لبنان 2025... دولة عاجزة ماليا ومودعون في دوامة أزمة المصارف

اختلالات مالية واقتصادية جسيمة

Lina Jaradat/Majalla
Lina Jaradat/Majalla

لبنان 2025... دولة عاجزة ماليا ومودعون في دوامة أزمة المصارف

ماذا تغير في اقتصاد لبنان وأوضاعه المالية في عام 2025، وتحديدا منذ انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتكليف رئيس جديد للحكومة، وتأليف حكومة جديدة، وتعيين حاكم جديد لمصرف لبنان؟

أثار انتخاب قائد الجيش جوزيف عون مطلع عام 2025 رئيسا للجمهورية بارقة أمل بإمكان خروج البلاد من الأزمة المالية التي تغرق فيها منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019. وقد عزز هذا الأمل تضمين خطاب القسم وعدا صريحا بحماية ودائع اللبنانيين المحتجزة والمستنزفة لدى المصارف كلها، ثم تكليفه لاحقا، بموجب الاستشارات النيابية الملزمة، القاضي الدولي نواف سلام، الآتي من خارج المنظومة التي أدارت البلاد منذ اتفاق الطائف، تشكيل الحكومة.

لكن الأحداث التي تلت خطاب القسم، سرعان ما أظهرت انحسارا في ومضة الأمل. فعلى الرغم من أن الحكومة التي شكلها نواف سلام ضمنت بيانها الوزاري، الذي نالت على أساسه ثقة المجلس النيابي، تعهدا بوضع خطة متكاملة لحماية حقوق المودعين، فإن تركيبتها أثارت شكوكا واسعة، إذ إن نحو ثلث أعضائها من المصرفيين، بينهم خمسة يشغلون مواقع في مجالس إدارة مصارف محلية، فيما يرتبط معظم الآخرين بصلات عمل أو قرابة بقطاع المصارف.

وجاءت الخطوة الأولى للحكومة لتعمق المخاوف، بعد أن بادرت إلى تعيين كريم سعيد، حاكما لمصرف لبنان، وهو كان أحد أعضاء مجلس إدارة مصرف لبناني، يرأس إدارته المستشار المالي لرئيس الجمهورية. وقد ذكر هذا النهج بالجدل الذي شهدته فرنسا سابقا عندما طرح اسم فرنسوا فيللوروا دو غالو لتولي رئاسة المصرف المركزي الفرنسي، نظرا لعمله السابق مديرا عاما في مصرف "بي. أن. بي. باري با"، وهو ما دفع نحو مئة وخمسين خبيرا وأكاديميا فرنسيا إلى التحذير، في مقال نشرته صحيفة "لوموند"، من خطر تضارب المصالح، متسائلين: كيف يمكن من دافع طويلا عن مصالح القطاع المصرفي، أن يتحول فجأة إلى تجسيد للمصلحة العامة؟ حتى مع تقديم الضمانات، تبقى الشكوك قائمة.

على الصعيد المصرفي، ركزت الحكومة جهودها على تنفيذ الالتزامات المنبثقة من الاتفاق الذي وقع مع صندوق النقد الدولي في أبريل/نيسان 2022 على مستوى الموظفين

ومع مضي حكومة الرئيس سلام في إعادة تشكيل حاكمية مصرف لبنان بروحية مماثلة، طغى حضور القادمين من القطاع المصرفي على مواقع القرار النقدي، الأمر الذي عمق القلق من أن تكون الوعود بحماية أموال المودعين لدى المصارف أقرب إلى الشعارات منها إلى السياسات الفعلية.

تعديل قانون السرية المصرفية

على الصعيد المصرفي، ركزت الحكومة جهودها على تنفيذ الالتزامات المنبثقة من الاتفاق الذي وقع مع صندوق النقد الدولي في أبريل/نيسان 2022 على مستوى الموظفين (Staff-Level Agreement). وكانت أولى هذه الخطوات إعداد مشروع قانون نال موافقة مجلس النواب وصدر في أبريل/نيسان 2025، وقضى بتعديل التعديلات التي أُدخلت عام 2022 على قانون السرية المصرفية.

توسع التعديل الجديد في الجهات التي تلزم المصارف تزويدها المعلومات عند الطلب، دون التذرع بالسرية المصرفية، فلم يقتصر الأمر على القضاء المختص في قضايا الفساد والجرائم المالية، وهيئة مكافحة الفساد، وهيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان، والإدارة الضريبية لمكافحة التهرب الضريبي، بل شمل أيضا ثلاث جهات رقابية إضافية: مصرف لبنان، لجنة الرقابة على المصارف، والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع.

رويترز
الليرة اللبنانية بلا قيمة شرائية وسط تنامي الفساد في مؤسسات الدولة والمصارف

وبموجب الصيغة الجديدة، أصبح يحق لهذه الجهات طلب بيانات مالية تعود إلى ما قبل عشر سنوات، أي منذ عام 2015، في إطار إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وذلك من دون تحديد حسابات أو عملاء بعينهم، على أن يكون كشف أسماء العملاء ممكنا عند الضرورة لتحليل الودائع والتثبت من مشروعيتها، تمهيدا لتنفيذ خطط إعادة الودائع المشروعة إلى أصحابها.

وستحدد معايير تطبيق القانون وضوابطه بمراسيم تصدر في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المالية. وحتى الآن، لم تصدر الحكومة هذه المراسيم، مما أبقى الإطار التنفيذي معلقا في انتظار القرارات التنظيمية اللازمة.

قانون إصلاح وضع المصارف

أما الإجراء الثاني الذي أقره مجلس النواب، ويندرج أيضا ضمن متطلبات الاتفاق على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي، فكان "قانون إصلاح وضع المصارف في لبنان". وقد نص القانون على أن هدفه يتمثل في "تعزيز الاستقرار المالي، ومعالجة حالات التعثر، وحماية الودائع خلال عمليات التصفية والإصلاح، والحد من استخدام الأموال العامة في إعادة تأهيل المصارف المتعثرة".

إلا أن هذا التنظيم الجديد واجه انتقادات واسعة، أبرزها فقدان الهيئة قدرا كبيرا من الاستقلالية والطابع القضائي اللذين تميزت بهما منذ إنشائها

فقد أعاد القانون هيكلة الهيئة المصرفية العليا المنشأة لدى مصرف لبنان، التي يرأسها الحاكم، فقسمها غرفتين:

1.الغرفة الأولى المكلفة اتخاذ القرارات التأديبية والإدارية في حق المؤسسات المخالفة للقوانين ولتعليمات مصرف لبنان،

2. الغرفة الثانية المكلفة اتخاذ قرارات الإصلاح، وآليات المعالجة، أو التصفية، وذلك استنادا إلى تقرير تقييمي نهائي ترفعه لجنة الرقابة على المصارف بالاستناد إلى تقرير يعده مقيم مستقل.

Lina Jaradat/Majalla

إلا أن هذا التنظيم الجديد واجه انتقادات واسعة، أبرزها فقدان الهيئة قدرا كبيرا من الاستقلالية والطابع القضائي اللذين تميزت بهما منذ إنشائها، حين كان يرأسها قاض يوافق عليه مجلس القضاء الأعلى، إضافة إلى تنامي تأثير مصرف لبنان داخل بنيتها بعد التعديل.

فالغرفة الثانية باتت تضم، إلى جانب الحاكم، اثنين من نوابه، مما جعل مصرف لبنان، عمليا، يجمع بين موقعي الخصم والحكم: فهو من جهة طرف أساس في الأزمة باعتباره الجهة التي امتنعت عن رد الأموال التي أودعتها المصارف لديه من ودائع الزبائن، ومن جهة أخرى هو الجهة التي ستصدر الأحكام في حق المصارف التي تعثرت في رد الودائع إلى أصحابها، نتيجة إخلاله هو بالتزاماته تجاهها. وبذلك غاب الضمان الأساس الذي يفترض أن يحكم أي منظومة رقابية عادلة وفعالة.

مشروع قانون "الفجوة المالية"

أقرت الحكومة مشروع قانون يهدف إلى ردم "الفجوة المالية"، وأحالته إلى مجلس النواب، لاعادة الانتظام إلى المالية العامة، ووضع الآليات الكفيلة باستكمال إعادة الودائع التي تقدر بنحو 83 مليار دولار، وهي في معظمها التزامات مترتبة على مصرف لبنان لصالح المصارف.

وبحسب التصور المتداول، يقوم مشروع القانون على تقدير الموجودات المتاحة لدى مصرف لبنان بنحو 49 مليار دولار، موزعة على:

- 11 مليار دولار كسيولة لدى المصارف المراسلة.

- 33 مليار دولار قيمة الذهب.

- 5 مليارات دولار أصول أخرى، بينها ملكيات المصرف في شركات مثل طيران الشرق الأوسط وشركة إنترا، إضافة إلى عقارات مدرجة ضمن محفظته.

من المتوقع أن تثير هذه التوجهات سيلا من الملاحظات والانتقادات، وفي مقدمها مسألة إعادة تحويل الودائع "غير المؤهلة" البالغة 23 مليار دولار، أي تلك التي حولت من الليرة إلى الدولار عند اندلاع أحداث أكتوبر/تشرين الأول 2019 وما بعدها

أما الجزء المتبقي من التزامات مصرف لبنان تجاه المصارف، فيصار إلى معالجته عبر مجموعة من الإجراءات، أبرزها:

- شطب الودائع غير المشروعة المقدرة بـ 2 مليار دولار.

- إلغاء الفوائد الإضافية التي سجلت على الودائع منذ عام 2015 وقيمتها نحو 5  مليارات دولار.

- إجراء تصفية مدروسة للودائع "غير المؤهلة"، أي تلك المودعة بالليرة اللبنانية التي جرى تحويلها إلى الدولار بعد اندلاع أزمة أكتوبر/تشرين الأول 2019، وتبلغ نحو 23 مليار دولار.

في المقابل، يتضمن التصور تسديد نحو 21 مليار دولار للمودعين على فترة تمتد بين ثلاث وخمس سنوات، فيما يجري تحويل 32 مليار دولار من الودائع إلى ما يسمى سندات "زيرو كوبون" أو إلى أسهم ملكية في المصارف، تبعا لخيار المودع.

وبذلك يعاد توزيع عبء المعالجة وفق الآتي تقريبا:

9 مليارات دولار تتحملها الحكومة،

8 مليارات دولار يتحملها مصرف لبنان،

4 مليارات دولار تتحملها المصارف.

ويفترض بهذا الإطار، وفق التصور المطروح، أن يمهد لعملية إعادة هيكلة شاملة تتيح استعادة جزء من الودائع المشروعة، لكن من دون ضمانات واضحة حتى الآن حول آليات التنفيذ أو جدوى التحميل الفعلي للأعباء على الأطراف المختلفة.

انتقادات واسعة لمشروع "شطب الودائع"

من المتوقع أن تثير هذه التوجهات سيلا من الملاحظات والانتقادات، وفي مقدمها مسألة إعادة تحويل الودائع "غير المؤهلة" البالغة 23 مليار دولار، أي تلك التي حولت من الليرة إلى الدولار عند اندلاع أحداث أكتوبر/تشرين الأول 2019 وما بعدها، إلى الليرة مجددا وفق أسعار الصرف التي جرى اعتمادها في عملية التحويل الأولى. ويطرح هذا التوجه سؤالا أساسيا: كيف يمكن قبول ادعاء المصارف، آنذاك، بعجزها عن تلبية سحوبات المودعين بالدولار لعدم توافُر السيولة لديها، فيما كانت في الوقت نفسه تفتح حسابات جديدة بالدولار لكل من بادروا إلى تحويل ودائعهم من الليرة إلى العملة الصعبة؟

وقد عمق مصرف لبنان هذا الانحراف عبر تعميم أصدره في فبراير/شباط 2025، أتاح بموجبه لمالكي هذه الحسابات إجراء سحوبات شهرية بالدولار من "توظيفات دولارية" كانت المصارف قد كونتها لديه من الودائع القائمة قبل الأزمة، مما يعني أن من مُنع من سحب دولار واحد من وديعته "القديمة"، استطاع السحب بالدولار من وديعة مصرفه لدى مصرف لبنان، فقط لأنه حول رصيده من الليرة إلى الدولار بعد اندلاع الأزمة.

كذلك تثار تساؤلات أساسية حول تركيز خطة ردم الفجوة المالية على شطب أكبر قدر ممكن من الالتزامات (أي الودائع)، بدلا من اعتماد مقاربة تقوم على تعزيز الموارد التي تتيح سداد الجزء الأكبر من الودائع، إن لم يكن كلها، حتى بعد الاقتطاعات التي نتجت من تعاميم الحاكم السابق رياض سلامة.

ويأتي في طليعة هذه الموارد، الملف المتعلق بالقروض المصرفية بالدولار، التي سددها أصحابها بشكل غير قانوني، وبغض نظر لافت من مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، على سعر 1500 ليرة للدولار، على الرغم من أن حجم هذه القروض يقدر بنحو 35 مليار دولار. فبدلا من مطالبة هؤلاء بدفع الفارق بين هذا السعر المتدني والسعر الفعلي للدولار، جرى التعامل مع هذه المخالفة كما لو أنها أمر واقع. وكان يمكن هذه المبالغ، لو جرت تسويتها أو فرضت ضرائب عادلة عليها، أن تشكل موردا ماليا مشروعا يساهم في إعادة تكوين الودائع المستحقة.

رفض الصندوق الركيزة الأساس التي يقوم عليها المشروع، أي البدء بشطب أو حسم المبالغ "غير القانونية" من الودائع

ينطبق المنطق نفسه على المشاركين في "الهندسات المالية" التي أطلقها مصرف لبنان، من مصرفيين وغيرهم، والذين جنى عدد كبير منهم أرباحا طائلة. فقد عرض الحاكم السابق رياض سلامة على كل مصرفي يودِع 100 مليون دولار "فريش" أن يحتفظ بـ35 مليون دولار لنفسه، ويجمد مبلغ 100 مليون دولار لصالح مصرفه بفائدة تتراوح بين 5 و6 في المئة لمدة خمس إلى ست سنوات. وتشير دراسة للدكتور والخبير الاقتصادي توفيق كسبار، نشرها معهد "كونراد أديناور"، إلى أن جزءا من تكلفة هذه الهندسات، المقدرة بنحو 38 مليار دولار، لم يظهر في الحسابات المصرفية، ويرجح أنه حوّل إلى الخارج لصالح مصرفيين استفادوا من هذه العمليات.

يتضح مما تقدم، أن استرداد الودائع بالدولار في الحالة التي كانت عليها عند اندلاع الأزمة المالية في أكتوبر/تشرين الأول 2019 ليس أمرا مستحيلا، بل ممكن إذا ما جرى اعتماد المقاربات الواردة في الفقرة السابقة بوصفها أساسا للمعالجة. ويبدو أن السردية الإعلامية المعارضة للقانون أجمعت قبل صدوره على أن  صياغته تمت بمنطق يهدف إلى قضم الودائع وشطب جزء كبير منها، مع التغطية على الانحرافات والارتكابات الخطيرة للمصارف قبل الأزمة وخلالها وبعدها، ثم تحميل نتائجها لغير المسؤولين عنها.

حجة "الأزمة النظامية" وموقف صندوق النقد

جدير بالذكر أن مسودة قانون ردم الفجوة المالية أثارت سجالا واسعا خلال المناقشات الأخيرة التي جرت في واشنطن بين الوفد اللبناني وممثلي صندوق النقد الدولي. فبحسب المعلومات المسربة، رفض الصندوق الركيزة الأساسية التي يقوم عليها المشروع، أي البدء بشطب أو حسم المبالغ "غير القانونية" من الودائع، ثم تحديد مساهمة المصارف في سداد الجزء "المضمون"، والمحدد بمئة ألف دولار لكل مودع في القطاع المصرفي، وليس لكل حساب كما تقضي المعايير الدولية. يضاف إلى ذلك ما نصت عليه المسودة لجهة إشراك المصارف في ضمان سندات طويلة الأجل تمنح للمودعين عن الجزء الذي يفوق هذا المبلغ، تمهيدا لتقييم وضع كل مصرف على حدة.

Reuters
مواطنون لبنانيون يحتجون أمام المصارف في شارع الحمرا، بيروت، لبنان

وقد شدد خبراء الصندوق في المقابل على أن المعالجة يجب أن تبدأ بالاعتراف بجميع الخسائر القائمة ومعالجتها وفق المعايير الدولية، وفي مقدمها تصفير حقوق المساهمين التي تعد سلبية فعلا، وفق معايير "بازل". لكن الوفد اللبناني رد بأن "الأزمة نظامية"، وبأنها لا تطال عددا محدودا من المصارف، مما يجعل تطبيق المعايير الدولية بحرفيتها أمرا غير واقعي.

يذكر أن وصف الأزمة بأنها "نظامية" كان أساسا حجة المصارف منذ بداية الانهيار، بهدف تجنب تحمل أي مسؤولية مباشرة، وإلقاء العبء على "النظام ككل". وقد سمح هذا التوصيف عمليا بطمس الجرائم المالية التي سبقت الانهيار ورافقته وتلته، ومنح غطاء يكبح دور القضاء ويبرر التوقف عن النظر في دعاوى المودعين لاسترداد ودائعهم، كما مهد للدفع نحو معالجات "استثنائية" بذريعة أن القوانين القائمة صممت لظروف طبيعية.

من المتوقع أن تقيد هذه الإجراءات بشكل كبير عمل "جمعية القرض الحسن" التابعة للحزب، إذ ستتوقف عبرها عمليات التبادل المالي والنقدي، كما ستتوقف آلات السحب التي زودت بها فروعها

أما رفض صندوق النقد هذا التوصيف، فيعود إلى أن مقاربته تقوم على مبدأ واضح: عدم تحميل الدولة أي جزء من خسائر المودعين، مما يضمن للصندوق استرداد القروض التي سيقدمها الى لبنان من دون تحميل المال العام أعباء إضافية.

الرقابة على عمليات "اقتصاد الكاش"

اخيرا، أعادت زيارة وفد من وزارة الخزانة الأميركية لبيروت، فتح ملف مكافحة توسع "اقتصاد الكاش" في لبنان، وضرورة تعزيز الرقابة المالية للحد من انتقال الأموال غير المشروعة داخل هذا الاقتصاد وإليه، وخصوصا تلك التي يشتبه بوصولها إلى "حزب الله" أو جهات مرتبطة به.

وفور انتهاء الزيارة، أعلن مصرف لبنان سلسلة إجراءات وقائية تستهدف جميع المؤسسات المالية غير المصرفية المرخص لها، ولا سيما شركات تحويل الأموال وشركات الصرافة والجهات التي تتعامل نقدا بالعملات الأجنبية وتحويلها من لبنان واليه، وتقضي هذه الإجراءات بإلزام تلك المؤسسات تجميع بيانات تفصيلية لكل عملية تبلغ ألف دولار وما فوق، وتحديث نماذج "إعرف عميلك" للمستفيدين، وإرسال البيانات الخاصة بالعمليات المنفذة إلى مصرف لبنان، على أن تتولى لجنة الرقابة على المصارف مهمة متابعة التزام هذه التدابير.

وقد برر مصرف لبنان هذه الخطوات بأنها تهدف إلى تعزيز بيئة الامتثال في القطاع المالي، دعما للجهود الرامية إلى إخراج لبنان من اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF) ومن اللائحة السوداء الأوروبية، من دون الدخول مباشرة في موضوع تمويل "حزب الله"، إذ تدرج الإجراءات تحت عنوان مكافحة تمويل الإرهاب.

القيود على تمويل "حزب الله"

ومن المتوقع أن تقيد هذه الإجراءات بشكل كبير عمل "جمعية القرض الحسن" التابعة للحزب، إذ ستتوقف عبرها عمليات التبادل المالي والنقدي، كما ستتوقف آلات السحب التي زودت بها فروعها. وستنحصر العمليات المتاحة لديها بإيداع الذهب كضمان في مقابل الحصول على مبالغ مالية، بما يتوافق مع طبيعة الجمعية كجهة مرخص لها بموجب علم وخبر.

جدير بالذكر أن التشدد في سد قنوات التمويل غير المرئي لـ"حزب الله"، بعد قرار الحكومة حصر السلاح بيد الدولة، يفتح الباب أمام البحث في تقييد التعامل بأصول أخرى، وفي مقدمها الذهب

وكان مصرف لبنان قد سبق أن أصدر في العام المنصرم (2025) قرارا يمنع المؤسسات المالية المرخص لها من التعامل مع "جمعية القرض الحسن"، إضافة إلى مؤسسات أخرى مثل شركة "تسهيلات ش.م.م"، وشركة "اليسر للتمويل والاستثمار"، و"بيت المال للمسلمين"، وأي جهة أخرى مدرجة على لوائح العقوبات الدولية.

قنوات أخرى لتمويل الحزب

جدير بالذكر أن التشدد في سد قنوات التمويل غير المرئي لـ"حزب الله"، بعد قرار الحكومة حصر السلاح بيد الدولة، يفتح الباب أمام البحث في تقييد التعامل بأصول أخرى، وفي مقدمها الذهب. إذ تشير المعطيات إلى أن مسارات تهريب الذهب تمر أساسا من إيران إلى "حزب الله" عبر دول إقليمية، إضافة إلى المنافذ البرية والبحرية والجوية، وسط غياب كامل لرقابة مالية على تجار الذهب أسوة بما يخضع له الصرافون وشركات تحويل الأموال. ووفق بيانات مديرية الجمارك، بلغت قيمة واردات المجوهرات والذهب والمعادن الثمينة حتى يوليو/تموز 2025 نحو 1,751 مليار دولار، أي ما يعادل 15,3 في المئة من الواردات الإجمالية، مقارنة بـ440 مليون دولار فقط في النصف الأول من عام 2019، أي بزيادة قدرها 1,311 مليار دولار. ويمكن ربط هذا الارتفاع بما أعلنه اخيرا وكيل وزارة الخزانة الأميركية لشؤون مكافحة الإرهاب والاستخبارات المالية، من أن إيران نجحت خلال العام الماضي في تحويل نحو مليار دولار إلى "حزب الله".

ويظل تتبع التحويلات المالية للحزب عبر العملات المشفرة المعتمدة على تقنية "بلوك تشين" أكثر تعقيدا، نظرا لغياب تنظيم رسمي لاستخدامها من جانب مصرف لبنان. وعلى الرغم من أن تلك العملات تتداول بشكل لامركزي يمنح مستخدميها قدرا من الإخفاء، إلا أن التطور التقني أتاح مستوى مقبولا من التتبع، كما أظهرت شركة التحليل الإسرائيلية "بيتوك" التي توصلت إلى عناوين مرتبطة بتحويلات تخص حركة "حماس". في المقابل، تبقى العملات المشفرة مكشوفة على أخطار تقلبات حادة في أسعارها، كما يظهر في الفترة الراهنة.

font change