كاريزما عادل السيوي في الرياض

فنان يقف في مقدمة المشهد الثقافي المصري

عادل السيوي

كاريزما عادل السيوي في الرياض

بالشراكة بين "غاليري مصر" في القاهرة و"غاليري إرم" في الرياض وتنسيق الفنان محمد طلعت علي أقيم أخيرا في العاصمة السعودية معرض للرسام المصري عادل السيوي بعنوان "كاريزما". هو حدث استثنائي لأسباب كثيرة. منها أن السيوي المولود عام 1952 يقف اليوم في مقدمة المشهد الثقافي المصري فنانا ومثقفا طليعيا كما أن معرضه الحالي يمثل خلاصة تجربة فنية عميقة من جهة محتواها والأشكال التي أنتجتها والتي هي مزيج تجريبي بين الواقع وخياله.

فبقدر ما كان الرسام حريصا على إطلاق مهاراته في الرسم، كان متمكنا من احتواء شعرية الحالة التي تسللت إلى مشاهده البصرية. ذلك من جهة، ومن جهة أخرى فإن معرض السيوي هو نتاج تعاون بين قاعتين مهمتين للعرض الفني. ذلك ما يهب الفنانين العرب أملا في انتشار أعمالهم الممنهج والمنظم في البلاد العربية. من وجهة نظري فإن ذلك النوع من الشراكة إنما يمثل بداية حقيقية لنشوء سوق عربية للفن.

عالم مسكون بالأشباح

عالم عادل السيوي هو مرآة لتجاربه الشخصية في الحياة والثقافة على حد سواء. وهذا ما وهبه مساحة تمتزج فيها المرئيات بعصفها الفكري الذي يخترق قشرتها ليصل إلى ما لا يظهر منها، والحكايات بخيالها البصري الذي يجسدها صوريا، وكأن كل حكاية تتحول إلى شريط مصور. للسيوي موهبة رفيعة المستوى في المزج بين ما يبصره ويحلمه، وبين ما يعيشه ويتخيله. يمكنه بخفة أن يتحول من مشاهد محايد إلى بطل إيجابي في حكاية هي ليست من صنعه ولكنها ستتحول أثناء عملية الرسم إلى واحدة من صنائعه العجيبة.

عالم عادل السيوي هو مرآة لتجاربه الشخصية في الحياة والثقافة، وهذا ما وهبه مساحة تمتزج فيها المرئيات بعصفها الفكري

وإذ يرتجل السيوي موقفا شخصيا في حواره مع مخلوقات تتشكل في سياق تركيبه لحكاية ما، إنما يعبر عن رغبته في كسر الحاجز الذي يفصل بين الواقع والوهم. يعرف أن قوة الفن تكمن في ذلك المزج الساحر بين الواقع الذي يتشكل من مواد، بعضها وهمي، وبين الوهم الذي يرتب أحواله كأنه واقع. حالتان تمتزج من خلالهما الأصوات والأشياء والأفكار، ناهيك عن الشخصيات التي تتحرك كالأشباح.

الجزء المنسي

يمر السيوي عادة بالحكاية بطريقة غنائية، غير أنه في مراحل متقدمة من إنجاز لوحته لا يعبأ بها كثيرا، سيخفف من وطأتها بحيث لا تصبح عبئا على الرسم أو عقبة في طريقه. فهو لا يميل إلى الوصف بقدر ما يميل إلى محاورة كائناته التي يستخرجها من عالم شديد الاعتزاز بحسيته.

نرى في لوحاته قوة الشبق والشهوة وضراوة التمسك بالوجود، حلا لانعتاق الإنسان من وجوده الفاني. يتحرر الفنان من الحكاية بالقوة نفسها التي يتحرر من خلالها من الواقع. وهو على العموم واقع استثنائي لا يصلح للوصف لأنه يقع مرة واحدة، وهو لا يُعاش إلا أثناء عملية الرسم. وتلك عملية معقدة يعيشها السيوي بمتعة مَن يرى كائناته ويتعرف إليها للمرة الأولى وهو يعرف أنه في طريقه إلى التحرر منها. وإنا على يقين من أن ما نراه في لوحاته وقد عُلقت للعرض، ليس هو ما سبق أن رآه وهو يرسم. لقد اندثر أو مُحي عالم، يعرف الفنان أنه سيكون جزءا من وقائعه المنسية.

الرسام يقتل كائناته

يشبع السيوي الكائنات التي يخترعها حبا. في مرحلة أخرى يقتلها. في الحالين يراها قد عاشت حياتها كاملة. لا يتعلق ذلك الخلاص بزمن ومكان محددين. ذلك لأن الفنان يرسم كمَن يقتفي أثرا لحقيقة ضائعة. كم من العاطفة يحتاج الحب؟ كم من الألم تحتاج التضحية؟ سؤالان ينسجان خيوط عالم شقي، يتعذب السيوي كثيرا من أجل أن يتخلص منه بعد أن يضعه على لوحاته.

علينا ونحن ننظر إلى لوحاته، أن نفكر في شقائه وشقاء تلك الكائنات التي رُسمت ومن ثم مُحيت، غير أنها لم تتخل عن وجودها الشبحي. من خلالها يلوح الفنان لنفسه بسؤال وجودي "ما المسافة التي تفصل بين الواقع وخياله في حقيقة وجودنا؟". ذلك سؤال يلزم صاحبه أن يتجرّد من تأثير قوتي الواقع والخيال من غير أن يؤدي دور الشاهد.

لا يؤمن السيوي أصلا بوظيفة الشاهد حين يتعلق الأمر بالرسم. واقعيا هناك الكثير من الخيال الذي يخلخل الهواء بين عظامه، وخياليا هناك الكثير من الوقائع التي تترسب مثل الطين في مجرى مياه صاخبة. الرسم ليس هنا وليس هناك أيضا. فهو حين يمرر حكاياته، لا يريد لها أن تتحول إلى يقين بصري. ما نراه لن يحتفظ إلا بشيء قليل من إلهامها، أما ما يتبقى من الإلهام فإنه مستوحى من الرغبة في نسيانها. نحن نروي الحكايات لكي ننساها.

لكي لا يكون صمت

يستعيد عادل السيوي شؤون الخليقة منذ آدم. بطريقة أو بأخرى سيجد نفسه مشتبكا بالخرافة بأسلوب نقدي. لكن أسئلة الرسم تظل شاخصة وهي التي تتحكم بمساره. ليس من أجل التعرف إلى الخطأ والصواب. تلك مسألة ثانوية. ولكن من أجل أن لا يكون الصمت حدثا ثانويا. ما معنى ذلك؟ يرسم السيوي وقائع متخيلة جرى التوافق على أنها جزء من التاريخ المجاور، غير أنه في محاولته لاخراجها من ذلك الحيز، يمحو الكثير منها ليبقي  القليل. تلك نبوءة مرحة بأن الجمال قليل. وهو كذلك. بل أنه يقل كلما ارتطمنا به. الجمال ليس صنيعا بشريا.

 يفاجئنا السيوي بمحتوى لم نتوقعه، سواء تعلق ذلك المحتوى بحكاية نعرفها أو بصدام معرفي

يتسبّب سلوك السيوي بالكثير من الإحراج للخرافة حين يزيحها من أبديتها ويضعها وسط بضائع كثيرة قابلة للاستهلاك. ذلك ما يقرره الرسام وهو يؤثث براءته بأشياء كثيرة يستعيرها من عالم لا يقع إلا في متناول يديه. عالم خرافته الشخصية. غير أنه لا يستطرد. يتعامل مع موضوعاته باقتضاب غير متوقع بعد أن يكون قد استفاض في تشريحها قبل أن يصل إلى نتائجه النهائية التي قرر أن يضعها في الحيز العام.

 

يلتقط عادل السيوي مفرداته من أماكن مختلفة، من الحياة المباشرة ومن الكتب. لا فرق. رأيته يمشي أمامي وهو يهذب خطواته. قدم على الأرض وأخرى في مكان آخر. لا يسمح للمثقف بأن يسبقه، كما أنه حريص على أن يضبط خطوات ابن البلد. يعرف أنه وارث لمزيج من المتناقضات التي تنتمي كلها إلى عصر الحداثة. الأغاني والأفلام والحكايات الشعبية المصرية، وبالقوة نفسها كل النتاج الأوروبي الحديث من قصائد وأفلام وروايات وكتب عيش. عاش حياته مناضلا من أجل أن تتسق خطواته مع إيقاع العصر. هو ابن عصره الذي قرر أن يسبقه. ولأنها علاقة لا تقوم على الافتراض، فإن السيوي يفاجئنا بمحتوى لم نتوقعه، سواء تعلق ذلك المحتوى بحكاية نعرفها أو بصدام معرفي، هو الشاهد الوحيد عليه. غير أنه في الوقت نفسه لا يسمح لما يرسمه من مفردات بأن تتحول إلى رموز. رمزية كل شيء هي الجزء النائم من طاقته التعبيرية. حين تنتقل الأشياء كما الكائنات من الطبيعة إلى اللوحات، فإنها تكتسب وجودا يُخرجها من حيزها الرمزي. وهنا بالضبط يجد السيوي مبتغاه حين يزيد من حجم الممتلكات التي نجح في ضمها إلى عالمه بعدما حررها من كل صفاتها الجاهزة.

font change

مقالات ذات صلة