الفنان السعودي راشد الشعشعي والسير في حقول الدهشة

الفن بوصفه تأملا في التجربة الشخصية والجماعية

الفنان السعودي راشد الشعشعي

الفنان السعودي راشد الشعشعي والسير في حقول الدهشة

سعت المملكة العربية السعودية وبشكل لافت خلال السنوات القليلة الماضية إلى دعم المواهب السعودية في شتى المجالات الفنية، وقد وصل عدد من الفنانين السعوديين إلى العالمية بنصوصهم البصرية المختلفة والغنية بالدلالات. من هؤلاء الفنانين برز الفنان المتعدد الوسائط راشد الشعشعي الذي جعل الفن مجالا للتأمل في الذاكرة الشخصية والجماعية على السواء، وتجربة وجودية لا تخلو من التوتر، تحفز العقل وتستثير الوعي، محولة الدهشة إلى نافذة لفهم الماضي، وقراءة الحاضر، والتخيل المستقبلي.

ما قبل وما بعد 2030

كانت الهوية التشكيلية السعودية التقليدية قبل "رؤية 2030" منشغلة بالتعبير البصري عن الثقافة الوطنية، وذلك fكثير من حس الأصالة عبر استلهام عناصر من التراث المحلي مثل البيئة الصحراوية، والمباني الطينية، والخط العربي، والأزياء. وهدفت هذه الهوية إلى المشاركة في تقديم رؤية فنية للسعودية، ترتكز على محاور مثل التراث والمكان والمرأة والمجتمع.

ومع انطلاقة الحقبة الجديدة في تاريخ المملكة العربية السعودية، لحق الفنانون السعوديون بركب المعاصرة، ولكن على صهوة حصان عربي لا يعرف التخلي عن أصوله. وفي هذا السياق نذكر أحد الأعمال التي قدمها الفنان السعودي المتعدد الوسائط راشد الشعشعي سنة 2020 وحملت عنوان "صحراء إكس العلا". عمل فني لافت برزت فيه موهبة الفنان وقدرته على احتواء أهمية الفكرة التي أراد إيصالها الى جمهوره وتظهيرها أمام المشاهد المأخوذ بجماليتها. العمل هذا هو عبارة عن ممر يحاكي مرور قوافل البضائع من الماضي إلى الحاضر، رابطا بين الأفق الواسع والأنظمة الاقتصادية المعاصرة.

اكتسبت "رؤية 2030" في خطاب الشعشعي بعدا زمنيا وإيحائيا يتجاوز معناها المباشر، إذ استخدمها للإشارة إلى مرحلة سابقة على التحولات الكبرى التي يشهدها المشهد السعودي في إطار "رؤية 2030". فهي تحمل علامة فاصلة بين زمنين: زمن ما قبل التحديث السريع وما بعده، وتستدعى بوصفها أداة لتأمل ما يتغير وما يستبدل وما يختفي في خضم التحولات العمرانية والثقافية المتسارعة. وبهذا تتحول "قبل 2030" إلى إطار قرائي يعيد الفنان عبره النظر في الهوية والمكان، ويسائل أثر التحديث في القيم والبنى الاجتماعية، وإن ظل ذلك في سياق رمزي لا يعبر عن واقع التحول تعبيرا مباشرا.

لم يعد الفنان يعمل كمؤسسة فردية، فالممارسة الفنية أصبحت عملا جماعيا تتضافر فيه جهود الفنانين والمهندسين والمعماريين والعلماء والمتخصصين في مجالات مختلفة لخلق الدهشة

يشير الفنان في إحدى المناسبات إلى تحول الجمهور الفني في السعودية قائلا: "جمهور الرياض أصبح تواقا لرؤية الجديد والمختلف والمثير، ولم تعد تدهشه الأشياء المعتادة أو التقليدية... أصبح العالم أشبه بقرية واحدة مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي والانفجار المعرفي في العالم، فالمتلقي صار يشبه أي متلق في أي مكان. الفرق أحيانا يكون في بعض التفاصيل الصغيرة". ويضيف: "لم يعد الفنان يعمل كمؤسسة فردية، فالممارسة الفنية أصبحت عملا جماعيا تتضافر فيه جهود الفنانين والمهندسين والمعماريين والعلماء والمتخصصين في مجالات مختلفة لخلق الدهشة". أكبر مثل على ما أشار إليه الفنان، هو الهرم الضخم والشفاف الذي تعاون على تصميمه وإنجازه عدد من التقنيين والفنانين. عمل استطلع الفنان عبره أن يقيم توازنا ما بين الضخامة والدقة، والشفافية والصلابة.

أهرام من نوع آخر

يعد "الهرم الخامس" من أهم أعمال الفنان وقد سجل في موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية بوصفه أكبر عمل فني مضاء على شكل هرم وهو مصنوع من مواد قابلة للتدوير. ومع أن "غينيس" تحتفي بالإنجازات الاستثنائية من حيث الحجم أو الرقم، لا بالقيمة الفنية أو التاريخية، فإن هذا العمل استحق تقديرا فنيا من نوع مختلف.

الهرم الخامس

يلعب الفنان دورا أساسيا في فتح حقل البصر أمام جمهوره، ليس فقط من خلال تقديم أعمال معاصرة  غنية بالأفكار، بل أيضا قي تقديم نص مرافق لكل عمل يقدم فيه مفاتيح القراءة الفنية. فعلى سبيل المثل، جاء في البيان الصحافي المرافق للهرم الخامس أنه "يمثل دمجا سلسا ما بين التراث المصري والممارسات المستدامة، مع إحياء فن النسج بالقش في قالب معاصر".

جاءت تصريحات الفنان تأكيدا لأهمية هذا العمل من حيث مغزاه وطريقة تقديمه بصريا، إذ قال: "اعتمدت على عملية إعادة التدوير لأنها، في نظري، من أهم أدوات الوعي البيئي، فهي تتيح الاستفادة القصوى من الموارد الطبيعية وتقليل الأثر البيئي. فعدد سكان الأرض في تزايد مستمر، بينما تبقى الموارد محدودة، مما يفرض علينا التفكير في طرق جديدة لإعادة استخدام المواد بما يحافظ على البيئة بدلا من استنزافها".

بين الذاكرة والرمزية الآمنة

يحتل راشد الششعي موقعا ملحوظا ضمن مشهد الفن المعاصر في السعودية، غير أن قراءة منطق عمله تكشف عن خصائص محددة تميز تجربته عن كثير من الفنانين في المنطقة. فعلى خلاف الممارسات التي تبنى على طبقات متعددة من الذاكرة والخبرة والسياق الاجتماعي، يستند الششعي إلى ذاكرة واحدة مركزية تشكل حجر الأساس في مشروعه الفني: الرواية العائلية المتصلة بحادثة اقتحام المسجد الحرام عام 1979 وهروب جده من نافذة على شكل نجمة.

المدينة من خلف الجبل

واختار راشد عن عمد قرية مهجورة ليجسد الإحساس بالخراب والهجران الذي يشعر به أبناء جيله. وفي ثلاثية تصويرية معبرة، يقدم الفنان محاولات هروب مستحيلة من القرية كرمز للاختناق، مستخدما فتحة على شكل نجمة في سياج يطل على الخارج بوصفها المنفذ الوحيد نحو الحرية. ومع كل صورة، يعيد صوغ مسارات الهروب ويبرز استحالته عبر تغير المشهد الخلفي باستمرار، ليخلق بذلك سردا بصريا يتأرجح بين الذاكرة والواقع، وبين الماضي والرغبة في تجاوز آثاره.

لا يصور الشعشعي الدين نفسه كفخ، بل ينتقد استغلال مفهوم الخلاص الروحي من قبل الجماعات المتطرفة لتبرير العنف والسيطرة

استخدم الفنان راشد الشعشعي رمزية النجمة كعنصر متكرر يمثل هروب جده وأمل جيله في تحقيق "الخلاص" من خلال التفكير النقدي والمستقل في مواجهة القمع الديني. أصبحت النافذة على شكل "النجمة الإسلامية"، التي فر من خلالها جده، رمزا قويا في أعماله لـ"الخلاص الواثق بالنفس"، وحكاية شخصية تحمل معنى كبيرا للفنان منذ نشأته.

لا يصور الشعشعي الدين نفسه كفخ، بل ينتقد استغلال مفهوم الخلاص الروحي من قبل الجماعات المتطرفة لتبرير العنف والسيطرة، موضحا الفرق بين الإيمان الشخصي الإيجابي لجده وأيديولوجيا المسلحين الذين اقتحموا الحرم المكي عام 1979. ويشير ذلك إلى أن الإيمان والخلاص الحقيقيين هما رحلتان شخصيتان، وليستا فخا عقائديا، وأن هذا النقد موجه نحو التفسيرات الاجتماعية والسياسية للدين وليس الدين نفسه ككل.

من أعمال راشد الشعشعي

يشير مصطلح "الرمزية الآمنة" في الفن المعاصر في الخليج، بما في ذلك أعمال راشد الشعشعي، إلى التعبير عن قضايا حساسة بطريقة غير مباشرة عبر الاستعارة والتجريد، أو الصور المشفرة، بدل التعبيرات المباشرة. يطبق الشعشعي هذا النهج بأسلوبه الخاص وبذكاء، منتقدا التطرف فلسفيا ورمزيا ومفاهيميا بدلا من التعبير السياسي المباشر، مستخدما عناصر مثل نافذة النجمة كرمز للخلاص، القرية المهجورة كاستعارة لآثار التطرف، والأدوات المنزلية للتساؤل حول العمارة المقدسة. يعتمد على التكرار والتجريد للتحدث عن أنظمة الإيمان، بحيث يبقى النقد حاضرا لكنه مغلف بالاستعارة والرمزية.

بين الدهشة المجانية والوعي

ذكر الشعشعي أن الفنان "لم يعد يعمل كمؤسسة فردية، فالممارسة الفنية أصبحت عملا جماعيا لخلق الدهشة". لعل التوتر الأكثر وضوحا في تجربة الشعشعي يتمثل في علاقته مع مفهوم الاستهلاكية و خلق"الدهشة" في نفوس الناظرين إلى الأعمال. فالفنان من جهة، يعلن رفضه لسيادة المنتجات الجاهزة وهيمنة السلع على الحياة اليومية، لكنه في الوقت نفسه يجعل من هذه السلع المادة الأساس لبناء أعماله. البلاستيك والأدوات المنزلية الرخيصة، والمنتجات ذات الاستعمال السريع، تتحول في يده إلى عناصر رمزية وإلى وحدات تركيبية تحمل دلالات دينية وروحية. هذه الازدواجية تخلق مفارقة مفهومية: فالفنان ناقد لثقافة الاستهلاك، لكنه يعتمد على أدواتها لبناء لغته البصرية. هكذا يتمكن من جعل فنه محفزا للتأمل وغير قابل للنسيان.

أبواب الجنة

 في عالم الفن المعاصر، كما في أعمال الشعشعي، يتحول منطق الإدهاش إلى توظيف لآليات الإبهار التي  يستخدمها  العالم الاستهلاكي، وليس بالضرورة لتحفيز الشراء المباشر، لكنه يبرز الدهشة كوسيلة لجذب الانتباه وتحريك المشاعر. ومع ذلك، فإن "مجانية" هذه الدهشة ليست مجانية تماما، فحتى لو لم يدفع المتلقي المال مباشرة، فهو يدفع بانتباهه وتركيزه ووقته بمعنى آخر، تصبح الدهشة أداة تسويقية، تستخدم لإدارة الانتباه.

هكذا يمضي راشد الشعشعي، بخرقه الواعي للمألوف، مرتقيا بمستوى التأمل والتأويل في أعماله، ليرسخ مكانته بوصفه أحد أبرز الفنانين المعاصرين وأكثرهم تأثيرا

من المنظور التشكيلي والفني، ليست فكرة "الدهشة" جديدة على الفن، فهي جزء أصيل من تاريخه الطويل، منذ العصور الباروكية مرورا بالسوريالية وصولا إلى فنون ما بعد الحداثة. فقد سعى الفن دائما إلى كسر المألوف، وإثارة العاطفة، وخلق صدمة أو غرابة، ومفاجأة المتلقي بصريا أو فكريا، لتصبح الدهشة عنصرا جوهريا في العملية الإبداعية. من ناحية أخرى يجب ذكر عمله الفني الأقل تكلفة ماديا والمعنون بـ"بيب بيب".

عمل لراشد الشعشعي

فقد وظف فيه الفنان شخصيتي الرسوم المتحركة العالمية "الرود رنر" أو "طائر العقاب السريع"، و"بغز بني"، أي الأرنب القاضم النهم للجزر، ليصور وببراعة فنية وذكاء حاذق نقد الاستهلاكية الجارفة التي "تستعبد" الناس، وقد تجلى ذلك في تقديمها على شكل نافذة مزدوجة ومزخرفة بزجاج ملون تستحضر بهاء وروحانية نوافذ المساجد والكنائس. وهكذا يمضي راشد الشعشعي، بخرقه الواعي للمألوف، مرتقيا بمستوى التأمل والتأويل في أعماله، ليرسخ مكانته بوصفه أحد أبرز الفنانين المعاصرين وأكثرهم تأثيرا.

font change

مقالات ذات صلة