أحمد السماري يروي كيف استعان الجيش الأميركي بالجمال العربية في "فيلق الإبل"

أفق سردي يعيد تركيب التاريخ من زاوية غير مألوفة

Getty Images
Getty Images
نقش خشبي بعنوان قطار الجمال في نيفادا من أعمال Jules Tavernier عن رسم Paul Frenzeny، نُشر في Harper’s Weekly عام 1877

أحمد السماري يروي كيف استعان الجيش الأميركي بالجمال العربية في "فيلق الإبل"

في روايته الجديدة "فيلق الإبل" (دار تشكيل، الرياض، 2025) يحفر الروائي السعودي أحمد السماري في طبقات مطمورة من التاريخ العربي، ويعيد ترميم تفاصيل تاريخية غير واضحة المعالم، ويستدعي ملامح الصحراء بوصفها كيانا حيا يتذكر، حيث يسير الناس والإبل معا في رحلة تتجاوز حدود المعيشة إلى اختبار الوجود.

يعود السماري في روايته إلى حادثة تاريخية موثقة، حين قرر الجيش الأميركي منتصف القرن التاسع عشر تأسيس "فيلق الإبل" في أراضي تكساس وأريزونا، حيث كان العالم يشهد انقلابا في أنماط التنقل والحرب. ومع ذلك، عادت البصيرة الإنسانية إلى الصحراء العربية لتستعير منها وسيلتها في الحياة.

فالجمل الذي عرف في نجد والحجاز والعراق وسوريا رفيقا للترحال، صار في تلك اللحظة التاريخية رسولا بين قارتين. أرسلت السفن إلى جدة والإسكندرية وبيروت، واشتريت مئات الجمال، وجيء بجمالة عرب ليدربوا الجنود على قيادتها في البراري الأميركية. كانوا من أبناء البيئات التي تعرف سر الصبر، يعرفون كيف يروى الجمل في القيظ، وكيف يساق في ظلمة الليل، وكيف يستدل الماء في الأرض القاحلة.

إعادة تركيب التاريخ

يستخدم السماري التفاصيل التي سجلها التاريخ الأميركي عن الحاج علي وعن تجار الجمال من نجد والشام، ويوظفها بطريقة روائية تشهد على تداخل حضاري لم يحتف به بما يكفي، بحيث تتبدى كأنها الصورة العكسية لتاريخ اعتاد أن يروى من جهة واحدة.

تفتح "فيلق الإبل" أفقا سرديا يعيد تركيب التاريخ من زاوية غير مألوفة، حيث تتحول الجمال من رمز للترحال والتجارة والكرم إلى عنصر استراتيجي في سردية الحرب

تفتح "فيلق الإبل" أفقا سرديا يعيد تركيب التاريخ من زاوية غير مألوفة، حيث تتحول الجمال من رمز للترحال والتجارة والكرم إلى عنصر استراتيجي في سردية الحرب، سواء في صراعات الصحراء القديمة أو في الحروب الحديثة عندما استعانت فيها الجيوش الغربية، وعلى رأسها الجيش الأميركي، بالجمال العربية، لما تملكه من قدرة على اجتياز التضاريس القاسية، وحمل الأثقال في البيئات التي تعجز عنها المركبات الآلية.

غلاف رواية "فيلق الإبل"

الرواية، إذ تستدعي ماضي العقيلات وتجار الصحراء، تعيد وصل التاريخ بمستقبله عبر هذا الحيوان الذي شكل جسرا بين حضارات تبدو متباعدة جغرافيا، لكنها متكاملة في جوهرها الإنساني.

في ثنايا النص، يطل القارئ على التاريخ بوصفه كائنا حيا، يتنفس من جسد الصحراء ويعيد تشكيل نفسه في ذاكرة الأمم. فـ"فيلق الإبل" لا تقتصر على سرد سيرة مناور أو العقيد نمر والحاج علي وغيرهم فقط، إنما تضيء المسار الطويل الذي سلكته الجمال من مضارب نجد حتى المعسكرات الأميركية في تكساس وأريزونا في منتصف القرن التاسع عشر، حين استقدمت الجمال العربية ضمن مشروع «الفيلق الأميركي للجمال (  U.S. Camel Corps) الذي أقرّه الكونغرس سنة 1855.  

Frederic J. BROWN / AFP
قبر هاي جولي تعلوه جمل يستعيد تجربة فيلق الجمال في جنوب غرب الولايات المتحدة منتصف القرن التاسع عشر، في مقبرة كورتسايت بولاية أريزونا

جوهر فلسفي

يكشف هذا التقاطع بين الرواية والتاريخ جوهرا فلسفيا عميقا أن الحضارات لا تتصادم بقدر ما تتكامل عبر التفاصيل الصغيرة. فالجمل الذي كان رمزا للترحال العربي، تحول في تلك اللحظة التاريخية إلى وسيط بين الشرق والغرب، بين الرمل والمعدن، بين ذاكرة القافلة وروح الجندية الحديثة.

تستثمر الرواية هذا البعد في رسم صورة أوسع للحياة النجدية قبل نشوء الدولة الحديثة، حيث يغدو الإنسان أسيرا لتقاليد الثأر والغزو، لكنه في الوقت ذاته يمتلك حس المغامرة والاكتشاف، وهو ما جعل العقيلات يقطعون المسافات إلى الشام والعراق ومصر، حاملين بضائعهم وتفاصيلهم، ممهدين لتلك الصلات التي ستثمر لاحقا عن انتقال المعرفة واللغة والبشر حتى إلى العالم الجديد.

يستعيد الروائي تلك الروح في مشهد طويل من الفقد والبحث، فيجعل من بطله "مناور" نموذجا للإنسان العربي الذي يتأرجح بين قدره وحلمه، ويغدو الجمل مرآة لروحه التي تمشي ببطء ولكن بثبات، تحمل أثقالها دون شكوى، وتجد في الصمت معنى النجاة. فكل رحلة في الرواية هي مران على الصبر، وكل معركة انعكاس لصراع الإنسان مع نفسه قبل أن تكون صراعا مع الآخر.

الروائي أحمد السماري

يلفت الروائي في عمله إلى أنه حين يقرأ التاريخ على هذا النحو، يكتشف أن الحضارات لم تبن على العزلة، وأن المعرفة انتقلت بين الأمم مثلما انتقلت القوافل بين المرافئ، تحمل التمر والملح والعطر، وتحمل معها الأناشيد واللغات والخبرات.

علّم الجمال العربي الجندي الأميركي كيف يوجه الجمل نحو الماء، وكيف يصغي إلى حفيف الريح ليدرك الطريق

ويشير إلى أن فيلق الإبل الذي جاب رمال أميركا كان ثمرة هذا الامتزاج، حيث تلاقت مهارة الجمالة العرب مع فضول الغرب الباحث عن أدوات جديدة للحياة في الصحارى. لقد علّم الجمال العربي الجندي الأميركي كيف يوجه الجمل نحو الماء، وكيف يصغي إلى حفيف الريح ليدرك الطريق، فكان ذلك درسا في الإصغاء إلى الطبيعة، قبل أن يكون تدريبا عسكريا.

ذاكرة مشتركة

تكشف الرواية من خلال هذا الممر التاريخي أن الإنسان، أينما وجد، هو استمرار لرحلة أقدم منه، وأن التقدم لا يقاس بالآلة وحدها، لكن بما تحمله من وعي بالذاكرة المشتركة بين الشعوب. والجمل في الرواية رمز لهذا الوعي، يسير على إيقاع بطيء، يربط الأرض ببعضها، ويذكر بأن الكائن الذي لا ينسى طريق الماء، لا يضيع مهما تبدلت الخرائط.

Frederic J. BROWN / AFP
قبر هاي جولي في كورتسايت، أريزونا، يخلّد حقبة الجمال التي استخدمها الجيش الأميركي في تجربة فيلق الجمال قبل الحرب الأهلية.

وفي هذا الامتداد الزمني، بالإمكان قراءة "فيلق الإبل" بوصفها محاولة لإعادة كتابة الذاكرة من منظور إنساني، لا قبلي ولا عسكري، إذ تنفتح الرواية على السؤال الأكبر: كيف يتحول ما هو محلي إلى كوني؟ وكيف تتسرب خبرة البادية في حياة الجنود الأميركيين عبر الجمالة العرب الذين انتقلوا معهم إلى صحارى نيفادا وتكساس؟

لا يقوم التكامل الذي تلوح به الرواية على الهيمنة، إنما على تبادل الخبرات، على إدراك أن المعرفة لا تنمو إلا في ظل المشاركة. فالجمالة العرب الذين رافقوا فيلق الإبل الأميركي أدخلوا في التجربة العسكرية بعدا إنسانيا وروحيا، حين جعلوا من مهارتهم في ترويض الطبيعة درسا في الصبر والتواضع أمام اتساع العالم. والرواية، وهي تستعيد هذا الأثر، تكتب عن العبور بوصفه فعل تواصل لا غزو، وعن الترحال باعتباره تمرينا على فهم الذات من خلال الآخر.

أحمد السماري

تغدو "فيلق الإبل" في ضوء ذلك أكثر من رواية عن البدو والغزو، إنها تأمل في فكرة المسافة بوصفها قدرا إنسانيا. المسافة بين الصحراء والمدينة، بين الشرق والغرب، بين زمنين يتبادلان الذاكرة والمصير. ولأن التاريخ، كما توحي الرواية، نسيج من المصادفات، فإن فيلق الإبل الأميركي يصبح امتدادا طبيعيا لتاريخ العقيلات، أولئك الذين نقلوا البضائع والقصص والأنساب، ثم وجدوا أحفادهم الثقافيين يدربون الجنود الأميركيين على عبور الرمال، لتكون دورة رمزية للمعرفة تنتقل من الشرق إلى الغرب وتعود في شكل آخر.

font change

مقالات ذات صلة