"أوكسجين" سعودي استثماري لتونس

وعود بمشاريع في قطاعات رئيسة منها الهيدروجين الأخضر

Ewan White
Ewan White

"أوكسجين" سعودي استثماري لتونس

كانت تصريحات وزير الصناعة والثروة المعدنية السعودي بندر إبراهيم الخريف، عن تخصيص محفظة مالية تقدر بمليار دولار لتمويل الاستثمار الخاص في تونس ودفعه وتعزيزه، بمثابة هدية نهاية العام المنصرم لبلاد تشهد تراجعا كبيرا في مؤشرات الاستثمار الداخلي والخارجي، وفقدت تدريجيا زخمها كوجهة استثمارية جاذبة، وهي إلى ذلك تواجه صعوبات في تمويل إيراداتها.

حل الوزير السعودي في تونس خلال الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي برفقة 100 رجل أعمال ومستثمر سعودي وعدد من الكوادر والمسؤولين، أبرزهم سعد الخلب، الرئيس التنفيذي لبنك التصدير والاستيراد السعودي، وحسن الحويزي، رئيس اتحاد الغرف السعودية، وعمر العجاجي، رئيس مجلس رجال الأعمال التونسي السعودي. أما المناسبة، فهي المشاركة في أعمال اللجنة العليا المشتركة التونسية السعودية التي لم تنعقد منذ 4 أعوام، وتبعها اجتماع لمجلس أرباب الأعمال السعودي التونسي.

جاء هذا الحضور السعودي الضخم في توقيت صعب تمر به البلاد، لذلك وُصف بعملية دفع اقتصادية ومالية وسياسية مهمة للدولة التونسية، التي أصبحت أبواب مسؤوليها لا تكاد تُطرق إلا لمناقشة أزماتها الداخلية المتمحورة أساسا حول الخيارات السياسية من جهة، والتعثر الاقتصادي والمالي وتعطل قطار الاستثمار والتنمية من جهة أخرى.

الصدمات السياسية المتتالية حولت تونس إلى بلد الفرص المهدورة، وسجل الاستثمار الخارجي المباشر أدنى مستوياته منذ خمسة عقود

هذه بعض الأرقام التفصيلية لفهم واقع الاستثمار في تونس: خصصت السلطات التونسية 1,7 مليار دولار (5,2 مليارات دينار) للاستثمار العام في موازنة 2024 (حجمها 25,17 مليار دولار)، أي ما يعادل 6,8 في المئة فقط من حجم نفقات الدولة للسنة الجارية. بالنسبة الى الاستثمارات الخاصة والأجنبية، تعوّل السلطات على مراجعة ترسانة التشريعات المكبّلة بهدف التحفيز على الاستثمار الذي تراوح بين التعطّل أو التعطيل.

فقد سجّل الاستثمار الخارجي المباشر أحد أدنى مستوياته منذ 5 عقود، بنسبة لم تتجاوز الـ1,5 في المئة من الناتج المحلي عام 2022، أي ما يعادل نصف النسبة المسجلة منذ 10 أعوام (2012) وفق بيانات نشرها صندوق النقد الدولي على موقعه الرسمي. وبحسب المصدر نفسه، سجّلت تونس 0,6 في المئة كأدنى نسبة في تاريخها عام 1988.

واتخذت الاستثمارات الأجنبية منحى تصاعديا انطلاقا من عام 1992، لتبلغ نسبة تاريخية بلغت 9,4 في المئة من الناتج المحلي عام 2006، وهي نسبة لم تسجلها المملكة المغربية، الوجهة المنافسة لتونس، في تاريخها.

Shutterstock
برج الساعة في شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة التونسية

مع ذلك، لم تنجح تونس في مراكمة الإنجاز النوعي الذي حققته أو ما يعرف بـ"القفزة الاستثمارية الاستثنائية" المسجلة في بداية الألفية الثالثة. العكس هو الذي حصل، إذ ان الصدمات السياسية المتتالية حولت تونس إلى بلد الفرص المهدورة كما أشارت قراءات محلية ودولية منها تقرير لمجموعة البنك الدولي تحت عنوان "الثورة غير المكتملة في تونس"، استعرض فيه أسباب الفشل في حسن توظيف الإمكانات والمقومات التي تزخر بها البلاد، والتي كانت تؤهّلها لتكون "نمر المتوسط".

خط تمويل سعودي بمليار دولار

باستثناء تعثر عجلة الاستثمار، تواجه السلطات التونسية منذ عام 2022 تحديات في توفير التمويلات لتأمين إيراداتها التي باتت مشروطة بـ"الدفع مقابل التسلم"، لعوامل عدة، أهمها التخلف عن السداد للمزودين الدوليين، وخفض تصنيفها السيادي إلى "-CCC" مع آفاق سلبية من وكالات التصنيف الائتماني العالمية على غرار "موديز" و"فيتش رايتينغ"، التي تضعها ضمن الدول ذات الأخطار العالية.

يرتكز الاهتمام السعودي في محفظة استثماراته على 5 قطاعات في تونس، هي صناعة السيارات والطاقة المتجددة وصناعة الأدوية والصحة والأمن الغذائي

من هنا تبرز أهمية المحفظة المالية السعودية المخصصة لتونس وقيمتها مليار دولار، أولا، كخط تمويل عمليات التوريد (مواد وسلع سعودية)، وثانيا، من حيث تدفق الاستثمارات السعودية، التي يقول رئيس مجلس الأعمال السعودي التونسي عمر الحجاجي عنها، إن الاستثمارات السعودية الموجهة إلى تونس ستكون "بالمليارات"، وإن نصيب الأسد فيها سيكون لقطاع السياحة. 

يرتكز الاهتمام السعودي في محفظة استثماراته في تونس على 5 قطاعات حددها وزير الصناعة والثروة المعدنية السعودي من منطلق "التكامل الكبير فيها بين البلدين". هذه القطاعات هي قطاع صناعة السيارات والطاقة المتجددة وصناعة الأدوية والصحة والأمن الغذائي. 

كما أكد الوزير السعودي أن بلاده تبحث عن فرص استثمارية في تونس، خصوصا أنها تزخر بثروات معدنية مهمّة كالحديد والنحاس والرصاص، وباحتياطي كبير من الفوسفات. تعددت القراءات حول طبيعة هذه الاستثمارات، إن كانت ستكون مثلا في شكل شريك استراتيجي في شركات عامة مملوكة للدولة التونسية على غرار شركة فوسفات قفصة وشركة الفولاذ، وهما الأهم والأكبر والأعرق.

وعلى الرغم من إعلان السلطات التونسية أنها لا تعتزم البتة تخصيص أي شركة عامة، فإن فرضية التراجع عن هذا التعهّد تبدو قائمة في ظل الصعوبات المالية التي تواجهها هذه الشركات باعتبارها أصبحت تمثل عبئا على خزينة الدولة، في عام يقدّر فيه حجم الدين الخارجي بـ 9,2 مليارات دولار (28,2 مليار دينار) منها 500 مليون دولار من السعودية.

على مستوى قطاع الطاقة المتجددة، التوجه هو نحو إنتاج "الهيدروجين الأخضر"، هذا المصدر المبتكر للطاقة الذي ترنو تونس لأن تصبح لاعبا رئيسا في إنتاجه على المستوى الإقليمي، وأن تصبح المزود الأول لأوروبا، وتراهن على قدرتها لإنتاج الهيدروجين الأخضر بتكاليف تنافسية بصفتها تمتلك موارد متجددة ممتازة وتكميلية بما في ذلك الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، بالإضافة الى قربها من مركز الطلب، وهو أوروبا.

كما تخطط تونس لإنشاء شبكة لنقل الهيدروجين الأخضر من محافظتي قابس وتطاوين (الجنوب التونسي) إلى الوطن القبلي، تمهيدا لتصديره إلى أوروبا. ويتطلّب الاستثمار في تطوير هذه التكنولوجيا تمويلات مهمة. المدير العام للكهرباء والانتقال الطاقي في وزارة الصناعة، بلحسن شيبوب، أكد أن إنتاج مليون طن من الهيدروجين الأخضر يتطلب استثمارا إجماليا يناهز 25 مليار دولار، ويقول إن تونس عاجزة عن تحمّل هذه التكاليف بمفردها.

الاقتصاد الأخضر والأزرق والمستدام

وبحسب ما أكد أحد المشاركين في اجتماعات تونس في ديسمبر الماضي لـ"المجلة"، طُرح ضمن المناقشات مشروع شراكة مع شركة "نيوم للطاقة والمياه - إينووا" السعودية، نظرا إلى أن من مخططاتها، تأسيس منظومة رائدة لأنظمة المياه والطاقة المستدامة على مستوى العالم. وفي سياق متصل أعرب المسؤولون السعوديون عن استعدادهم لإنجاز مشاريع مشتركة في مجال تحلية المياه.

يعد الاستثمار في مجالات الاقتصاد الأخضر والأزرق والمستدام، وتزويد محطات تحلية المياه ومحطات معالجة المياه تقنيات حديثة، من ضمن الأولويات العاجلة في تونس منذ إعلانها حالة الطوارئ المائية العام المنصرم بسبب التغييرات المناخية التي يقدر البنك الأفريقي للتنمية في تقرير صادر خلال شهر مايو/أيار 2023، أن تونس في حاجة لتمويلات بـ24,4 مليار دولار للاستجابة بشكل ملائم للتغيرات المناخية.

تعتبر "ندرة المياه" مشكلة مشتركة بين 90 في المئة من سكان الوطن العربي بحسب تقرير صادر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "الأسكوا"

وفي حلول نهاية السنة الجارية، تدخل ثلاث محطات لتحلية مياه البحر في محافظات قابس وصفاقس وسوسة حيز الاستغلال، وقد تم منذ شهر أبريل/نيسان من العام المنصرم، إعلان طلب عروض دولية لإنجاز أربع محطات أخرى في توزر وقبلي وسيدي بوزيد وبن قردان.

يشار الى أن "ندرة المياه" تعتبر مشكلة مشتركة بين 90 في المئة من سكان الوطن العربي بحسب تقرير صادر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "الأسكوا" في مارس/آذار 2023.

إضافة الطاقة المتجددة، تستهدف وعود الاستثمارات السعودية قطاع صناعة السيارات وتتموضع تونس كثالث مصدّر لمكونات السيارات في أفريقيا، وتصدّر ما قيمته 2,5 مليار يورو سنويا وتستقطب 280 شركة متخصصة في إنتاج مكونات السيارات، 65 في المئة منها مصدرة بالكامل، في مقابل توسّع السعودية في خطط صناعة السيارات، وهي تطمح لأن تصبح مركزا لتصنيع السيارات الكهربائية في منطقة الشرق الأوسط في 2030. 

AFP
مدير بنك تونسي يعرض الأوراق النقدية التونسية المتداولة حديثا

أما قطاع الأدوية، فقد طُرحت مشاريع في خصوصه خلال اجتماع مجلس الأعمال التونسي السعودي. يعد هذا القطاع أهم القطاعات الواعدة في تونس باعتباره حقق نموا بلغ 45 في المئة خلال السنوات الست المنصرمة، علاوة على أن 35 في المئة من التجارب السريرية في القارة الأفريقية أجريت في تونس.

وكشف أحد رجال الأعمال المشاركين في الاجتماعات لـ"المجلة"، أن الجانب التونسي طرح استثمار الشركة السعودية "لايفيرا" للصناعات الدوائية في السوق التونسية أو عبر شراكات مع مصنعين تونسيين. وتركز الشركة على صناعة المنتجات الدوائية الأساسية على غرار الأنسولين واللقاحات وأدوية البلازما والأجسام المضادة والعلاجات الخليوية والجينية والجزئيات الصغيرة المبتكرة، وتم انشاؤها عبر صندوق الاستثمارات العام السعودي عام 2023.

 ويوجد في تونس، وفق وزيرة المالية والمكلفة تسيير وزارة الاقتصاد سهام نمصية، 50 شركة سعودية توظف 7500 شخص. كما مول الصندوق السعودي للتنمية 30 قرضا تنمويا لإنجاز 28 مشروعا وبرنامجا إنمائيا، بالاضافة إلى 4 منح وجهت لقطاعات التعليم والمياه والصرف الصحي والنقل والمواصلات والصحة والطاقة والبنية التحتية والتنمية الريفية في تونس.

"فرص عظيمة" في 7 قطاعات

انتهت زيارة وزير الصناعة والثروة المعدنية السعودي والوفد المرافق له بتوقيع 7 مذكرات تفاهم في قطاعات الصناعة والسياحة والبيئة والبحث العلمي الزراعي والأرصاد الجوية والمناخ والمياه والعمل. 

ووضع المسؤولون السعوديون خلال المناقشات الفرص المتاحة أمام تونس والمستمدة من "رؤية المملكة 2030"، والمرتكزة على مسارين جوهريين: الأول، رفع نسبة التجارة البينية بين البلدين، والثاني، تعزيز مشاريع استثمارية في اتجاه التحوّل إلى شريك فاعل وفق "استراتيجية التكامل"، وهي خط رسم التحالفات الإقليمية والدولية للمملكة لتنويع اقتصادها وتمتين علاقاتها وتعزيزها على قاعدة "المصلحة المشتركة".

"الكرة في ملعب تونس" المدعوة إلى حسن اقتناص الفرص التي تتيحها المملكة ضمن خططها المستقبلية

أما بالنسبة الى التجارة البينية، فيبلغ معدّل المبادلات التجارية بين البلدين 310 ملايين دولار، وتحتل تونس المرتبة 15 كشريك تجاري للمملكة في المنطقة العربية. وهناك توافق بين السعودية وتونس بحسب تصريحات كبار مسؤوليها، على ضعف حجم المبادلات التجارية رغم توفر الإرادة والإمكانات.

فقد أشار الخريف خلال كلمته في منتدى الاستثمار والشراكة السعودي التونسي في سياق حديثه عن "الفرص العظيمة" المتوفرة للدولتين، إلى ميزات وصفها بالفريدة، وذكر منها تحديدا موقع تونس الجغرافي المتميز. 

من المهم الاشارة في هذا الصدد، الى أن تونس تعد منفذا تجاريا استراتيجيا باعتبارها تربط بين شمال المتوسط وجنوبه وبين المغرب والمشرق العربي وهي بوابة أفريقيا جنوب الصحراء، بما يمكّنها من الدخول الى أسواق تستقطب 1,4 مليار مستهلك، مستفيدة في ذلك من اتفاقات شراكة تجارية مع تكتلات عدة، على غرار اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، واتفاق "أغادير" للتجارة الحرة المتعددة الأطراف والاتفاقات الثنائية لإقامة منطقة تجارة حرّة مع ليبيا ومصر والمغرب والأردن والعراق، واتفاق إنشاء منطقة تجارة حرة مع تركيا، يضاف إليها الانخراط في منطقة التبادل الحر العربية الكبرى، وكذلك في السوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا "الكوميسا"، والانتماء إلى المنطقة التجارية الحرة القارية الأفريقية "الزليكاف".

سيكون بنك الاستيراد والتصدير السعودي قاطرة لتحقيق القفزة المنشودة على مستوى التبادل التجاري الثنائي وعلى مستوى الولوج إلى أسواق جديدة، وفي ذلك يكون هذا المصرف الحديث النشأة (تأسس في فبراير/شباط 2020) في صميم دوره الحيوي، وفق إطاره المؤسس الذي يؤكد أنه "يسهر على تعزيز تنمية الصادرات السعودية وتنويعها وزيادة قدرتها التنافسية وتأمين ائتمان الصادرات بمزايا تنافسية بهدف تعزيز الثقة في الصادرات السعودية ودخول أسواق جديدة والحد من أخطار عدم السداد. كما يهدف البنك الى تقديم تسهيلات ائتمانية للاستيراد".

Shutterstock
قبعات الشاشية/ الطربوش التقليدي في الزي التونسي، في سوق البازار في مدينة تونس

وفي نهاية عام 2022، خصص بنك التصدير والاستيراد السعودي 200 مليون دولار لتمويل واردات تونس من المشتقات النفطية السعودية.

أكد الجانب السعودي بوضوح أن "الكرة في ملعب تونس" المدعوة إلى حسن اقتناص الفرص التي تتيحها المملكة ضمن خططها المستقبلية. ويبدو ذلك مفهوما أولا، نظرا إلى بطء تنفيذ المشاريع السابقة على غرار "مستشفى الملك سلمان" في محافظة القيروان الذي لم تشيد منه إلا بوابته الأمامية، على الرغم من تحويل تمويلات بـ100 مليون دولار منذ 8 أعوام، وثانيا، نظرا الى الاستثمارات التي بقيت مجرد إعلانات أو تحولت إلى "مشاريع كبرى معطلة"، وأصبحت منذ عام 2015 نقطة أساسية في اجتماعات المجالس الوزارية، ثم شُكلت لها لجنة حكومية كُلفت متابعتها، وتفوق القيمة الإجمالية للمشاريع المعطلة نحو 5,5 مليارات دولار (17 مليار دينار).

font change

مقالات ذات صلة