"إيران الجديدة" وفرص الخروج من المأزق الإقليمي

ضوء في آخر النفق

أ.ف.ب
أ.ف.ب
غلاف لمجلة إيرانية تتناول المحادثات بين إيران والولايات المتحدة بشأن البرنامج النووي الإيراني، في 19 أبريل

"إيران الجديدة" وفرص الخروج من المأزق الإقليمي

هل نحن أمام مشهد جديد في المنطقة؟ السؤال هنا لا يتعلق بوقائع العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة والنتائج المباشرة لهذا العدوان على مستوى المنطقة ولاسيما في سوريا ولبنان. ثمة جديد تقدمه المفاوضات الإيرانية-الأميركية والتي تحولت، وبحكم ترتيب الأولويات الاستراتيجية للقوى الإقليمية والدولية، إلى الحدث الرئيس الآن في المنطقة. وهو ما يظهر إسرائيل في حال تراجع لناحية عدم قدرتها على فرض أجندتها في الإقليم، في ظل اهتمام الرئيس دونالد ترمب بالتوصل إلى اتفاق مع طهران.

بطبيعة الحال لا يمكن القول إن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ونتائجها الإقليمية أصبحت حدثا ثانويا، لكن في المقابل إذا كانت إسرائيل تريد من خلال التمادي في هذه الحرب تأكيد لا محدودية قوتها وغياب أي قدرة دولية أو إقليمية على منعها من تحقيق سياساتها في الأراضي الفلسطينية والمنطقة، فإن ضعف قدرتها حتى الآن في التأثير على مجرى المفاوضات الأميركية-الإيرانية، أو بمفردات أخرى عدم قدرتها على جعل إدارة ترمب تتبنى السقف الذي وضعته لهذه المفاوضات أي تفكيك البرنامج النووي الإيراني كليا على الطريقة الليبية، يؤكد محدودية القوة الإسرائيلية أمام المعادلات الدولية والإقليمية المتغيرة.

بيد أن الأمر لا يتعلق وحسب بديناميات التحالف بين واشنطن وتل أبيب ولا بحسابات الولايات المتحدة في التعامل مع الملف الإيراني بناء على أولوياتها الدولية والإقليمية المتزاحمة من الصين إلى أوكرانيا والشرق الأوسط، بل إن المتغير الأساسي هنا هو بروز الدينامية الإقليمية في ما يخص العلاقات السعودية-الإيرانية، والتي تتيح سلوك مسار عربي جديد للتعامل مع كل ما له صلة بإيران.

والواقع أن أهمية التقارب السعودي-الإيراني في هذه اللحظة أنه لا يأتي بدافع مصلحة أحدهما دون الآخر، أي إن هذا التقارب جاء وليد مصلحة كل منهما في التقارب مع الآخر تبعا للتطورات الإقليمية، لكن أيضا بالنظر إلى أن إيران وبفعل هذه التطورات تبدو مستعدة وأكثر من أي وقت مضى للتعامل بطريقة مختلفة مع الملفات الإقليمية.

لا ريب في أن الظروف الاقتصادية تدفع طهران لسلوك طرق الدبلوماسية في محاولة لرفع العقوبات عنها وفتح الاقتصاد الإيراني أمام السوق والاستثمارات العالمية، في وقت أن مجرد سلوك طريق المفاوضات مع أميركا من دون عقبات داخلية كبرى يؤشر إلى ميزان القوى في الداخل الإيراني على اعتبار أن الشرائح التي ترى مصلحة في انفتاح السوق الإيرانية على العالم غالبة على الشرائح التي تريد الإبقاء على اقتصاد العقوبات للحفاظ مصالحها. وهذا مؤشر أساسي لفهم الاستعداد الإيراني لسلوك مسارات سياسية واقتصادية جديدة ومن ضمنها كيفية التعامل مع ملفات المنطقة.

وهو استعداد غير مسبوق إذا ما قيس على ظروف المفاوضات في زمن الرئيس باراك أوباما، إذ كانت إيران مختلفة عما هي عليه اليوم بالنظر إلى أنها كانت وقتذاك قوة إقليمية صاعدة وصدامية بدءا من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن. كذلك فإن قابلية إيران الآن لإعادة تركيب مكتسابتها وتنازلاتها أكبر منها في زمن الرئيس جو بايدن الذي وصف بالمتساهل مع طهران.

كما أن المنحى الجديد الذي يسلكه الخطاب الإيراني العام، بدءا من كلام المرشد علي خامنئي في 24 أبريل/نيسان والذي غلب السلام وضبط النفس، وكذلك ضبط الخطاب الإعلامي الذي دل عليه اعتذار التلفزيون الحكومي الرسمي على بث فقرات مسيئة لمسؤولين عرب وللخليفة الأول أبي بكر الصديق، وأخذه إجراءات تأديبية بحق معديها، يؤشر إلى أن إيران أمام تحول يمكن القول ولو ببعض الحذر أنه عميق وليس مجرد مناورة تكتيكية للتعامل مع المرحلة الراهنة.

وأيا يكن من أمر فإن ذلك كله يؤشر إلى وجود فرصة يجب الإفادة منها في مقاربة الملف الإيراني وإعادة قراءة الاحتقان الإقليمي طوال العقدين الماضيين بطريقة مختلفة تنطلق من ضرورة تجاوز هذا الاحتقان بكل تداعياته السياسية والإعلامية والدخول في معالجات جدية لهذا الملف الشائك والذي توسع كثيرا ليشمل مقاربات تاريخية واجتماعية عن العلاقات العربية-الإيرانية كانت بغالبها مدفوعة بواقع الاحتقان السياسي والأمني السائد.

عدم دفاع إيران عن "حزب الله" خلال الحرب لا يمكن تفسيره وحسب بدافع الخوف من نشوب حرب بينها وبين كل من إسرائيل وأميركا، بل هو أيضا نتيجة للتحول في السياسات الخارجية الإيرانية والذي بدأ قبل الحرب

من نافلة القول إننا أمام مرحلة انتقالية في ما يخص مستقبل العلاقات العربية-الإيرانية والتي يفترض أن تتجاوز العلاقات الخليجية-الإيرانية والتي تكتسب طابعا خاصا بحكم الجغرافيا. بمعنى أن تحسن هذه العلاقات ودخولها في مسار تصالحي وتعاوني لا يفترض أن يقتصر على الدول الخليجية وإيران بل أن تكون دول المشرق العربي وبالأخص لبنان وسوريا جزءا من هذا المسار، وإن كان ذلك ينطوي على تعقيدات إضافية بالنظر إلى تداعيات الصراع الأهلي في هذين البلدين على الموقف اللبناني والسوري العام من الموضوع الإيراني.

بيد أن ذلك يتطلب في المقابل فهما جديدا للعلاقة بين إيران وحلفائها أو وكلائها، ولاسيما "حزب الله"، على قاعدة أن النظرة إلى إيران لا يفترض أن تبقى مقيدة إلى الأبد بواقع العلاقة بين "الحزب" وإيران، خصوصا أن هذه العلاقة قد تشهد تحولات في ظل المتغيرات الجديدة في المنطقة. وهذه مسألة معقدة لأن فهمها يتطلب تفكيكا دقيقا لدينامية العلاقة بين الجانبين والتي لا يمكن أن تكون دينامية جامدة بل هي خاضعة حكما للظروف الموضوعية الناشئة في المنطقة وفي الداخل الإيراني.

أ.ف.ب.
أنصار حزب "الله" في مظاهرة لقطع طريق المطار احتجاجا على قرار السلطات اللبنانية منع هبوط طائرات إيرانية في مطار بيروت، 15 فبراير 2025

في مطلق الأحوال فإنه لا يزال من المبكر التكهن بمستقبل هذه العلاقة وتأثيرات أي تحول في السياسات الخارجية الإيرانية على "حزب الله". لكن واقع الحال أن فشل اختبار القوة الإيراني والذي كان "الحزب" عنوانه الأبرز، من المفترض أن يدفع طهران إلى إعادة قراءة المشهد الإقليمي وحضورها فيه، مع ما يقتضيه ذلك من مراجعة لنظرية الدفاع المتقدم أي أن الدفاع عن إيران يبدأ في لبنان وسوريا والعراق... إلخ، وهي استراتيجية تقول أوساط إيرانية إن الشاه قد وضعها في عام 1974.

ويمكن هنا استعادة تعامل إيران مع الحرب في المنطقة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ بدا ومنذ اللحظة الأولى أن إيران غير مستعدة للانخراط في الحرب، حتى إنها نفت في وقت مبكر جدا علمها بهجوم "حماس"، كما أنها لم تبادر إلى الدفاع عن "حزب الله" بعد الهجوم المدمر الذي تعرض له والذي أودى بأهم قياداته وعلى رأسهم حسن نصرالله.

معنى ذلك الآن أن "حماس"، التي تربطها علاقة معقدة مع إيران، قد أساءت تقدير الموقف الإيراني على اعتبار أن طهران كانت قد باشرت باعتماد سياسة خفض التوتر الإقليمي ولاسيما مع السعودية. كذلك فإن عدم دفاع إيران عن "حزب الله" خلال الحرب لا يمكن تفسيره بدافع الخوف من نشوب حرب بينها وبين كل من إسرائيل وأميركا وحسب، بل هو أيضا نتيجة للتحول في السياسات الخارجية الإيرانية والذي بدأ قبل الحرب.

هذا كله يجعل من الاعتقاد السائد بأن إيران و"حزب الله" هما جسم واحد اعتقادا فيه الكثير من اللغط وإن كان مستقبل العلاقة بينهما غير واضح بعد. ولا ريب في أن هذا الفهم المغاير يساهم في التأسيس لمقاربات جديدة للعلاقات العربية مع طهران، وتحديدا في سوريا ولبنان اللذين كانا ساحة اشتباك مباشر مع النفوذ الإيراني المتمثل بـ"حزب الله" ونظام الأسد.

إن المنطقة أمام مشهد جديد وأمام فرصة جديدة لتبريد الاحتقان الإقليمي والبحث عن مسارات مختلفة لمقاربة المخاطر التي تواجهها وفي مقدمتها راهنا سياسات الحكومة اليمينية الإسرائيلية

كذلك فإذا كان صحيحا أن اختلال موازين القوى في المنطقة وخطر تحول إيران إلى ساحة رئيسة للمواجهة الإقليمية قد جعلا  طهران في موقع أضعف مما كانت عليه خلال مفاوضات 2013 و2015، فإن الصحيح أيضا أن إيران لا تفاوض من موقع ضعف مطلق، فهي راكمت نقاط قوة عديدة في الملف النووي ولاسيما أن خبرتها الطويلة في المفاوضات تمنحها ميزة مضافة في حال اتجهت هذه المفاوضات إلى المنحى التقني والفني. وهذه النقاط هي ما يحكم مفاوضاتها مع إدارة ترمب الآن وليس منظومتها الإقليمية وقدرتها على تهديد إسرائيل والحضور الأميركي في المنطقة.

بالتالي فإذا كانت إيران مستفيدة من تصميم ترمب على التوصل إلى اتفاق معها، فهي لا تخوض المفاوضات وكأنها نتيجة لهزيمة حلفائها في المنطقة، بل هي حيدت نفسها مبكرا عن هذه الهزيمة بالرغم من تأثيراتها عليها، بل يمكن القول إنها قادرة على تجاوزها، خصوصا إذا تمكنت من إبرام اتفاق مع الأميركيين. وهذا يفترض أن يترك أثرا في القرار الإيراني لإعادة بناء منظومة الميليشيات الإقليمية، خصوصا أنها فشلت في اختبار القوة ضد إسرائيل وأميركا، وأججت الاحتقان ضد إيران في العالم العربي، بينما تنفتح الآن آفاق جديدة للعلاقات الإيرانية العربية. 

في المحصلة، إن المنطقة أمام مشهد جديد وأمام فرصة جديدة لتبريد الاحتقان الإقليمي والبحث عن مسارات مختلفة لمقاربة المخاطر التي تواجهها وفي مقدمتها راهنا سياسات الحكومة اليمينية الإسرائيلية، وهو ما ينعكس حكما على كل دول المنطقة وبالأخص سوريا ولبنان اللذان كانا المسرح الأبرز لهذا الاحتقان ناهيك بالعراق واليمن. ولا شك أنّ المرحلة الانتقالية ستكون صعبة وقد تستغرق وقتا ليس بالقليل، لكن مجرد التفكير بإمكان تجاوز مخلفات المرحلة السابقة والتي شهدت أطول الحروب الأهلية في المنطقة، يبعث على رؤية ضوء في آخر النفق، وإن كان أحد أهم دروس الأحداث في المنطقة هو عدم الإفراط في التفاؤل.

font change