في راهنية "وعد بلفور"

مصادفة تاريخية بين الدعم اللامحدود لإسرائيل من دول غربية بقيادة أميركا وذكرى "وعد بلفور" البريطاني في 1917

AFP
AFP

في راهنية "وعد بلفور"

لعل المصادفة التاريخية هي التي جعلت الظرف الراهن، من جهة الدعم اللامحدود لإسرائيل، عسكريا وسياسيا وماليا، من الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، في استباحتها الأرض الفلسطينية، وقتل الفلسطينيين، وتدمير بيوتهم واقتلاعهم وتشريدهم، سيما في غزة، الأكثر تمثّلا لوعد بلفور البريطاني (1917)، الذي أنتج النكبة الفلسطينية الأولى (1948).

معلوم أن ذلك الوعد، وبدعم من الدول الاستعمارية الغربية، أسهم، عبر جلب اليهود من شتى بلدان العالم، بخاصة من أوروبا الشرقية، للاستيطان في فلسطين، في إنتاج دولة إسرائيل، بواسطة القوة والإرهاب، على حساب الفلسطينيين، أصحاب الأرض الأصليين، مع إضفاء شرعية سياسية و"أخلاقية" عليها، وضمان أمنها وتفوقها اقتصاديا وتكنولوجيا وعسكريا على دول المنطقة، فيما بعد.

المعنى، أن إسرائيل أقيمت، قبل 75 عاما، ليس بنتيجة التطور الطبيعي، السياسي والاجتماعي والاقتصادي في فلسطين، وضمنه لليهود فيها، وليس بفضل حركة سياسية نشأت في الغرب (المنظمة الصهيونية)، أساسا، وكردة فعل على "اللاسامية"، أو على اضطهاد اليهود، فيها، إذ إن تلك الحركة تدين بالفضل، في قوتها وفاعليتها، وتمكنها من إقامة إسرائيل، للدول الغربية، التي احتضنتها ودعمتها، بكل الوسائل، ماليا وعسكريا وسياسيا.

وفي الواقع، فإن الدول الاستعمارية الغربية، وعلى رأسها بريطانيا آنذاك، رأت في إقامة إسرائيل حلا للمسألة "اليهودية" في أوروبا، بتصديرها إلى المشرق العربي (فلسطين)، واستخدامها لليهود في إطار المشاريع الاستعمارية لتلك المنطقة، في ذلك الحين، وكتعويض عن المظالم المرتكبة بحق اليهود.

الحكومات الغربية المعنية، ما زالت تعتبر إسرائيل ابنا شرعيا لها، أو بمثابة ولد عاق، يجب دعمه، وترشيده

هكذا نشأ عن ذلك الوضع استخدام ضحايا اللاسامية، والهولوكوست، فيما بعد، أي اليهود، كأداة لخدمة المشاريع الاستعمارية، وضمنه إيجاد حاجز فصل في الجسر الذي يصل بين المشرق العربي ومصر، كما تم حل المسألة اليهودية في تلك البلدان، بمنحهم "وطنا قوميا" على حساب غيرهم.

هذا السياق هو الذي يفسر حماس قادة الدول الغربية (سيما الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا) لتغطية إسرائيل في عدوانها الوحشي على الفلسطينيين، بل وشرعنة هذه الوحشية، في منح إسرائيل "حق الدفاع عن النفس"، وتحويلها إلى ضحية، في مقابل حجب هذا الحق عن الفلسطينيين، وتحويلهم إلى معتدين أو إرهابيين، وهي أول سابقة من نوعها في التاريخ، حتى بحسب المحلل الإسرائيلي جدعون ليفي، ربما باستثناء الخطاب الروسي في الشأن الأوكراني، الأمر الذي يفضح المعايير المزدوجة للغرب، واستخدامه القيم الإنسانية وفقا لمصالحه وتوظيفاته السياسية.

AFP
نساء فلسطينيات يرفعن لافتات كتب عليها باللغة العربية "وعد بلفور لن نغفر ولن ننسى وستنتصر فلسطين"

مجازر على الهواء مباشرة

ما يميز الظرف الراهن أن خطاب قادة الدول الغربية، في دعم إسرائيل الاستعمارية والعنصرية والدينية والعدوانية، وتحويلها إلى ضحية، بات مكشوفا، وغير مقبول، في المجتمعات الغربية ذاتها، بفضل الفضاءات الإعلامية الواسعة، بدلالة المظاهرات الحاشدة في واشنطن ونيويورك ولندن وباريس وبرلين، واللافت بينها ظهور جماعات يهودية، في تلك البلدان، تدين المجازر الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وتطالب بوقف الحرب، في دلالة على وجود ضمير عالمي، يؤكد على وحدة القيم الإنسانية، وعدم التمييز بين البشر، لأي سبب.

AFP
أشخاص يجلسون أمام مخبز تم تدميره في غارة إسرائيلية، في مخيم النصيرات للاجئين وسط قطاع غزة، في 2 نوفمبر 2023

بل إن تلك المظاهرات هي، أيضا، بمثابة تعبير عن رفض السياسة التي تتبناها بعض حكومات الغرب، للتضييق على حرية الرأي، وتجريم المعارضة، دعما لإسرائيل، بدعوى اعتبار أي معارضة لسياسات إسرائيل ضد الفلسطينيين نوعا من اللاسامية، أو بدعوى أن رفع علم فلسطين، أو إدانة قتل المدنيين الفلسطينيين دعم للإرهاب.

في موقفها الأعمى الداعم لإسرائيل، يتضح أن الحكومات الغربية المعنية، ما زالت تعتبر إسرائيل ابنا شرعيا لها، أو بمثابة ولد عاق، يجب دعمه، وترشيده، وهي في ذلك تتناسى واقع أنها دولة احتلال (بتوصيف الأمم المتحدة)، ودولة دينية بتعريفها لذاتها، ودولة عنصرية، بحسب توصيف منظمات حقوقية دولية، وتوصيف يهود وإسرائيليين لها، مثل إيلان بابيه، وشلومو ساند، وبنيامين فنكلشتاين، وآفي شلايم، وجوديث بيتلر، وإيلا شوحط، وعميرة هس، وجدعون ليفي، مثلا. كما تتناسى تقويض إسرائيل لعملية التسوية مع الفلسطينيين، طوال ثلاثة عقود، علما أن تلك الحكومات تتناقض مع القيم التي تتبناها، والتي تعتبرها رسالتها إلى العالم، أي قيم الحرية والمساواة والعدالة والديمقراطية.

لم تتم إقامة، أو اصطناع، إسرائيل، في "وعد بلفور"، رغما عن التاريخ، وإنما بفضل التاريخ، أي بحكم الظروف الدولية والعربية المواتية، وهي تستمر وتقوى بفضل ذلك، دون التقليل من العوامل الذاتية التي تؤكد استمرارها وضمنه نظامها الديمقراطي (لمواطنيها اليهود، والذي تعتوره كثير من التناقضات، وبات على المحك)، وإدارتها الحديثة وتقدمها العلمي والتكنولوجي.

لذا بعد "وعد بلفور" الذي أنتج النكبة الأولى، يخشى اليوم أن استنفار الدول الغربية بقيادة الإدارة الأميركية يشي بوعد آخر، قد ينتج نكبة أخرى للفلسطينيين، يجري الإعداد لها في ظل هذه المقتلة المهولة المفتوحة منذ 25 يوما، في غزة، باسم حق إسرائيل المزعوم بالدفاع عن النفس، وباسم مكافحة الإرهاب.

رغم ذلك، فإن الشعب الفلسطيني لن يختفي، فعلى المدى البعيد لا أفق لهذه الدولة الوحشية والعنصرية المصطنعة، فلا شيء إلى الأبد، فإسرائيل ستظل محكومة ومحبوسة بتناقضاتها، بين كونها دولة طبيعية ودولة مصطنعة، وبين كونها دولة دينية أو علمانية، وكونها دولة يهودية أو دولة ديمقراطية، وبكونها دولة تأسست على حساب أهل الأرض الأصليين، وكنشاز في منطقة عربية، نشأت بقوة السلاح وبفضل المعادلات الدولية والإقليمية والعربية، في مرحلة من الزمن، إذ إن أي تغير في تلك المعادلات سيؤدي إلى تغييرات في مكانة إسرائيل وفي طبيعتها، وفي شكل وجودها.

font change

مقالات ذات صلة