مما لا شك فيه أن الحرية منقوصة، فهناك معاناة يومية للأسرى. وربما من خلال الكتابة عنهم في إمكاني أن أخفف من هذه اللوعة وأن تكتمل حريتي من خلال الكتابة عنهم، لأن الكتابة تحررهم.

باسم خندقجي

تجربة الإبعاد عن الوطن بعد أكثر من عقدين في الأسر هي تجربة قاسية بلا شك. كيف تعيش هذا الواقع الجديد في مصر، وماذا تمثل لك القاهرة اليوم؟

الإبعاد عن فلسطين بعد أكثر من 21 عاما داخل المعتقل، يعني إشكالية كبيرة بالنسبة إلي، ولكن الحلول في مصر هو حلول وجداني وأيضا حلول يكتمل به المعنى. لطالما شكلت لي مصر منذ الصغر المشهدية الأدبية والثقافية العامة.

 وعندما حللت في مصر ودخلت إليها آمنا، ذهلت بالعمق الثقافي والأدبي وبهذا الاحتضان الدافئ لي ولحالتي الأدبية والثقافية. وأتمنى أن أبقى هنا، وأن تكون مصر هي الوطن لكلماتي وليس لي أيضا.

أخيرا، من هم أبرز الكتاب والمفكرين الذين تأثرت بهم وقرأت لهم في سجون الإحتلال، وما مشاريعك التي تعمل عليها الآن؟

خطي في المطالعة والقراءة هو الفلسفة والفكر وعلم الاجتماع والتاريخ، تأثرت بإدوارد سعيد، أنطونيو غرامشي، وفرانز فانون، أما في ما يتعلق بالأدب، فأعتبر أن أبي الروحي هو الراحل إلياس خوري، فهو من ساهم من خلال رواياته في صقل تجربتي السردية، وأما في ما يتعلق بالمشاريع المقبلة، فالمشروع المقبل هو كتابة الرواية الخاصة بصديقي الراحل وليد دقة، بالإضافة إلى التركيز على بلورة وتأسيس مشروع أدب الاشتباك. أراهن كثيرا على قدرتنا كأدباء على تأسيس هذا الأدب وتوفير منصة له تكفل تسليط الضوء على السياق الاستعماري لفلسطين.

font change

مقالات ذات صلة