سيرين خليفة تستعين باللوحة لـ"لم الشمل" مع المكان الفلسطيني

معرضها الجديد "مشاهد متخايلة" في دبي

التشكيلية الفلسطينية سيرين خليفة

سيرين خليفة تستعين باللوحة لـ"لم الشمل" مع المكان الفلسطيني

"رسالة حب إلى فلسطين تثير إحساسا بالانتماء والاستمرارية والأمل"، هكذا قدمت صالة "زاوية" الفنية في دبي معرض الفنانة التشكيلية الفلسطينية سيرين خليفة الجديد. ولعل هذا التعريف بأعمال الفنانة هو أدق ما يمكن قوله عنها في أوج الألم الفلسطيني. إذ يمكن اعتبار أعمالها من تلك التي لا تتغاضى عن الأوجاع، بوصفها نوعا من التجاهل السلبي، بل تراها سبيلا لتخطي الألم نحو تشكيل عالم أفضل، ونشر طاقته الإيجابية في الراهن.

يضم المعرض الذي حمل عنوان "مشاهد متخايلة" مجموعة لوحات أنجزت باستخدام مادة الأكريليك، وبعضها بالألوان الزيتية والأكريليك معا. أما السمة المشتركة بينها فهي منبعها المتأرجح بين الخيال من جهة، والهدوء "الحجري" إذا صح التعبير، من جهة أخرى. فكل ما قدمته الفنانة يذكر بفن الجداريات والموزاييك التاريخي، وبذلك الهدوء الممزوج بصلابة الحجر.

الخيال بوصفه واقعا

مع تبدل النظرة إلى الفن من كونه وصفا للواقع وتوثيقا لأحداثه، ازداد عدد الفنانين الذين يرون أن الرسم انطلاقا من الخيال قد يكون أكثر واقعية، لأنه يعكس أعماق أرواحهم وما تختزنه من مشاعر وتجارب شخصية. سيرين خليفة واحدة من هؤلاء. لم تولد في فلسطين ولم تزرها يوما، لكنها مسكونة بحبها والتوق إليها.

"لوحاتي هي تكريم لتاريخنا وتقاليدنا وروح شعبنا التي لا تنكسر"، تقول خليفة لـ"المجلة": "أستكشف موضوعات الذاكرة والهوية والصمود، ناسجة على القماش حكايات الشوق والتحدي. أرسم مناظر طبيعية تهمس بالوطن، ونساء يرتدين أثوابا مطرزة تحمل في خيوطها أجيالا من التراث، ورجالا ثابتين يمسكون بالمفاتيح، رموز العودة والذاكرة".

غالبا ما أحتاج إلى أن أتخيل كيف هو الشارع الذي أمام البيت أو الذي يتفرع منه وأي شارع آخر يصل إليه، إضافة إلى تفاصيل أخرى قد تساهم في جعل المشهد نابضا بالحياة

أما كيف يتجلى ذلك، فتقول: "شجرة الزيتون وثمرة البطيخ مثلا، ليستا مجرد عنصرين من عناصر الطبيعة، بل هما جزء من لغتنا البصرية التي تعبر عن البقاء والانتماء. أبدأ دون وجهة واضحة، وأدع الأشكال تنبثق بشكل طبيعي. من هناك، أباشر تنظيم العلامات على القماش. إنها عملية حدسية تزدهر تباعا في فضاء المجهول".

يشكّل عالم خليفة الفني تجليا واضحا لذلك المزيج المتوتر بين الواقع والخيال، وبين البعيد والقريب، وبين اليقين والشك، مما يضفي على لوحاتها نفحة قصصية تذكرنا، في أحيان كثيرة، بالحكايات التي تروى للأطفال قبل النوم. هذا بالطبع لا يعني أن الفنانين الذين لم يعيشوا أو لم يزوروا فلسطين هم وحدهم من اختاروا أن يرسموها كحلم متخيل. فبعض الفنانين لم يغادروا فلسطين، ولكن ظرتهم إليها في لوحاتهم كانت تصورها كحلم أبدي. وهناك بعض الفنانين الذين انطلقوا، بعد سنوات من الرسم شبه الواقعي الذي يصف قرية ويميزها عن أي قرية أخرى، إلى الرسم النمطي أو إلى الواقعية السحرية، أو إلى عالم الأحلام الوردية الهانئة.

تبتكر الفنانة، مستندة إلى وثائق عديدة، وطنا يعوضها بعض الشيء عن وطنها، وتحدثنا عن طريقة حصولها على المعلومات التي تحتاج إليها لبناء عالمها الفني: "لو كنت في فلسطين، لكان باستطاعتي، مثلا، أن أحمل أوراقي وألواني لرسم مشهد حقيقي من قرى فلسطين ومدنها. ولكنني لست هناك ولم أكن يوما هناك. لذلك أتخيّل فلسطين على الدوام. فأنا أعرف كيف هو شكل البيت الفلسطيني، فأرسمه في لوحتي".

Zawyeh Gallery
لوحة الطريق الى المنزل"

كثيرا ما تدعو الفنانة المنازل إلى لوحاتها. تدعوها بكل ود، وتلبي المنازل الدعوة، مشكورة، ولكن بخجل. نراها في كل لوحاتها الحاضرة في المعرض، قابعة بهدوء غرائبي على قماش اللوحة، تتساءل عما حولها من أشكال تبدو أحيانا كثيرة غريبة عنها. وفي هذا السياق تقول الفنانة عن العناصر التي تحيط بالمنازل في لوحاتها: "غالبا ما أحتاج إلى أن أتخيل كيف هو الشارع الذي أمام البيت أو الذي يتفرع منه وأي شارع آخر يصل إليه، إضافة إلى تفاصيل أخرى قد تساهم في جعل المشهد نابضا بالحياة. لا أملك صورا كافية من القرى في فلسطين، لذلك أضطر إلى تخيلها"، وتضيف: "اليوم أحاول التواصل عبر إنستغرام ووسائط إلكترونية مختلفة مع أشخاص يعيشون هناك، وأطلب منهم أن يلتقطوا لي صورا أو يخبروني تفاصيل وقصصا لا أستطيع الوصول إليها كي أرسمها أو أستوحي منها".

Zawyeh Gallery
لوحة "عين كنيا"

 معظم من تذكر أمامهم كلمة "فلسطين"، أول ما يخطر في بالهم الجدار الفاصل، وذلك قبل العامين الأخيرين اللذين عاشتهما فلسطين. غير أن الفنانة اختارت، بقرار واضح، أن تصل بين القرى والمدن بأسلوب غرائبي مبلسم، يذكّر، كما قلنا آنفا، بقصص الأطفال. وتظهر صفة الغرابة خاصة في أعمالها التي تجسد مشاهد واسعة وشاملة. من بين هذه اللوحات، نذكر "عين كينا" و"بيت لحم" و"مشهد من نابلس"، ونشير هنا إلى أن الفنانة المولودة في الأردن ومستقرة في الرياض، تعود أصولها إلى مدينة نابلس.

البيت في لوحات التشكيليين الفلسطينيين، مهما تنوعت أساليبهم الفنية ومقاصدهم، يشيد معنى الاستمرارية، ومن دونه يصبح الإنسان كائنا متشردا. أما البيت في لوحات خليفة، فلا يقيم لهذه الأفكار وزنا بقدر ما يسعى إلى احتضان القرية كلها أو المدينة التي تسكن في داخله، وليس العكس. لذلك ربما يبدو أنه ـ أي البيت ـ السمة البارزة الوحيدة التي تذوب من حولها معظم التفاصيل، حتى وإن أدركنا ماهيتها، لأن الفنانة جعلته يتخلى عن بنيته الواضحة، والمرتبطة بمدينة أو بقرية دون أخرى.

حين يشتد وقع التجريد في لوحاتها، نراه يخفت في الآن نفسه لتعلو نبرة الغنائية المشرقية الغزيرة التفاصيل والتجريدية والمفتوحة على شتى أنواع التخيلات

ولعل هذا التوجه الفني أدخل نزعة التجريد إلى قلب لوحاتها. فبينما يكون التجريد الفني قرارا مقصودا من الفنان، ونوعا من عشق الاختزال واستبطان المعنى الدال على حالة شعورية أو فكرة أو حتى مشهد طبيعي ما، فإن حضور شيء من التجريد في أعمال خليفة، الذي تتماهى عبره أبعاد اللوحة أفقيا وعموديا، وتتداخل فيه التفاصيل بعضها مع بعض، يحمل خصوصية مختلفة. إذ حين يحضر التجريد في لوحاتها، في خفر حينا وفي وضوح حينا آخر، يكون ذلك أشبه بتعويض عن واقع غير معلوم بالنسبة إليها، أو هو نوع من لم شمل الفراغات وتأثيثها. وحين يشتد وقع التجريد في لوحاتها، نراه يخفت في الآن نفسه لتعلو نبرة الغنائية المشرقية الغزيرة التفاصيل والتجريدية والمفتوحة على شتى أنواع التخيلات الأكثر بهجة وأملا. ومن بين هذه اللوحات نذكر على وجه الخصوص لوحتي "غزل فلسطيني" و"مشهد مطرز".

Zawyeh Gallery
لوحة "القدس"

يذكر أن للفنانة لوحات كثيرة سابقة غير هذه المعروضة في معرضها الأخير، لم تكن فلسطين محورها. وحول ذلك تقول خليفة: "كنت سابقا أحب تناول مواضيع مختلفة وكثيرة في لوحاتي، لكنني اليوم أجد نفسي عاجزة عن التفكير والتعبير إلا عن فلسطين. فمثلا، رسمت لوحة عن قرية محيت عن الوجود، وأخرى عن قرية لفتا التي أفرغت كليا من أهلها سنة 1948. أذكر أيضا لوحة عن القدس أبرزت فيها التوافق بين الديانات المختلفة. كثير من الأشخاص الذين يقتنون لوحاتي هم من الأجانب، لذلك أسعى إلى أن تكون هذه اللوحات منطلقا للحديث ليس عن القرية المرسومة فحسب، بل عن فلسطين كلها".

Zawyeh Gallery
لوحة "لفتا"

التحجر المائع

إلى جانب اللوحات التي ذكرناها آنفا، والتي يشتد وقع التجريد فيها وصولا إلى  الغنائية المشرقية، تحضر لوحات أخرى تتجه اتجاها نقيضا، إذ تعمل النزعة التجريدية على إرساء هدوء غرائبي يصل أحيانا كثيرة إلى حد الفتور أو الركود في أحيان أخرى. ولعل ذلك ما يجعل عددا من لوحاتها تبدو لوحات حجرية، لا تعبر النسائم من خلالها، ولا تبهت فيها سطوح المنازل تحت أشعة الشمس المتواصلة. إنه أسلوب خاص بالفنانة، نود أن نطلق عليه اسم "التحجر المائع".

 من ناحية أخرى، حين يشكل هاجس ترسيخ التاريخ الفلسطيني على النحو الذي كان عليه قبل النكبة، وجعل الحاضر امتدادا له، على الرغم من كل المآسي المتتالية، هاجسا أساسيا لدى الفنانين التشكيليين الفلسطينيين، على اختلاف أساليبهم الفنية، تنشغل لوحات الفنانة بهاجس آخر هو على الأرجح تمكين الخيال وتوزيعه في لوحاتها قطعا أشبه بمجموعة تمائم تحمي الواقع من "واقعيته".

Zawyeh Gallery
لوحة "مشهد من نابلس"

تنتشر في لوحات الفنانة ضربات ريشة أو سكين تذكر بالفن التنقيطي من ناحية، وبفن الفسيفساء الحجرية من ناحية أخرى. ويذكر أن الفن التنقيطي، وباختصار شديد، هو تقنية في الرسم تقوم على تجاور نقاط صغيرة من الألوان بتدرجات تراعي قوانين الظل والنور، وذلك عوضا من خلط الألوان بالطريقة التقليدية. وينتج من ذلك مزج بصري تلقائي في عين المشاهد، يتكون منه المشهد الكامل.

أما الفسيفساء الحجرية، وهي الأقرب إلى أجواء لوحات سيرين خليفة، فهي فن زخرفي عريق، يقوم على تجميع قطع صغيرة ومتنوعة من الحجارة الطبيعية، مثل الرخام والغرانيت لتشكيل أنماط وصور فنية. هذا الفن الآتي من عالم الصخور قريب من أجواء لوحات الفنانة المرسومة بالأكريليك، ليتمظهر معتمدا في  لوحاتها على منطق تفتيت الواقع وإعادة جمعه.

فني هو صوتي ومقاومتي وطريقتي في الحفاظ على هويتي الفلسطينية. وهو أيضا وسيلتي لمعالجة صدمة هذا العام

يبدو الكثير من مشاهد اللوحات معتمدا على تقسيم الألوان كأشكال تتجاور وتتراكم كشظايا ملونة ومتطاولة. وعلى الرغم من أن الفنانة لا تستخدم  الحجر الطبيعي مثل الرخام أو الحجر الجيري في أعمالها، إلا أن ذلك لا يمنع أن أعمالها تمتاز بصلابة راسخة لا يؤثر فيها أي عامل طبيعي أو بشري. فحتى أشجار الزيتون كما في لوحة "الطريق إلى المنزل"، تظهر جذوعها متعرجة ولكن بثبات الحفر على الرخام. واللافت في هذه اللوحة الأرض التي تنبت منها هذه الأشجار، إذ هي مشغولة بتقنية قريبة جدا من فن الموزاييك. ويبدو "الطريق" في هذه اللوحة غير قادر أو غير مصمم على إيصال من مشى عليه "إلى المنزل". وتحضر لوحات أخرى كتلك التي عنونتها الفنانة بـ"مشهد من نابلس"، حيث يبدو المرج حجريا وتبدو الخراف التي ترعى في نطاقه صلبة تذكر بالمنحوتات الحجرية والخشبية الأثرية. صلابة توحي من ناحية بالثبات ورسوخ المشاهد الفلسطينية في الذاكرة، ومن ناحية أخرى توحي ببرودة تريد أن تظهر عكس ذلك.

Zawyeh Gallery
لوحة "بيت لحم"

وتحضر لوحات أخرى تبرز فيها مهارة الفنانة في تشييد أو تركيب عالم خيالي من خامة الحلم ولكن بصلابة الحجر. وتوحي المتانة الشبيهة بفن الموزاييك الحجري بفكرة الرسوخ ومقاومة العوامل الخارحية والصمود أمام الزمن، ومن هذه اللوحات "بيت لحم". كل أعمال الفنانة في هذا المعرض تنتمي إلى ما ذكرته الفنانة في البيان الصحافي المرافق لمعرضها، "في هذه الأوقات المؤلمة، فني هو صوتي ومقاومتي وطريقتي في الحفاظ على هويتي الفلسطينية. وهو أيضا وسيلتي لمعالجة صدمة هذا العام. أشعر الآن أكثر من أي وقت مضى بمدى إلحاح سرد حكايتنا...".

font change