يقف الشرق الأوسط عند مفترق طرق. تتقاطع الأزمات الممتدة وتحتدم المنافسات مع تحولات إقليمية ودولية عميقة، لتطرح سؤالا وجوديا على عدد من دوله: أي طريق نسلك؟ وأي دولة نريد؟
في سوريا ولبنان والسودان وليبيا واليمن والصومال وغيرها، لا يدور الصراع حول السلطة أو الموارد فحسب، بل حول شكل الدولة نفسها. معناها، ووظيفتها، وحدودها. إنها صراعات على تعريف الكيان السياسي: من يملك الشرعية؟ ومن يحتكر العنف؟ وما الحدود؟ ولصالح أي عقد اجتماعي تُدار المجتمعات؟
هناك مساران يتبلوران بوضوح، لكلٍ منهما أنصاره، ولكلٍ مخاطره وتداعياته بعيدة المدى.
المسار الأول هو تعزيز الدولة الوطنية. دولة واحدة ذات سيادة كاملة، وشرعية أممية، بحدود معترف بها، وجغرافيا موحدة، وهوية وطنية جامعة لا تلغي التعددية بل تستوعبها. تحتفي بالتنوع. تقوى بالاختلاف. جيش واحد. دولة مؤسسات تحتكر السلاح. تعيد الاعتبار للقانون والمواطنة، وتفصل بين الولاءات الأولية– الطائفية أو الدينية أو القبلية أو المناطقية – وبين الانتماء الوطني.
هذا المسار صعب ومجهد. يتطلب تسويات مؤلمة وإصلاحات عميقة وتجاوز اختبارات كثيرة، لكنه وحده القادر على إنتاج استقرار مستدام، وإخراج المجتمعات من دوامة الحروب المفتوحة، وإعادة إدماجها في النظامين الإقليمي والدولي بوصفها دولا، لا ساحات صراع.
أما المسار الثاني، فهو مسار الأقاليم والتفكك والإدارات المتعددة، سواء جرى تسويقه تحت عناوين فيدرالية فضفاضة، أو حكم ذاتي غير منضبط، أو كأمر واقع تفرضه قوى السلاح. قد يبدو هذا المسار، للبعض، أقل كلفة على المدى القصير، ويمنح جماعات محلية شعورا بالأمان أو السيطرة، لكنه في جوهره يؤسس لدول ضعيفة، مفتوحة على التدخلات الخارجية، وعاجزة عن إنتاج سيادة فعلية أو شرعية أممية أو تنمية مستقرة. سيناريو ينتج مسرحا للصراعات، لا دولة تنسج الاتفاقات.
تكشف تجربة الصومال، على امتداد عقود، أن إدارة التفكك لا تعني الخروج منه. اعتراف إسرائيل بـ"أرض الصومال" يظهر محاولات إضفاء شرعية خارجية على كيان الأمر الواقع، لأغراض جيوسياسية
في سوريا، يتجلى هذا التناقض بوضوح بين منطق إعادة بناء الدولة المركزية الجامعة، ومنطق مناطق النفوذ التي تُدار بقوى الأمر الواقع، وتُبقي البلاد معلّقة بين الحرب والتسوية ومسرحا لتنافس اقليمي ودولي.
وفي اليمن، أدّى تحدي الدولة إلى تشابك الصراع الداخلي مع تغلغل دول بعيدة عابرة للحدود ومهددة للشرعية لترهن مصير البلاد في "وحدة الساحات". بات غياب الدولة ودعم الميليشيات العامل الأبرز في إطالة أمد الحرب وفتح أبواب الدعوات الأحادية للانفصال.
أما ليبيا، فتمثل نموذجا صارخا لدولة غنية بالموارد وفقيرة بالمؤسسات وهاربة من الانتخابات، حيث قاد تعدد مراكز القوة المسلحة إلى شلل سياسي دائم وتقاسم نفوذ لا ينتج استقرارا. بلاد معلقة بين غربها وشرقها.
وفي السودان، أعاد انهيار التوافق على الدولة الوطنية فتح أسئلة الهوية والسلطة والمركز والأطراف والأقاليم، في سياق يهدد وحدة الكيان ذاته. تتمدد الميليشيات وتصدر أصوات الانقسام ونسخ "دولة الجنوب". وفي لبنان، يتمدد سؤال الجيش والميليشيات على جسد دولة ضعيف مفتوح أمام الصراعات والغارات.
وتكشف تجربة الصومال، على امتداد عقود، أن إدارة التفكك لا تعني الخروج منه، وأن غياب الدولة المركزية يرسّخ شهوة الانفصال أكثر مما يخلق بدائل مستدامة، ويفتح المجال لتحول البلاد إلى ساحة صراع إقليمي. اعتراف إسرائيل بـ"أرض الصومال" يظهر محاولات إضفاء شرعية خارجية على كيانات الأمر الواقع، لأغراض جيوسياسية.
الشرق الأوسط اليوم بين مسارين، والاختيار ليس نظريا ولا مؤجّلا. إنه قرار يُتخذ يوميا في السياسات، وفي موازين القوة، وفي قدرة النخب على تقديم الدولة بوصفها حلا لا عبئا
تُظهر هذه التجارب وغيرها، أن انهيار الدولة لا يُنتج كيانات مستقرة، بل فراغا تتسابق لملئه الميليشيات، والاقتصادات السوداء، والتدخلات الخارجية. كما أن تحويل التعدد الاجتماعي والثقافي إلى حدود سياسية صلبة لا يحل الإشكال، بل يعيد إنتاجه بأشكال أكثر تعقيدا وحدّة.
المنطقة ليست بحاجة إلى خرائط جديدة ولا أقاليم طارئة بقدر حاجتها إلى عقد اجتماعي جديد داخل الدول القائمة. عقد يعترف بالتنوع، ويضمن الشراكة، ويعيد تعريف العلاقة بين المركز والأطراف، من دون كسر الدولة أو تفريغها من مضمونها السيادي.
الشرق الأوسط اليوم بين مسارين، والاختيار ليس نظريا ولا مؤجّلا. إنه قرار يُتخذ يوميا في السياسات، وفي موازين القوة، وفي قدرة النخب على تقديم الدولة بوصفها حلا لا عبئا.
فإما دول تتجدد وتستوعب مجتمعاتها، أو كيانات تتشظى وساحات تُدار بالأزمات. والتاريخ، كما الجغرافيا، لا يرحم التردد.