الكاتب البرتغالي جواو مورغادو لـ"المجلة": ابن عمار يجسد في آن واحد مجد الأندلس وهشاشته

الأدب الحي لا يطمئن اليقينيات بل يوقظ الأسئلة

facebook
facebook
الروائي البرتغالي جواو مورغادو

الكاتب البرتغالي جواو مورغادو لـ"المجلة": ابن عمار يجسد في آن واحد مجد الأندلس وهشاشته

يعد جواو مورغادو من أبرز الأصوات الأدبية البرتغالية المعاصرة، بفضل مشروعه الأدبي المتنوع الذي يجمع بين الرواية التاريخية والسرد المعاصر وأدب الأطفال، ويقوم على إعادة قراءة التاريخ من منظور نقدي. ولد عام 1965 في كوفيليا، وكتب أعمالا لافتة أعادت مساءلة شخصيات مفصلية من عصر الاكتشافات البحرية، منها عمله المعروف بعنوان "ثلاثية المستكشفين"، إلى جانب سيرة روائية عن كامويس بعنوان "كتاب الإمبراطورية".

أما في السرد المعاصر، فقد أصدر مورغادو "ثلاثية الحميمية" التي يغوص من خلالها في أسئلة التعاسة والهشاشة الإنسانية وتآكل الشعور بالسعادة. كما كتب في أدب الطفل، ومن أبرز أعماله في هذا المجال "شاطئ الجميلات" الذي يمزج الحكاية الطفولية برسالة بيئية وثقافية مستلهمة من التراث الأفريقي. ترجمت أعماله إلى لغات عدة من بينها الإنكليزية والروسية والصربية والصينية.

حصد مورغادو عددا من الجوائز والتكريمات الأدبية المهمة، من بينها "ميدالية الاستحقاق الأدبي" في البرازيل عام 2017 وجائزة "فريرا دي كاسترو" في 2019، كما دخلت روايته الأحدث "غبار في المهب" ضمن القائمة الطويلة لجائزة دبلن الأدبية العالمية 2026.

في هذا الحوار مع "المجلة"، يتحدث جواو مورغادو عن التعدد بوصفه جوهر الهوية الأدبية، وعن شغفه بأنسنة التاريخ، وعن مشروعه الجديد حول الشاعر الأندلسي ابن عمار، في محاولة واعية لبناء جسر سردي بين الثقافتين البرتغالية والعربية.

كتبت في أجناس أدبية عدة، كيف تنظر إلى هذا التنوع؟ هل هو بحث عن صوتك الخاص، أم إقرار بأن الكاتب لا يمكن حصره في نوع واحد؟ وكيف ينعكس هذا التعدد على هويتك الأدبية والرسالة التي توجهها إلى القارئ؟

أنا كاتب أفضل التعددية في الموضوعات التي أطرحها، وفي البنية السردية التي أستخدمها، وكذلك في الأصوات. أكتب الرواية والقصة القصيرة والشعر والمسرح واليوميات. لا أعتبرها استراتيجيا، بقدر ما أنها دافع طبيعي. أنتقل من الملحمي إلى الحميمي، ومن الذكوري إلى الأنثوي، ومن نبرة قديمة إلى أخرى معاصرة، بعفوية إبداعية تعرفني. وكثيرا ما أقول: "كل أسمائي المستعارة تعيش في البيت نفسه، وتنظر إلى العالم من الشرفة ذاتها، ولذلك تجيب جميعها عن الاسم نفسه".

الأدب التاريخي لا يمكن أن يظل حبيس الرواية الرسمية الخالية من الخطايا، بل يجب فهم شخصيات الماضي في سياق الفكر السياسي والاجتماعي والديني لعصرها


هذا التنوع نابع من حياة متعددة الوجوه. عملت في النسيج، وفي البيع، وفي الصحافة، والتسويق، والسياسة، وكتابة السيناريو. أرى أن الأدب يجب أن ينتقل من الحياة إلى الكتب، وليس من طريقة واحدة للتعبير عن العالم. الهوية الأدبية لا تحتاج إلى أن تكون واحدة كي تكون صادقة.

العالم الأفريقي

كتاب "شاطئ الجميلات" موجه الى الأطفال ويمثل أول اقتراب لك من العالم الواسع للثقافة الأفريقية. هل حدثتنا عن هذه التجربة؟

أعتبر هذا الكتاب جزءا من هذا التنوع في عملي، وقد ولد من مبادرة اجتماعية، وتم التبرع بعوائده لمدارس في الرأس الأخضر، الأرخبيل الأفريقي الناطق بالبرتغالية، وهو يروي قصة صداقة بين طفلة ودمية، ويحمل في الوقت نفسه رسالة بيئية ملحة حول حماية المحيطات، من خلال شخصية إلهة الماء.

يتضمن الكتاب مقاطع بلغة "الكريولو"، وهي لغة نشأت من تفاعل البرتغالية مع لغات أفريقية. وهو تركيب ثقافي أراه بالغ الجاذبية. أدب الأطفال يجب أن يعلم، وينبه ويزرع بذور المستقبل. وآمل أن تكون هذه الخطوة الأولى ضمن مشاريع أخرى تحتفي بغنى الثقافة الأفريقية.

ذكرت سابقا أن الأدب التاريخي في البرتغال له تقليد عريق، وأن الشكل الراسخ للرواية التاريخية بدأ في القرن التاسع عشر مع ألكسندر هيركولانو، الذي تعتبره مرجعك الأهم في هذا المجال...

غلاف رواية "جنة البحر"

كما أسس فيكتور هوغو في فرنسا، وتولستوي في روسيا، الرواية التاريخية الكبرى، فقد فعل ألكسندر هيركولانو الشيء نفسه في البرتغال خلال القرن التاسع عشر. وعلى خطاه، أسعى إلى التقاط روح تلك الأزمنة والدراما الإنسانية لشخصياتها، لكن بمنظور أكثر نقدية، وأقل انسجاما مع النسخة الرسمية التي تكرسها كتب التاريخ المدرسية.

في كتبي، الشخصيات التاريخية تمتلك فضائل ونقائص، شأنها شأن كل البشر.

الجدل الأدبي الصحي يثري فهمنا للتاريخ، وسواء كانت الشخصية التاريخية محبوبة أم مكروهة، فإنها لم تعد مجرد اسم

 هذه الأنسنة وإن كانت مثيرة للجدل أحيانا، هي ما يتيح للقارئ اليوم أن يتواصل بشكل حقيقي مع الماضي، وأن يرى في تلك الشخصيات المعضلات الأخلاقية والعاطفية ذاتها التي نعيشها. هذا المنهج في إدخال التاريخ إلى الأدب له صدى في التراث العربي، مع ابن خلدون وغيره من الكبار الذين فهموا أن التاريخ ليس مجرد تسلسل زمني، بل تعبير عن الطبيعة الإنسانية. الأدب الحي لا يطمئن اليقينيات بل يوقظ الأسئلة. والرواية التاريخية ينبغي أن تلتزم هذا المبدأ.

أبطال بعيوب

غالبا ما تظهر أعمالك الأبطال القوميين بإنسانيتهم، كاشفا فضائلهم وعيوبهم معا. هل يمكن أن نعتبر هذا البعد الإنساني أساسيا عندك؟

التاريخ يصنعه البشر، لا أساطير معصومة ولا آلهة، بل أناس بطموحاتهم وهشاشتهم وتناقضاتهم. كما كتب كامويس، أعظم شعراء اللغة البرتغالية، هناك من أفلتوا بأفعالهم من "قانون الموت" في الذاكرة الجماعية. لكن لكي يرى قارئ اليوم نفسه فيهم، فعلينا أن نفهمهم بكل وجوههم.

غلاف رواية "كابرال"

طموح فرناندو دي ماجلان وعناده قاداه إلى عبور الأطلسي نحو الهادئ، جامعا عوالم كانت منفصلة عن أوروبا. وهوس الملك سيباستيان قاده نوعا ما إلى الحملة الكارثية التي انتهت في القصر الكبير، ومهدت لاتحاد التاجين البرتغالي والإسباني، حين حكم البرتغال ملك أجنبي لستين عاما. الأدب التاريخي لا يمكن أن يظل حبيس الرواية الرسمية الخالية من الخطايا، بل يجب فهم شخصيات الماضي في سياق الفكر السياسي والاجتماعي والديني لعصرها. تلك الحقيقة الإنسانية، بكل تعقيدها، هي ما أسعى إلى تفكيكه.

يشير نقاد إلى أن رواية "غبار في المهب" تظهر الجانب المظلم من فاسكو دي غاما. كيف وازنت بين الدقة التاريخية والحاجة إلى الأنسنة والإبداع؟

أبرم، حين أكتب، ميثاقا مع القارئ. الرواية عمل تخييلي في المقام الأول، لكن من واجبي أن أقدم أدق ما هو معروف من معلومات، في صوغ أدبي ييسر الفهم ويمتع القارئ. وفي هذه الرواية، حاولت رسم شخصية المستكشف البرتغالي فاسكو دي غاما بالتعقيد الذي تسمح به الوثائق والزمن من دون تقديس، ومن دون إسقاط أحكام معاصرة عليه. الرواية لا تسعى إلى إدانته، بل إلى فهمه ووضعه في سياق شخصيته، قيمه، المعضلات التي واجهها. العنف الذي مارسه موثق. ورغم الصدمة التي يتسبب لنا بها اليوم، يجب فهمه في سياقه الاجتماعي والسياسي والديني في القرن الخامس عشر. لا ينبغي إخفاؤه، بل شرحه وتأطيره. كما كتبت: "أن تكون بطلا لشعب، لا يعني أن تكون قديسا".

الأدب مساءلة دائمة، فتح للعيون، تمرين على الوضوح في مواجهة يقينيات تريحنا لكنها كثيرا ما تحجب الحقيقة الإنسانية

صحيح أن خيار الأنسنة لا يحظى دائما بإجماع، لكنني أؤمن بأن الجدل الأدبي الصحي يثري فهمنا للتاريخ، وسواء كانت الشخصية التاريخية محبوبة أم مكروهة، فإنها لم تعد مجرد اسم، بل صارت من لحم ودم.

ثلاثية المستكشفين

تعيد بعض رواياتك بناء لحظات مفصلية في تاريخ البرتغال. ما الذي يجذبك إلى هذه العصور وهذه الشخصيات تحديدا؟

تتمحور "ثلاثية المستكشفين"، التي تحمل عناوين الهند، فيراكروز، وفرديناند ماجلان وطائر الجنة حول شخصيات تركت أثرا عميقا في تاريخ البرتغال والعالم خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر. فاسكو دي غاما الذي فتح الطريق البحري إلى الهند، وبيدرو ألفاريش كابرال، الذي وصلت بعثته إلى الأرض التي أصبحت بعد ذلك البرازيل، وفرديناند دي ماجلان الذي حققت رحلته، وأتمها إلكانو بعد موته، أول دورة كاملة حول الأرض، مؤكدة كرويتها.

غلاف رواية "الهند"

ما يجذبني إليهم ليس إنجازهم الاستكشافي فحسب، بل المعضلات الإنسانية التي واجهوها. قرارات مستحيلة، صراعات ولاء، طموحات بلا حدود، ومخاوف. كانت رحلات قاسية إلى حد تشبيههم كأشخاص خارقين للطبيعة يواجهون الحر والبرد، العواصف والجوع، الأمراض والحرمان، أمور لا نتخيلها ونحن نقرأ التاريخ.

كما أحرص على إبراز التطور المعرفي والعلمي في تلك الأزمنة مثل تصميم السفن، وفهم الرياح والمد والجزر والنجوم. وكان للإسهام العربي خصوصا في الملاحة الفلكية ورسم الخرائط، دور حاسم لا غنى عنه. لقاء حضارات أعاد رسم الخرائط وتبادل المعارف، لكنه جلب أيضا صراعات ومآسي. إنها مساحة أدبية ثرية للغاية، اللحظة التي أصبح فيها العالم مترابطا حقا، بكل وعوده وكل ظلاله.

facebook
جواو مورغادو

ما الشخصيات التالية التي تنوي الكتابة عنها؟

كتبت رواية سيرة عن كامويس، الشاعر القومي ومؤلف "اللوسياد"، الملحمة الكبرى التي تضعه إلى جوار هوميروس والسرديات الملحمية الكبرى في التراث العربي مثل سيرة عنترة وشعر المتنبي.

أما عن الشخصيات غير البرتغالية، فاقتربت من إنهاء عمل عن ابن عمار، الشاعر الأندلسي في القرن الحادي عشر الذي ترك أثرا بالغا في الشعر العربي. قصته الآسرة، صداقته ومنافسته للمعتمد ابن عباد، عبقريته الشعرية، ومصيره التراجيدي، فضاء أدبي طالما جذبني. تمثل الأندلس بالنسبة لي فضاء التقاء الثقافات، حيث ازدهرت العربية شعرا وفلسفة وعلوما على نحو فريد. وابن عمار يجسد في آن واحد مجد الأندلس وهشاشته. بهذا العمل، آمل أن أبني جسورا بين التقاليد السردية البرتغالية والعربية.

"ثلاثية الحميمية"

"ثلاثية الحميمية" تغوص في موضوعات شخصية كالتعاسة والنقص والخيانة. ما الخيط السردي الذي جمع هذه الروايات الثلاث؟

ولدت "ثلاثية الحميمية" من سؤال بسيط، ماذا لو لم تحقق الحياة وعد "وعاشا في سعادة أبدية"؟ هذه روايات تبدأ حيث تنتهي روايات أخرى. حين لا يعود الحب أعمى، وحين يتسلل المرض والملل وخيبة الأمل. تستكشف ما يتجنبه الأدب غالبا، تآكل اليومي، الشيخوخة، الهشاشة، الصمت الذي يلي الشغف.

ساراماغو يكتب بأسلوب يوحي وكأنه يحكي قرب الموقد، فينساق القارئ خلف بساطة ظاهرة تخفي تعقيدا عميقا

 شخصياتي أناس عاديون، مثل معظمنا. يقول أحدهم: "لن يكتب أحد رواية عنا أبدا". لكن في تلك "العادية" تتفجر أعمق الأسئلة: كيف نواجه خيبة الأمل في أنفسنا؟ وكيف نتعامل مع النقص والتعاسة والتقدم في العمر؟ الأدب، في اعتقادي، مساءلة دائمة، فتح للعيون، تمرين على الوضوح في مواجهة يقينيات تريحنا لكنها كثيرا ما تحجب الحقيقة الإنسانية. هذه الروايات الثلاث، في النهاية، تأمل في الحالة البشرية حين تتجرد من الأوهام. وفي إمكان العثور على معنى وكرامة حتى داخل نقص الوجود.

يحتل جوزيه ساراماغو مكانة فريدة في الأدب البرتغالي والعالمي المعاصر. في رأيك، ما العناصر الجوهرية في مشروعه الأدبي؟

نال ساراماغو جائزة نوبل للآداب عام 1998 لأنه نجح في أمر نادر، تحويل أسئلة فلسفية عميقة إلى سرديات متاحة للجميع. تكمن عبقريته في الانطلاق من فرضيات استثنائية، مثل ماذا لو أصيب الجميع بالعمى؟ (رواية "العمى")، ماذا لو توقف الموت عن العمل؟ (رواية "انقطاعات الموت") ليصوغ تأملات ملحة في زمننا. ساراماغو يكتب بأسلوب يوحي وكأنه يحكي قرب الموقد، فينساق القارئ خلف بساطة ظاهرة تخفي تعقيدا عميقا في الأسئلة الأخلاقية والسياسية والوجودية التي يطرحها.

font change

مقالات ذات صلة