دونالد ترمب كان يريد هذه الأيام أن تكون تاريخية. أن يحتفل بمرور مئة يوم على رئاسته، بطريقة احتفالية. توقيع واحدة من الصفقات الكبرى التي سعى إليها قبل دخوله إلى البيت الأبيض. هذا ما يليق برئيس أقوى دولة في العالم ويعكس "عظمتها".
كان المرشح ترمب يعتقد أنه كرئيس قادر على وقف حرب أوكرانيا في 24 ساعة، وراهن على توقيع اتفاق مع إيران بـ60 يوما، وتعهد بوقف حرب غزة فورا. سلاحه هو قوة بلاده العسكرية والاقتصادية، وأدواته التفاوضية تصريحاته وتغريداته، ومبعوثه هو صديقه الشخصي وتاجر العقارات وخبير الصفقات، ستيف ويتكوف.
ويتكوف أمضى الأسابيع الأخيرة في الطائرات والرحلات، متنقلا وحيدا بين عواصم عدة على أمل أن يقدم إلى رئيسه وصديقه صفقة/هدية في هذه الأيام الاحتفالية. لكن رهاناته خابت واصطدمت بحسابات الدول ومصالحها وبراعات المفاوضين ومستشاريهم.
الملف الوحيد الذي حقق فيه ترمب بعض التقدم المؤقت، كان "حرب غزة" عندما ساعده حليفه بنيامين نتنياهو على إبرام اتفاق لوقف النار في القطاع تضمن إطلاق "حماس" لمحتجزين مقابل إطلاق أسرى فلسطينيين. هذا الاختراق شجع ترمب كي يطرح مشاريع طموحة لقطاع غزة وشرق أوسط جديد.
لم يكن أي من الأطراف المتحاربة والوسيطة في الإقليم، جاهزا للانتقال من الاتفاق الجزئي إلى صفقة كبرى. فنتنياهو أسير حسابات وتوازنات حكومته اليمينية. و"حماس" لم تكن مستعدة لقبول إطلاق سراح جميع الرهائن وتسليم سلاحها. كما أن دولا عربية لم تكن قادرة على قبول خطط ترمب للتهجير وإعمار غزة وتحويلها إلى منتجع سياحي.
وبين خطط نتنياهو لاحتلال ثلاثين في المئة من قطاع غزة واستمرار قضم الأراضي في الضفة الغربية وجنوب سوريا وجنوب لبنان، وتمسك "حماس" بشروطها لوقف النار (الانسحاب والهدنة الدائمة) وسلاحها، تستمر معاناة أهالي غزة، وتطرح بين فينة وأخرى صيغة جديدة لاتفاق على وقع تطورات الإقليم.
واضح أن "المرشد" علي خامنئي يريد إغراق دونالد ترمب بالتفاصيل، وواضح أن ستيف ويتكوف "الوحيد" ليس مسلحا بالتفاصيل
قد يختلف الأمر قليلا في الملف النووي الإيراني، لكن ليس كثيرا. فترمب بعث رسالة إلى "المرشد" علي خامنئي يعرض عليه، إما اتفاقا يتضمن التخلي عن الطموحات النووية العسكرية مقابل رفع للعقوبات وإما الاستعداد لضربة عسكرية، يحرض عليها ويريدها نتنياهو.
مهلة الـ60 يوما التي وضعها ترمب تتزامن مع ذكرى المئة يوم لتسلمه الرئاسة. تهديدات أميركا وتحركاتها العسكرية وبعض الضربات السرية، جلبت الإيرانيين إلى مائدة التفاوض، وعقدت جولات بين ويتكوف ووزير الخارجية عباس عراقجي في مسقط وروما.
واضح أن خامنئي يريد إغراق ترمب بالتفاصيل، وواضح أن ويتكوف "الوحيد" ليس مسلحا بالتفاصيل. المفاوضات النووية تتضمن الكثير من المعلومات الفنية. لكن الإيرانيين مستمرون بالرقص على أطراف الخط الأحمر الذي رسمه ترمب لخامنئي.
ترمب أبدى استعداده للقاء خامئني في حال تم الاتفاق على صفقة. هو سبق وأن التقى في ولايته الأولى رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون. هنا أيضا حسابات "المرشد" الداخلية مع المتشددين التي ظهرت أصواتهم وأفخاخهم في الأيام الأخيرة، تعقد حسابات خامنئي.
من جهته، قال الرئيس الأميركي لمجلة "تايم" أنه سيتوصل إلى اتفاق مع إيران، قبل أنه يحذر انه في حال فشل المفاوضات ستكون أميركا "في المقدمة" في شن حرب على إيران.... التي يريدها نتنياهو.
النيات لا تكفي لصنع السلام، والجولات لا تكفي لعقد الصفقات، والتغريدات لا تكفي لتحقيق المعجزات. ترمب يتحدث مع المئة يوم، والزعماء الآخرون يتحدثون مع التاريخ
أوكرانيا هي الملف الأعقد. له علاقة بحلفاء أميركا وترتيبات بنيت بعد الحرب العالمية الثانية. فترمب كان يراهن على اتفاق مع صديقه بوتين في 24 ساعة، عدا عن أنه كان يعتقد أن الحرب ما كانت لتقع لو كان في الرئاسة. وكان يعتقد أن مجرد تبنيه رواية الكرملين وقطع السلاح عن أوكرانيا، سيكونان كافيين لعقد صفقة بين بوتين وزيلينسكي.
لم يقبل بوتين عرضا أميركياً-أوكرانياً لوقف النار لثلاثين يوما، ولم يطبق كثيرا هدنة جزئية في البحر الأسود تمهد لوقف النار. كما أن العدوين بوتين وزيلينسكي، لم يوافقا على جميع نقاط خطة ترمب للاتفاق، التي تشمل تخلي أوكرانيا عن شرقها وشبه جزيرة القرم وطموحاتها للدخول في "الناتو" والتخلي عن مفاعل زاباروجيا.
استعجال ترمب قوبل ببرود بوتين وزيلينسكي. خطوط ترمب العامة قوبلت بخطوط حمراء من العدوين في الحرب المستمرة من ثلاث سنوات، فوبخ الرئيس الأوكراني أكثر من مرة، لكن الجديد أنه بات يمطر صديقه بوتين بالتغريدات.
ذكرى المئة اليوم مناسبة لتذكر أهمية الصبر والتفاصيل والدبلوماسية. أن يجلس ويتكوف وحيدا مقابل بوتين الذي أحاط نفسه بكبار وزرائه ومستشاريه، سيساهم في بلع الذخيرة الخطابية الروسية، لكنه لن يساهم في إقناع زيلينسكي بالمعروض.
النيات لا تكفي لصنع السلام، والجولات لا تكفي لعقد الصفقات، والتغريدات لا تكفي لتحقيق المعجزات. ذكرى المئة يوم سطور مهمة في كتاب ترمب لكنها ليست موعدا في مجلدات الآخرين. مواقيت مختلفة لزعماء مختلفين. سيد البيت الأبيض يتحدث مع المئة يوم، والزعماء الآخرون يتحدثون مع التاريخ.