أوهام الخصخصة في الدول العربية

في مقدمة الإصلاحات الاقتصادية المنشودة ودونه عراقيل حكومية

AFP
AFP
الجزائر هي ثالث أكبر مورد للغاز الطبيعي إلى أوروبا بحصة سوقية تبلغ نحو 8%

أوهام الخصخصة في الدول العربية

بدأ طرح برامج الإصلاح الاقتصادية في مصر وتبني برامج التخصيص منذ تولي الرئيس الراحل أنور السادات الرئاسة في خريف عام 1970 بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر. طرح السادات قضية الانفتاح الاقتصادي محاولاً تحرير الاقتصاد المصري من هيمنة الدولة والرأسمالية والبيروقراطية التي اعتمدها النظام الناصري بشكل واضح منذ طرح "الميثاق الوطني" في عام 1962. وفي عام 1974 أقرّ القانون 43 بشأن نظام استثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة، بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 التي حققت خلالها مصر اختراقاً مهماً وتمكنت من عبور قناة السويس إلى سيناء التي احتلتها إسرائيل في حرب يونيو/حزيران 1967.

أكد القانون 43 إمكان استثمار الأموال العربية والأجنبية في الصناعات التحويلية والتعدين والطاقة والسياحة والنقل وفي استصلاح الأراضي الصحراوية وزراعتها بصيغة الإيجار الطويل الأمد. كذلك سمح القانون بالاستثمار في مشاريع الإسكان والامتداد العمراني، وفتح الباب للمستثمرين الأجانب للمساهمة في الشركات الاستثمارية والمصارف وشركات التأمين. في البداية حدد القانون ملكية الأجانب في بعض القطاعات، مثلا 51 في المئة من رأس مال المصارف، ومنح المستثمرين حق تحويل الأرباح المحققة من الاستثمار إلى الخارج بالعملات الحرة.

لكن ماذا تحقق من تحولات بنيوية في الاقتصاد المصري منذ بداية عصر الانفتاح؟

واجهت جهود التحول الهيكلي معارضات متنوعة من القوى الناصرية وقوى اليسار التقليدي ممن زعموا تمسكهم بالنظام الاشتراكي ومبادئ "الكفاية والعدل"، إضافة إلى سعي البيروقراطية المصرية إلى عرقلة كل ما يحد من سلطاتها في المجال الاقتصادي. اعتمد الاقتصاد المصري كما هو معلوم منذ عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر هيمنة العسكر ونفوذ مؤسساته في مختلف الشركات والسيطرة على شركات مهمة في قطاع المقاولات والصناعات التحويلية. كذلك سيطر كبار العسكريين على إدارة مصانع ومزارع وفنادق ومؤسسات مالية. ولا يزال عدد من المصارف الرئيسية مملوكا من الدولة، والقطاع العام، منها بنك مصر والبنك الأهلي المصري والبنك الزراعي المصري وبنك التنمية الصناعية والمصرف المتحد والبنك العقاري المصري العربي.

يبدو أن مصر عازمة على إنجاز إصلاحات هيكلية حيث اتضح للإدارة السياسية أن طريق التنمية يتطلب مشاركة القطاع الخاص الوطني وافساح المجال أمام المستثمرين الأجانب

لا شك في أن هناك مصارف تأسست منذ سبعينات القرن الماضي مملوكة من القطاع الخاص المصري أو بالشراكة مع مستثمرين عرب أو أجانب. يظل التساؤل قائماً ومشروعاً حول جدوى استمرار ملكية الدولة للمصارف الرئيسية التي تموّل مختلف المؤسسات في العديد من القطاعات الاقتصادية. ولا تزال عمليات انتقال الملكية معطلة بدرجة كبيرة ويتعين على الدولة المصرية أن تخطو خطوات واضحة وجريئة في اتجاه تخصيص الملكية والتحرر من القيود البيروقراطية والثقافية.

Reuters

أبدت الحكومة المصرية أخيراً بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي عزمها على بيع حصص مهمة في شركات رئيسة إلى القطاع الخاص المحلي والأجنبي. وجرى توقيع عقود لبيع مساهمات في شركات بقيمة قدرت بـ1,9 مليار دولار، منها شركات فندقية أو شركات اتصالات وشركات مقاولات. وتعقد آمال كبيرة على أن تتطور هذه الإجراءات لتعزيز دور القطاع الخاص في مصر، وربما تدفع مشكلات السيولة النقدية الراهنة إلى تسريع عمليات التخصيص.

يبدو أن مصر عازمة على إنجاز إصلاحات هيكلية حيث اتضح للإدارة السياسية أن طريق التنمية يتطلب مشاركة القطاع الخاص الوطني وفسح المجال أمام المستثمرين الأجانب بعيداً من تعقيدات الإدارة الحكومية.

تجارب سورية فاشلة

 في سوريا، صدر القانون الرقم 10 لسنة 1991 الذي حدد شروط الاستثمار الخاص، الوطني والأجنبي في سوريا. وعلى الرغم من أن هذا القانون لم يكن محفزاً بدرجة كبيرة، إلا أن مشاريع عدة قامت في البلاد منها مصارف وفنادق وشركات عقارية. وعلى الرغم من محدودية الإنتاج النفطي، تأسست شركات عدة بالشراكة بين شركات أجنبية وحكومية في هذا القطاع. معلوم أن القطاع الخاص السوري يعتبر من الأنشط في الدول العربية منذ بداية القرن العشرين، لكن التحولات التي جرت منذ منتصف خمسينات القرن الماضي عطلت دور هذا القطاع الحيوي وبانت بصماته في قطاعات النسيج والزراعة والتجارة والتوزيع السلعي والحرف التقليدية، إضافة إلى النشاط بين قطاع الضيافة والأغذية. تأثرت أعمال القطاع الخاص السوري بشكل واضح بعد الوحدة المصرية السورية عام 1958 حيث تم إصدار قوانين الإصلاح الزراعي وتأميم الشركات العاملة في قطاع الصناعات التحويلية.

تأثرت سوريا خلال السنوات الأخيرة بتبعات الحرب الأهلية وكذلك غالبية المواطنين تأثروا بالأعمال القتالية واضطرارهم للنزوح إلى مناطق أخرى داخل البلاد أو الهروب والهجرة إلى الدول المجاورة مثل الأردن ولبنان وتركيا أو إلى دول أبعد مثل مصر أو الدول الأوروبية. يعاني القطاع الخاص وشركات القطاع العام من التخريب والدمار وتعطل الأعمال ونزوح المواطنين.

وتتطلب إعادة إعمار سوريا ضخ مئات المليارات من الدولارات من أجل إصلاح البنية التحتية أو ترميم المنشآت والمرافق، لكن لا بد من أن يضطلع القطاع الخاص بالشراكة مع شركات عالمية لإنجاز الإعمار، كما ينبغي اعتماد نظام اقتصادي يقوم على المبادرات الخاصة لإعادة البناء، والإفادة من خبرات السوريين الذين غادروا البلاد خلال هذه الفترة الصعبة وتمكنوا من إنجاز مشروعات وأعمال في الخارج. يضاف إلى ذلك، أن هناك الآلاف من السوريين الذين تمكنوا من تكوين ثروات مهمة يمكن توظيفها في بلدهم متى ما أتيحت الفرص الملائمة وتأكدوا من قدرتهم على تحقيق العوائد المجزية وتوفر قوانين وأنظمة وإدارة تحمي حقوق المساهمين والجهات الممولة.

AFP
الجزائر هي ثالث أكبر مورد للغاز الطبيعي إلى أوروبا بحصة سوقية تبلغ نحو 8%

من الواجب تأكيد أيضا أهمية قيام الدولة، في المستقبل، بدعم جهود تحويل الملكية الى العديد من المؤسسات والشركات التي تم تأميمها منذ مطلع ستينات القرن الماضي، سواء أكانت شركات صناعية أم مزارع أم فنادق أو شركات تعمل في مجال الإسكان والمباني الإدارية.

الجزائر وصعوباتها

 شهدت الجزائر عمليات تأميم ومصادرة لأملاك خاصة بعد الاستقلال مباشرة في عام 1962. كان النشاط الاقتصادي شبه محتكر من قبل المستوطنين الفرنسيين، لتقوم الحكومة بعد مغادرتهم البلاد بمصادرة الأملاك، سواء أكانت مصانع أم مزارع. طبِّق ما سمي بـ"التيسير الذاتي"، وهو مفهوم يعتمد قيما إشتراكية، ويرتكز على الملكية العامة لوسائل الإنتاج. ربما لم تجد السلطات الوطنية في بداية الاستقلال بديلاً من هذا النظام بعد مغادرة المستعمرين الفرنسيين، لكن استمرار العمل به لم يؤد إلى تحقيق نتائج اقتصادية مفيدة. تبع ذلك في عام 1971 تأميم قطاع النفط، أو المحروقات، بعدما كان تابعاً لمصالح نفطية فرنسية. أنيط بشركة "سوناطراك" استغلال الموارد  النفطية في البلاد بأشكالها كافة من المنبع إلى المصب، مثل الاستكشاف والاستخراج والإنتاج والنقل والتكرير والبتروكيماويات، وكذلك تحلية المياه. استمرت هيمنة الحكومة على النشاط الاقتصادي الحيوي ولم تبد توجها للانتقال إلى اقتصاد السوق إلا في عام 1988. وبينت الحكومة آنذاك أنها تهدف إلى إنجاز برنامج "الثبيت والتكيف الهيكلي" وكان سبق لها أن تداولت هذه الأمور مع صندوق النقد والبنك الدوليين بعدما مرت البلاد بمعضلات كبيرة تمثلت في إنخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1,5 في المئة سنوياً خلال الفترة من 1986 إلى 1991، وقيام المؤسسات الحكومية بتسريح العمال.

الجزائر بحكم موقعها الجغرافي وخصائصها الديموغرافية، لا بد أن تسير في ركاب العولمة وتعزز مصالحها مع الدول الأوروبية

مرّت الجزائر بأوضاع سياسية وأمنية صعبة خلال ما أطلق عليه "العشرية السوداء" التي دامت من ديسمبر/كانون الأول 1991 إلى فبراير/شباط 2002، كان خلالها الصراع دامياً وكارثياً ومدمرا للاقتصاد الجزائري، لكن السلطات الحاكمة عملت على إعادة الأوضاع الاقتصادية إلى مستويات مقبولة بعد نهاية الحرب الأهلية. تم استصدار قوانين وتحديد أنظمة للعمل الاقتصادي تهدف إلى تحسين بيئة الأعمال وتمكين المستثمرين من مزاولة أنشطتهم دون عراقيل حكومية أو غيرها. اهتم المسؤولون بصياغة علاقات مع الدول الأوروبية ومؤسساتها من أجل دمج الاقتصاد الجزائري بالاقتصاد الدولي وتحسين عمليات التبادل التجاري، خصوصاً أن الجزائر من الدول المصدرة للنفط والغاز.

ظلّ البنك الدولي متابعاً لتطورات الاصلاح الاقتصادي في الجزائر منذ أكثر من عقدين من الزمن وبيّن في تقرير صدر في  يناير/كانون الثاني 2023 أن الجزائر تسير نحو الانتعاش الاقتصادي بفضل ارتفاع مستويات إنتاج النفط. كذلك ثمّن التقرير تطور أداء قطاع الخدمات وتحسن العمل في القطاع الزراعي. لكنه دعا إلى حسن استخدام الموارد العامة في القطاعات الاقتصادية الأساسية. على الرغم من كل هذه التطورات الإيجابية التي أكدها تقرير البنك الدولي، لا تزال الأوضاع السياسية في البلاد غير واضحة ولم تتبلور استراتيجيات لتعزيز التنمية الاقتصادية خلال العقود المقبلة. بيد أن الجزائر بحكم موقعها الجغرافي وخصائصها الديموغرافية، لا بد أن تسير في ركاب العولمة وتعزز مصالحها مع الدول الأوروبية وتمكّن المستثمرين الأجانب من توظيف الأموال في  القطاعات الحيوية التي يمكن أن تدعم القدرات التصديرية للبلاد. 

معضلة الكويت

إذا كان التخصيص قد تعطل في دول عانت من أنظمة حكم اختارت نموذجا اقتصاديا يُؤثِر دور الدولة وطغيان ملكيتها مثل مصر وسوريا والجزائر، فلماذا يتعطل في دول خليجية قامت على مبادئ اقتصادات السوق؟ غني عن البيان أن دور الدولة في الحياة الاقتصادية في دول الخليج تكرس بعدما توفرت أموال ضخمة لدى الحكومات من إيرادات النفط خلال السنوات السبعين الماضية. هذه الأموال دفعت الحكومات في هذه الدول، خصوصاً بعد منتصف السبعينات، إلى الهيمنة على مختلف القطاعات وتوفير الخدمات مجاناً أو بأسعار متهاودة أو مدعومة للمواطنين والمقيمين في هذه الدول، وهي التي طرحت منذ بداية هذا القرن، وربما قبل ذلك أهمية تعزيز دور القطاع الخاص وترشيد دور الدولة الاقتصادي. لكن طغيان دور الدولة وتمتع المواطنين برعايتها وارتفاع مخصصات الدعم والتوظيف في القطاع العام لا بد أن تعطل أو تعرقل كل المحاولات الجادة في اتجاه الخصخصة أو الاصلاح الهيكلي. قد  لا تكون الأمور متشابهة في كل الدول الخليجية، لكن هناك النموذج الكويتي العنيد الذي يعتمد على نظام سياسي يؤثر رضى المواطنين مهما كانت الأعباء على المال العام. وقد تصدح الحكومة بتصريحات حول الإصلاح الاقتصادي وترشيد الإنفاق العام، خصوصاً عندما تتراجع أسعار النفط، ولكن ما أن ترتفع هذه الأسعار مجددا، يصبح كل حديث عن الإصلاح غير ذي أهمية.

Zain Group
شركة الاتصالات الكويتية مجموعة زين.

صدر في الكويت القانون 37 للعام 2010 لتنظيم عمليات تحويل الملكية من القطاع العام إلى القطاع الخاص، وعيّن القانون إمكانات تحويل الملكية في مختلف القطاعات بما فيها الكهرباء والمياه والاتصالات في حين أوضح عدم إمكان تخصيص قطاعي التعليم والرعاية الصحية. كما تأسس المجلس الأعلى للإشراف على عمليات التخصيص. لكن هذا التخصيص لا يزال بعيداً من التحقيق، حتى مطبعة الحكومة لا تزال تعدّ من "الأبقار المقدسة" غير القابلة للبيع. ولا تزال محاولات تحويل ملكية شركة النقل العام، تواجه صعوبات، ناهيك عن تخصيص ملكية الخطوط الجوية الكويتية.

لا يزال هناك أعضاء في مجلس الأمة يعتبرون أن تحويل الملكية فى أي منشأة مملوكة من الدولة، بمثابة بيع لحقوق الشعب ويجب التصدي له. بعد تحرير الكويت من الاحتلال العراقي قامت الحكومة، من خلال الهيئة العامة للاستثمار، ببيع مساهمات في مصارف وشركات استثمار وشركات عقارية أو صناعية من خلال المزايدة وحصلت على مبالغ مالية مهمة. بيد أن تلك المساهمات كانت اقتنتها الدولة خلال فترات زمنية عديدة ومنذ سبعينات القرن الماضي، لكن أهمها خلال فترة أزمة المناخ في الثمانينات.

لماذا يتعطل دور القطاع الخاص في دول خليجية قامت على مبادئ اقتصادات السوق؟

يبدأ التخصيص الحقيقي عندما تقرر الحكومة التحرر من مسؤوليات إنتاج وتوزيع الكهرباء والمياه والتحرر من شركات التموين الغذائي وملكية الخطوط الجوية الكويتية والنقل العام والاتصالات الأرضية وتطوير الشراكة بين القطاعين العام والخاص بما يخدم رفع كفاءة الأداء الاقتصادي وتحسين بيئة الأعمال وخلق فرص عمل حقيقية للمواطنين بعيداً من توظيف البطالة المقنعة في الحكومة ومؤسسات القطاع العام.

التحديات المقبلة

يقف العالم العربي أمام تحديات اقتصادية حقيقية، إذ لا يمكن للدول المنتجة والمصدرة للنفط أن تستمر في الاعتماد على إيراداته وأنظمة الرعاية الشاملة، كما أن الدول العربية الأخرى التي اعتمدت لأمد طويل على المساعدات والتحويلات الميسرة والاقتراض من المؤسسات الدولية والمصارف الأجنبية، يجب أن تعزز قدرات القطاع الخاص وتنفتح بشكل واضح أمام الاستثمارات المباشرة الأجنبية. لم تعد عمليات التخصيص مسألة تطرح للنقاش بل لا بد من وضعها موضع التطبيق وتجاوز كل العراقيل الإدارية والثقافية والسياسية. هناك في طبيعة الحال شروط لإنجاز التخصيص أهمها دعم دور العمالة الوطنية وتوفير مناخ المنافسة من أجل مراعاة الجودة والأسعار المناسبة للمستهلكين. كما يجب أن يكون التخصيص مصحوباً بقوانين للضرائب لدعم الخزينة العامة بحيث يصبح لزاماً تطبيق ضريبة القيمة المضافة وضريبة الأرباح على الشركات.

هناك معايير أخرى للتخصيص تتعلق بالشراكات مع المستثمرين الأجانب وقوانين تتعلق بالاحتكار الطبيعي لعدد من الأنشطة، وكل ذلك لا بد من أن يكون معلوما من خلال إقرار برامج واستراتيجيات واضحة المعالم لا تكون خاضعة للمزاج السياسي المتقلب!

font change

مقالات ذات صلة