العراق يحيي طموحاته النووية السلمية

حل بديل بعد تجارب مريرة لإنتاج الطاقة الكهربائية وللتنمية

Shutterstock
Shutterstock
محطة للطاقة النووية

العراق يحيي طموحاته النووية السلمية

صرح رافائيل ماريانو غروسي، المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA)، بعد مقابلته رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في بغداد أخيراً، بأنه تمت مناقشة عدد من المشاريع، من بينها بناء مفاعل نووي في العراق، وبأن وفداً رسمياً عراقياً سيزور مقر الوكالة في فيينا للمزيد من الحوار حول هذا الموضوع من أجل تمكين العراق من رسم خريطة طريق لتنفيذ برنامج للطاقة النووية للأغراض السلمية.

تثير عودة العراق للاهتمام ببرامج الطاقة النووية بعد تجارب مريرة خلال الماضي القريب تساؤلات حول أهمية تبني برنامج للطاقة النووية في بلد غني بالنفط بما يكفي للوفاء بكل مسلتزمات واحتياجات توليد الطاقة. يذكر أن العراق تبنى مشروع الطاقة النووية إبان العهد الملكي في عام 1956، لكن البلاد تمكنت من إقتناء مفاعل نووي "IRT5000 -2MW" من الاتحاد السوفياتي في عام 1962 بعد انقلاب يوليو/تموز 1958. لكن بعد الانقلاب البعثي الثاني في يوليو/تموز 1968، وبتوجيهات من الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، تبنت الحكومة العراقية برنامجاً لبناء الأسلحة النووية في عام 1970.

تجارب مريرة

وأدت تصريحات صدام حسين في عام 1990 في شأن قدرات أسلحة الدمار الشامل للعراق، إلى إثارة القلق الاقليمي والدولي، إذ هدد بإبادة نصف إسرائيل، ثم عمل بعد ذلك على غزو الكويت واحتلالها لمدة سبعة شهور بما أدى إلى تدخل دولي وطرد القوات العراقية من الكويت وفرض عقوبات شديدة على العراق، وتبني قرار أممي وضع البلاد تحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية وعمل فرق أممية على إزالة كل أسلحة الدمار الشامل.

لا بد أن يكون الاهتمام المستجد ببناء طاقة نووية للأغراض السلمية وليد احتياجات فعلية للطاقة الكهربائية وتزايد الطلب الناتج من ارتفاع أعداد السكان

بعد سقوط صدام حسين في ربيع 2003، أبدت الحكومات المتعاقبة تعاوناً نموذجياً مع الوكالة الدولية وأكدت التزام أنظمة عدم الانتشار النووي المعتمدة من الوكالة وكذلك التزام معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية وكل ملحقاتها. ظلت هناك مخاوف وهواجس من إمكان استيلاء قوى متطرفة على ما تبقى من منشآت تابعة لبرامج التسلح النووي التي اعتمدها وقام ببنائها نظام الحكم البائد.

.أ.ف.ب.
أحد علماء الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة يلوح للمصورين، أثناء عملية التفتيش في محطة التويثة النووية في 11 يونيو 2003.

لكن منذ 2003، لم تعد تهتم حكومات النظام الجديد بتلك البرامج، على الرغم من المخاوف من تطورات برامج الجارة إيران وهواجس العداء القديم الذي تكرس خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، علماً بأن إيران استفادت من سقوط نظام صدام حسين وعملت على دعم قوى عراقية موالية لها، بما مكنها من السيطرة على القرار السياسي في العراق بدرجة كبيرة.

إقرأ أيضا: إقتصاد العراق: ديكتاتورية الفساد

لا بد أن يكون الاهتمام المستجد ببناء طاقة نووية للأغراض السلمية وليد احتياجات فعلية في ميدان الطاقة، وتزايد الطلب الناتج من ارتفاع أعداد السكان وتبني البلاد برامج تنموية تستلزم توليد الطاقة الكهربائية بعد تجارب مريرة في مختلف المناطق وعدم انتظام إمدادات الكهرباء في السنوات القليلة الماضية.

وكما سبق ذكره، فإن الاهتمام بالطاقة النووية في العراق بدأ في عام 1956 بعد إطلاق الولايات المتحدة مشروع أو برنامج "الذرة من أجل السلام"، "Atoms for Peace". وقد تقرر آنذاك تأسيس وكالة الطاقة الذرية العراقية، وبعد انقلاب يوليو/تموز، تم اقتناء مفاعل من الاتحاد السوفياتي في عام 1962. لا شك أن الاهتمام كان بإنتاج الطاقة النووية من أجل الأغراض السلمية.

تدمير اسرائيل للمفاعلين "أوزاريك" و"تموز"

لكن العراق ومنذ عام 1970، بدأ بالاهتمام بتطوير أسلحة نووية بما يتناقض مع التزامات البلاد المعتمدة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فقد اقتنى العراق مفاعلين نوويين من تصنيع فرنسا في عام 1976، "أوزاريك" و"تموز"، واقتنى أنظمة توليد الوقود من إيطاليا.

أن خطط العراق تشير إلى إنشاء 8 مفاعلات نووية للأغراض السلمية بتكلفة 40 مليار دولار

صحيفة "التايمز"

عززت تصريحات نائب الرئيس العراقي آنذاك من مخاوف الإسرائيليين ودفعتهم إلى قصف المفاعلين النووين. بعد ذلك التدمير، عملت الحكومة العراقية على تطوير مفاعلات عدة في عدد من المناطق في البلاد وتبنت إنتاج ما يعادل 15 كيلوغراما من درجة التسلح النووي سنوياً.

بعد غزو الكويت ومخاوف صدام حسين من احتمالات قيام الولايات المتحدة وحلفائها بالهجوم على العراق، قرر تجميع كل ما تم إنتاجه من مواد مخصبة باليورانيوم من المفاعلات. ولكن يبدو أن محاولات التجميع لم تفلح. فقد أجرى المفتشون العاملون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، عمليات بحث واسعة النطاق خلال عقد التسعينات من القرن الماضي وحتى قبل أن تغزو القوات الأميركية والحلفاء العراق في عام 2003، وتأكد في نهاية المطاف خلو العراق من الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل، مثل الأسلحة البيولوجية والأسلحة الكيميائية. 

كلفت مشاريع الطاقة النووية السابقة مبالغ طائلة، فما هي تكاليف إنشاء مشاريع جديدة الآن؟ ذكرت تقارير صحافية، منها جريدة "التايمز" اللندنية أن خطط العراق تشير إلى إنشاء 8 مفاعلات نووية للأغراض السلمية بتكلفة 40 مليار دولار، ستكون المفاعلات على الأرجح من صنع روسي. أهم المبررات لتبني هذه المشاريع هو توفير الطاقة الكهربائية لسكان البلاد، حيث عانى العراقيون من انقطاع التيار الكهربائي في بلد يعاني من ارتفاع درجات الحرارة في شهور الصيف. لكن لماذا لا يستفاد من النفط ومشتقاته كوقود من أجل توليد الكهرباء؟ العراق من أهم الدول المنتجة والمصدرة للنفط في العالم، ويمتلك أكثر من 8 في المئة من احتياطات النفط العالمية، وينتج 4 ملايين برميل يوميا، ويصدر 3,4 ملايين برميل منها.

 واجهت الطاقة النووية واستخداماتها الكثير من المشكلات البيئية والتشغيلية في العديد من دول العالم، لا سيما في توليد الكهرباء، مما دفع دولا مثل ألمانيا واليابان الى اتخاذ قرار بالتحرر من استخدامها

يبدو أن البنية التحتية والمؤسسية في البلاد لم تتح الفرص للاستخدام الأمثل للنفط والغاز محلياً بما يساهم في مواجهة أزمة انقطاع التيار الكهربائي المتكرر.

إقرأ أيضا: العراق... فوضى التصريحات والابتزاز السياسي

في المقابل، واجهت الطاقة النووية واستخداماتها الكثير من المشكلات البيئية والتشغيلية في العديد من دول العالم، لا سيما في توليد الطاقة الكهربائية، مما دفع دولا مثل ألمانيا واليابان الى اتخاذ قرار بالتحرر من استخدامها. وقد أغلقت محطات الطاقة النووية في السويد عام 1980 وإيطاليا عام 1987 وبلجيكا عام 1999 وألمانيا عام 2000.

لا شك أن انفجار المفاعل الروسي في أوكرانيا (تشرنوبيل) عام 1986، لا يزال يثير الشجون في الذاكرة الإنسانية. وهناك دول أخرى واجهت مشاكل مع المفاعلات النووية، والمثل الأقرب هو ما يتعلق بكارثة فوكوشيما في اليابان عام 2011، حيث أدى الزلزال الكبير يوم 11 مارس/آذار من ذلك العام إلى ارتفاع الضغط في المفاعل وزيادة النشاط الإشعاعي. لكن دولا أخرى لا تزال تستخدم الطاقة النووية لتوليد الكهرباء ومنها فرنسا التي تعتمد بنسبة 77 في المئة على هذه الطاقة. 

Shutterstock
الربط الكهربائي مدينة كركوك شمال العراق عند غروب الشمس.

هل يملك العراق بدائل أفضل لتوليد الطاقة الكهربائية؟ الأمر يتطلب دراسة جدوى البدائل ومنها الطاقة الشمسية والسدود المائية والرياح. غني عن البيان أن كل بديل يتسم بجوانب إيجابية وسلبية وهناك تقدير التكاليف والمدد الزمنية اللازمة لتحقيق النتائج المرجوة.

أزمة الكهرباء في العراق

ينتج العراق في الوقت الحاضر 26 ألف ميغاواط من الكهرباء في حين تقدر الاحتياجات بـ35 ألف ميغاواط. أما التكاليف التشغيلية لشبكة الكهرباء فقد بلغت مستوى كبيراً حيث أشار مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء العراقي السابق، في عام 2021 إلى أن العراق أنفق بين عامي 2003 و2021 ما يربو على 81 مليار دولار. وعلى الرغم من هذا الإنفاق الفلكي، فإن المعاناة ظلت مستمرة دون معالجات مجدية بعد أن تردت القدرات الإدارية في البلاد وانتشر الفساد بصورة غير مسبوقة.

وقع اتفاق في 2019 لإنشاء خطين بطول 300 كيلومتر لنقل الكهرباء من السعودية إلى العراق. يؤمن الربط الكهربائي مع دول الخليج إمداد جنوب العراق بـ500 ميغاواط من الطاقة

يضاف إلى مشاكل إنتاج الكهرباء، الانقطاع المتكرر للغاز الإيراني الذي يتم استيراده واستخدامه كوقود في إنتاج الطاقة. ترتبط هذه المشكلة بالعقوبات المفروضة على إيران، وقد بذلت الحكومة العراقية جهوداً مع الأميركيين للسماح بالتعامل مع إيران مالياً من أجل الحصول على الغاز، ويبدو أن العراق قد تمكن من تحقيق تقدم في هذا الأمر في الآونة الأخيرة، حيث أشار رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، الى أن العراق تمكن من تسديد التزاماته المترتبة لإيران بسبب استيراد الغاز.

في كل الأحوال، يفترض أن تستخدم الطاقة النووية في العراق بموجب شروط ومحاذير أساسية تتعلق بتوفير ترتيبات السلامة وحماية البيئة وتحديد التكاليف الحقيقية التي لا ترهق الموازنة العامة. وإذا كان العراق سيعتمد على  مفاعلات من صناعة روسية، فلا بد من دراسة التجارب السابقة لاستخدام مثل هذه المفاعلات ومدى ملاءمتها للبيئة والسلامة الصناعية. في الوقت نفسه، لا بد من دراسة البدائل التي سبق الإشارة إليها والتي تكون أقل ضرراً مالياً وبيئياً. وكان وقع اتفاق في سبتمبر/أيلول 2019 لإنشاء خطين بطول 300 كيلومتر لنقل الكهرباء من السعودية إلى العراق. يفترض أن يكون الربط الكهربائي مع دول الخليج من خلال إمداد جنوب العراق بـ500 ميغاواط من الطاقة. يمثل هذا المشروع أهمية للعراق ويعتبر إنجازاً متميزاً لتطوير علاقات اقتصادية بين دول المنطقة ويساهم في معالجة أزمة الكهرباء في البلاد.

font change

مقالات ذات صلة