محمود محيي الدين لـ"المجلة": الاقتصاد العالمي يشهد تحولا دراماتيكيا

قد نرى عالما متعدد الأقطاب ويجب أن يكون هدفنا هو البشر والتنمية المستدامة

المجلة
المجلة

محمود محيي الدين لـ"المجلة": الاقتصاد العالمي يشهد تحولا دراماتيكيا

في عالم يمكن أن تمر فيه عقود من الزمن دون تغيير يُذكر، لتقطعها أسابيع بل أيام تتغير فيها الأوضاع الجيوسياسية والاقتصادية بشكل دراماتيكي، أصبحت وتيرة الأحداث العالمية أكثر سرعة وتقلباتها غير متوقعة أكثر من أي وقت مضى. وفي الآونة الأخيرة، شهدنا مثلاً صارخًا على هذه الظاهرة: مسار العلاقات التجارية الأميركية مع الصين، التي تتأرجح بين الاقتراب من قطيعة محتملة، ثم هدوء في العلاقات، ثم العودة إلى حالة الجمود، مما يسلط الضوء على التقلبات التي تميز العلاقات الدولية اليوم.

لإلقاء نظرة متأنية على هذه التطورات وتداعياتها الأوسع نطاقًا، تحدثنا مع الدكتور محمود محيي الدين، وهو خبير اقتصادي مصري رائد يحظى بتقدير كبير في مجال السياسات الاقتصادية الإقليمية والعالمية. شغل العديد من المناصب البارزة في مؤسسات دولية عدة، وفي مقدمها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، كما أنه كان وزيرا للاستثمار في مصر. ويشغل حاليا منصب المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لتمويل أجندة 2030 للتنمية المستدامة.

نتناول في هذه المقابلة الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب لدول الخليج العربي، والديناميكيات المتغيرة للعلاقات الدولية والإقليمية في ضوء تحالفات اقتصادية قائمة مثل "بريكس" و"آسيان"، إضافة الى قضايا التعريفات الجمركية، والذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي. وهنا نص الحوار:

لنبدأ من القمة الأميركية السعودية الأخيرة في الرياض، اللافت بعيداً من لغة الأرقام والصفقات، هذا التحول الاستراتيجي في العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة الأميركية؟

العلاقة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية في تطور مستمر على مدار عشرات السنين، وأتصور أن الفترة الماضية التي سبقت زيارة الرئيس الأميركي للخليج، وللسعودية تحديدا، أتاحت فرصة للتعرف الى تطورات هذه الزيارات وأهدافها وما ترتب عليها من قرارات اقتصادية وأيضا سياسية. لكن من المهم أن نقارن بين هذه الزيارة الأخيرة، وتلك السابقة التي قام بها الرئيس ترمب في ولايته الأولى. وأعتقد أنه قد جاء إلى المملكة الآن، وهي أكثر تطورا بالنسبة إلى إنجازاتها في إطار الرؤية المتكاملة للتنمية، "رؤية السعودية 2030".

في زيارته الأولى، كانت المملكة في أولى خطواتها الرئيسة المهمة للتحديث والتطوير والتنويع لتمكين الشباب والمرأة، ولإحداث تحول مهم في دور القطاع الخاص، ورسم خطط طموحة، إلى غير ذلك مما شاهدناه على مدى السنوات الماضية. ولكن الزيارة الأخيرة تأتي مع نضوج التصور لما يجب أن تكون عليه المشاركات ولما أصبح أكثر تطوراً وتحديداً في أهدافه، حتى إذا ما جاءت الأمور في إطار استثمارات أو عقد اتفاقات في حقول التجارة والاستثمار فهي تندرج في إطار بناء متكامل، وهذا يأتي بعائد أعلى في التنمية وفرص العمل والتشغيل.

هناك عقود تمر دون أن يحدث فيها شيء، وهناك أسابيع يحدث فيها كل شيء، وهذا القول مر عليه أكثر من قرن، ولكن حاليا يمر يوم ويحدث كل شيء. بين ليلة وضحاها نجد علاقات تجارية تقترب من القطيعة ثم تهدأ من جديد

وجدنا أيضاً، بالتركيز على مجالات الاقتصاد والاستثمار والتجارة، تنوعا كبيرا جدا حظي باهتمام الشركات الأميركية الكبرى المستثمرة. فهناك الشركات والمؤسسات العاملة في مجالات الطاقة والنفط والغاز تحديداً، وأيضاً في قطاع الخدمات المالية، والعلاقة مع هذه المؤسسات ممتدة لعشرات السنين. لكن الجديد هو تقدم مجموعة من الشركات المعنية بالتحول الرقمي، بالذكاء الاصطناعي، بعلوم الحياة والصحة، حتى في مجال الطاقة، وأيضا الدخول في مرحلة جديدة من البرنامج النووي السلمي الذي تعتزم المملكة العربية السعودية الانطلاق به. هناك نقطة إضافية مهمة، أن هذه الزيارة جاءت مع رؤساء الشركات الذين صاحبوا الرئيس الأميركي، وحظيت باهتمام بالغ، ليس فقط على مستوى القيادة السياسية والمسؤولين في المملكة كما هو معتاد، بل أيضا على المستوى الشعبي، هناك نوع من الاندماج، فشرائح المجتمع السعودي ترى نفسها شريكة بالفعل في هذا التطور، وتجد في مثل هذه الزيارات مجالات لتحقيق النفع العام للبلد، أو حتى، في الحد الأدنى، تقليل الأخطار والتوترات الدولية والإقليمية.

 

ما توقفت عنده أيضا في كلمة الرئيس ترمب، تركيزه "نحن لم نأت بقيم الغرب أو بقيم الولايات المتحدة"، ولكن بفكر عملي استثماري لمصلحة الولايات المتحدة كما لتعزيز العلاقة مع السعودية، فهذا الموقف مغاير لإدارات أميركية سابقة كانت تتحدث عما أسموه بالقيم الغربية وتصل إلى درجة إعطاء المحاضرات والدروس؟

لا أدري حقيقة دافع الكلمات التي أشرت اليها على لسان الرئيس ترمب، هل هي من باب المجاملة أو من باب الطمأنة أو إظهار المرونة. ولكن بغض النظر عن دافعه لأقواله، فهو في النهاية مدفوع بقيمه ولن يتخلى عنها، وهي المحرك الأساس له ولشعبيته، سواء في الفترة الأولى أو الحالية، وإن أظهر أنه أكثر مرونة وبراغماتية، فهذا معروف عنه، أو كونه يهدف إلى تعظيم المصالح في بلاده. وقد جاء بشعار "أميركا أولا"، الذي يحاول بعض المسؤولين معه بين حين وآخر تلطيفه بأن "أميركا أولا" لا تعني أميركا وحدها، وبالتالي هناك مجالات للنفع المشترك وتبادل العلاقات، إلى غير ذلك. ولكن في متابعتي لسياسة الإدارة الأميركية الحالية، وهي تتسم بالتغير الكبير، ما يميزها هي الصراحة الشديدة في كل مرة. ولكن هذا يتغير بين عشية وضحاها، ما جعلني أطلق على الأيام الماضية اسم "أيام لينينية"، نسبة إلى الزعيم السياسي الثوري الروسي فلاديمير لينين عندما قال إن هناك عقوداً تمر دون أن يحدث فيها شيء، وهناك أسابيع يحدث فيها كل شيء، وهذا القول مر عليه أكثر من قرن، ولكن حاليا يمر يوم ويحدث كل شيء. بين ليلة وضحاها نجد علاقات تجارية تقترب من القطيعة مثلاً مع الصين، ثم يتحول الأمر إلى تجميد، ثم إلى تحسين، ثم إلى تجميد مرة أخرى.

كيف تقيم إذن ظاهرة ترمب الاقتصادية، هل نحن أمام رجل ورئيس أكبر دولة في العالم قد يُحدث ثورة اقتصادية عالمية ويغير مفاهيم علم الاقتصاد، أم نحن أمام رجل يتخذ بعض القرارات المالية التي تقترب إلى إدارة الأعمال وقد تتسبب في كساد كبير للاقتصاد العالمي؟

الرئيس الحالي للولايات المتحدة هو نتاج تطورات كبيرة وخطيرة في الموازين الاقتصادية والسياسية العالمية، وأفرّق بين المضمون والاتجاه العام، وبين الحالة والطريقة والأسلوب ومجالات التعبير عن هذه الحالة. فالنظام الاقتصادي العالمي المتوارث منذ الحرب العالمية الثانية بمؤسسات وتحالفات قد انتهى، وهذه النهاية لها دلائل تتجلى بالترتيبات والإجراءات والتوقعات التي يسير عليها النظام السياسي الدولي والعلاقات الاقتصادية الدولية، ومنها ما تحدثت عنه رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فوندرلاين منذ أسابيع أن الغرب بتحالفاته قد انتهى على النحو المتعارف عليه. وهي كمسؤولة كبرى في التجمع الاقتصادي الأكبر بعد الولايات المتحدة، عندما تتحدث في هذا الشأن لا تتحدث باعتبارها شخصا مفكرا تتمتع بحرية الحركة في ما تقول، ولكنها تعبر عن مؤسسة، وعن إطار عام يلزمها أن تقوله.

هناك في الداخل الأميركي حالة من الاحتقان وعدم الرضى على الدولة بمؤسساتها وبأقسامها العميقة والضحلة، وهذا ما أتى بترمب وهو يعبّر عن حالة من السخط العام في أوساط الطبقة الوسطى

وعندما يتحدث مسؤول في مثل هذه الدول فإنه يتحدث بعد تشاور ونقاش. عندما تجد أن المؤسسات المالية الدولية اليوم، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والمنظمات الأخرى بما في ذلك المنظمة الأممية، محل مراجعة، ليس فقط من جانب الإدارة الأميركية ووزارة الخزانة الأميركية، ولكن أيضاً من داخلها، وعندما يتكرر الحديث بجدية عن كيفية بقاء الولايات المتحدة كمؤسس، وأن يصل الحديث إلى هذه المرحلة، فهذا في حد ذاته أمر خطير.

منظمة التجارة العالمية معطلة

منظمة التجارة العالمية معطلة عن القيام بدورها، بمعنى أنه إذا نشب نزاع بين دولتين، كما نرى في النزاعات التي توصف الآن بأنها حرب تجارية، فمنظمة التجارة كأنها غير موجودة. هذا هو الإطار الاقتصادي العالمي، ولكن في الوقت نفسه، هناك في الداخل الأميركي حالة من الاحتقان وعدم الرضى على الدولة بمؤسساتها وبأقسامها العميقة والضحلة، وهذا ما أتى بترمب، فهو لا يعتبر كرئيس لحزب جمهوري تقليدي، بل باعتباره مسؤولاً عن حركة، وهو يقول ذلك بنفسه، ويعبّر عن حالة من السخط العام، وعن تقليدية العمل بين الحزبين على مدار الفترة الماضية.

من واقع القرارات التنفيذية التي يتخذها، هناك قرار تنفيذي لفتني، عندما اتخذ الرئيس ترمب قرارا بتغيير قَصَبَات الشُرْب من ورقية إلى بلاستيكية، فهل تراه قرارا اقتصاديا جادا، أم قرارا مسيسا، بمعنى أنه لمداعبة الناخب الأميركي؟

 لدى الرئيس الأميركي سلطة واسعة، وتوسّع في القرارات التنفيذية الرئاسية، عدداً ونوعاً ونوعية. هناك قرارات في غاية الخطورة، كالتعريفات الجمركية، وأيضاً الإجراءات المرتبطة بالهجرة، وغيرها. وجدنا في الأيام الأولى عشرات من القرارات المتدفقة، كأنه يحقق أرقاماً قياسية في عددها. واضح هذه المرة أنه أتى بها جاهزة، فهي ليست بنت اللحظة. مجرد التفكير في عناوينها وتوجهاتها، معناه أن الرئيس الأميركي الحالي بعد نهاية ولايته الأولى، ورغم كل ما تعرض له من اتهامات وتقاضٍ، أعدّ نفسه بفريق عمله وبأفكاره، بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه، ومع تلك القرارات التي تبدأ من قَصَبَات المشروبات، إلى استخدام أسلحة نووية في مجالات الاقتصاد.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب، يعرض الرسوم الجمركية على دول العالم، في "يوم التحرير"، واشنطن 2 أبريل 2025

أعتبر أن كل ما تم الحديث عنه، سواء بالنسبة لتهديد من يستخدم عملة غير الدولار بأنه سيخضع لتعريفة جمركية، والتصعيد مع الصديق قبل الغريب في حركة التجارة، كل هذا يوضح أن هناك مجموعة عملت معه فترة طويلة في التجهيز والإعداد. وبالنسبة إلى موضوع استخدام أداة الشرب، فهذه واحدة من العادات الأميركية التي يستخدمونها أكثر من أي بلد آخر في المشروبات الساخنة والباردة. مما يعطي إشارة إلى أن البدائل التي استُخدمت بدعوى الحفاظ على البيئة والتصدي للتغيرات المناخية باستخدام أقل للبلاستيك واستعمال بديل له قابل للتحلل، تؤكد أن البيئة تستطيع استيعاب مثل هذه الأطنان الإضافية، بدل مضايقة المستهلكين بتحطيمها عند استخدامها.

التجارة صارت محل استفهام

نأتي إلى موضوع التعريفات الجمركية. أنت ذكرت أننا بين عشية وضحاها نستيقظ على قرار جديد للرئيس ترمب قد يغير المشهد الاقتصادي العالمي. سؤالي يتعلق بالدول النامية التي تحاول أن تحسّن أداءها الاقتصادي، كيف لها أن تتعامل مع هذا الواقع، وتتحوط من قرارات مفاجئة في المستقبل؟

هذا الموضوع هو في غاية الأهمية والخطورة، من الممكن التحدث عن ملامح وأولويات عامة، لكن ذلك يتطلب التعامل مع الأمور، حالة بحالة. رواندا وبوروندي وجنوب السودان، هي دول أفريقية، ولكل منها إمكانات مختلفة للتعامل مع المستجدات. فالتعرفة الجمركية، تزامنت مع قرار تنفيذي خطير للغاية وهو تجميد المساعدات الإنمائية المقدمة عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وكذلك تجميد بعض القواعد والمبادرات التي عززت العلاقات الأميركية بأفريقيا لجهة التجارة والاستثمار تحت عناوين كبيرة مثل "From aid to trade". فالآن أصبحت التجارة محل استفهام، وكذلك المساعدات، وأصبح ممكنا القول "From aid to no aid" أي من المساعدات الى وقفها. يعتمد جنوب السودان، مثلا، اعتماداً كبيراً في موازنته العامة على المساعدات الأميركية، وبقدر بسيط على ما هو متاح لتصديره للوصول بشكل يسير للأسواق الأميركية، ويعتمد في تطوير أوضاعه التنموية على مساعدات إنمائية فنية مباشرة من الولايات المتحدة، أو غير مباشرة من خلال إسهام الولايات المتحدة في عدد من المؤسسات والمنظمات الدولية.

المنافسة جاءت بالخير على مجموعة دول "آسيان"، فهي تنافست لتحقيق النمو الاقتصادي المضطرد المرتفع، وعلى جودة التعليم والرعاية الصحية، وتحقيق التنمية المستدامة. هذا التجمع أعتبره مدهشاً ويعمل دون صخب وببراغماتية ومرونة عالية

فبلد مثل جنوب السودان ستعاني من مشكلة أكبر، وكذلك بوروندي، وإن كانت إمكاناتها أكبر. لكن رواندا فلديها فرصة جيدة لخفض الاعتماد على المساعدات الإنمائية وتحفّز حشد الموارد من الداخل والاستثمار بدلاً من الاعتماد على الاستدانة والمعونة. وفي ظل هذه الحالة الشديدة السيولة، على الدول النامية أن تقوم بثلاثة أمور: أولا استعادة العافية بالاعتماد على ذاتها، ونستدعي بذلك البيت الشهير للإمام الشافعي "ما حك جلدك مثل ظفرك فتولى أنت جميع أمرك". ففي هذا الإطار الجديد، يجب أن تكون أكثر اعتمادا على الداخل، بتعبئة الموارد المحلية، وتحديد الأولويات بشكل جيد، والتركيز على الاستثمار والتصدير، الاهتمام بالاستثمار في البشر، والارتقاء التكنولوجي.

الاستثمار في البشر

ناديتُ طوال عشرات السنين بأن الاستثمار في التعليم والرعاية الصحية أجدى من الاستدانة، والاستثمار في البشر أجدى من الاستثمارات في مجالات أخرى. هذا لا يعني تقليل الاهتمام بالبنية الأساسية أو بالتطوير العقاري، لكن يجب أن يكون هدفنا هو البشر والتنمية المستدامة بنمو مطرد مرتفع، بالاعتماد على تعبئة الموارد من الداخل، وعلى الاستثمار وعلى التصدير، وعلى الاستدانة، وتقليل الاعتماد على المساعدات الإنمائية.

من بين الدول الثلاث التي ذكرناها سابقاً، رواندا هي الاكثر استعدادا للتعامل مع هذا الواقع الجديد. مصر مثلا، تستطيع بما لها من إمكانات كبرى، أن تتمرد على نموذج النمو القائم وأن تتبنى نموذجا لنمو جديد يعتمد على هذه الانطلاقات المحددة: تعبئة الموارد المحلية والاستثمار والتصدير والاهتمام بالتكنولوجيا. هناك أيضاً التعاون الإقليمي. أوروبا تعيد اكتشاف نفسها وأولوياتها في إطار التعاون الإقليمي، مجموعة دول "آسيان" مهتمة بالفعل. وأتصور أن مجالات التعاون بين دول المجلس التعاون الخليجي والصين ستترتب عليها أمور مهمة للغاية في مجالات التجارة والاستثمار. العالم سيتحرك في اتجاهات مختلفة بعد هذه الصدمات المتوالية، وهذا يؤكد مرة أخرى أن النظام التقليدي شهد نهاية، ونحن في بدايات تعتمد على الداخل وعلى إقليمية جديدة، وقد نرى عالما متعدد الأقطاب.

 

هل ترى أن تحالفات مثل "آسيان" و"بريكس" قادرة على إعادة التوازن في المشهد الاقتصادي العالمي في مقابل القوة الأميركية المهيمنة على المشهد الاقتصادي العالمي من جهة، والصين من جهة أخرى؟

ليست المنافسة عيبا، بل أتصور أنها جاءت بالخير على مجموعة دول "آسيان"، فهي تنافست لتحقيق النمو الاقتصادي المضطرد المرتفع، وتنافست لزيادة جودة التعليم والرعاية الصحية، وتحقيق التنمية المستدامة. هذا التجمع أعتبره مدهشاً، ويعمل دون صخب، وببراغماتية ومرونة عالية. تجد العلاقات التجارية المتبادلة بين دول مجموعة "آسيان" متزايدة، ونتمنى أن نرى قريباً مثل هذه العلاقات التجارية المضطردة بين بلداننا العربية. علما أن الدول العربية كانت سباقة في إنشاء سوق عربية مشتركة وتعاون اقتصادي مشترك وغير ذلك من أمور. فجامعة الدول العربية تعود إلى الأربعينات من القرن المنصرم، سنة 1945، بينما تعود آسيان لسنة 1967، ثم تدرجت، وكان بين دولها ليس فقط منافسة، بل حروب. كمبوديا وفيتنام دخلتا في حرب في السبعينات، ولكن الآن هي من الدول الصديقة والمتعاونة، ولديها علاقات تجارية واستثمارية متميزة، وتنسق بين بعضها البعض في التعامل، لا سيما في الاتفاقات التجارية، ليس فقط مع الولايات المتحدة، ولكن مع مجموعات أخرى أيضا مثل "آسيان+3" التي تضم كوريا واليابان والصين، وعمالقة آخرين في الاقتصاد كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

إلا أن هذا الكيان غير مؤهل، بالمعنى الاقتصادي، بأن تكون له عملة موحدة، في المقابل، يمكن أن تكون التجارة فيما بين دوله أكبر، وكذلك الاستثمار والتعاون التكنولوجي.

مصر والتحول الى الاقتصاد الحر

عند دراسة المشهد الاقتصادي في مصر استوقفني أمران: الأول هو تحوّلها إلى اقتصاد قابل للتداول يعتمد على الإنتاجية أكثر من الاستهلاك، وهذا يعتبر في تحليلي المتواضع جداً، تحولاً لافتاً. الأمر الثاني هو أننا بدأنا نشهد تحولا حقيقيا في مصر إلى الاقتصاد الحر، مع تراجع ملحوظ للاستثمار الحكومي في الاقتصاد، بنسبة تجاوزت 25 في المئة في الربع الأخير من العام الماضي 2024. ما هي قراءتك لهذا التغير؟

كان هناك مؤتمر بين كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، ومركز معلومات مجلس الوزراء، حضرته مجموعة من الوزراء تحت رعاية رئيس مجلس الوزراء، وقد تحدثت فيه بوضوح أنه يجب التصدي لعلاج الاختلالات، ونفرّق بين ما هو أزمة وما هو تحدٍّ: هناك أزمة في التصدير وتحدّ في الاستيراد، هناك أزمة في الإيرادات العامة وتحدٍّ في الإنفاق العام، هناك أزمة في الإدخار وتحدٍّ في الاستثمار، وفي المجالات الثلاثة هناك فجوة، ولكن هل تكون طريقة تعاملك مع هذه الفجوة، بتقليل الاستيراد أو بزيادة الصادرات؟ حتماً في زيادة الصادرات، إذ إن الأزمة تكمن في الإيرادات العامة. لديك تحدٍّ في زيادة الاستثمارات حتماً، ولكن لديك أزمة في تعبئة الموارد المحلية والإدخار القومي الذي يتضمن إدخار القطاع العائلي وإدخار القطاع الخاص والإدخار الحكومي. القطاع العائلي في مصر، رغم كل الظروف والأزمات، يحاول الادخار، سواء من خلال المنظومة المصرفية والمالية والأسواق المالية، أو من خلال الاستثمار في مجالات مختلفة بشكل مباشر أو حتى الاستثمار في عقارات.

قد يختلف شكل العملة في التعامل واستخدام تكنولوجيا العصر، ولكن أين مكون العملة وسندها؟ شكل العملة للتيسير مهم، ولكن في النهاية قيمة العملة تستمد مما تقتنيه من سلع وخدمات وهذا الأهم

 لكن المشكلة في الحالة المصرية هي عدم الإدخار، بسبب الخسائر من الشركات والهيئات الحكومية. وهذا يحتاج إلى مراجعة ضخمة. لمعالجة هذه الاختلالات، هناك خمسة ممكنات: التنويع الاقتصادي، حيث أن مصر تستطيع أن تقوم بالتنويع الاقتصادي بيسر نسبي، مقارنة بالدول الأخرى. إذا ارادت الزراعة زرعت، وإذا أرادت التصنيع صنّعت، وإذا أرادت القيام بنقلة نوعية في مجالات الاستثمار التكنولوجي فإن لديها أكبر عدد من المتخرجين بنوعيات عالية في الجامعات سنوياً، من المهندسين والعلماء في مجالات مختلفة، ويمكن البناء على ذلك بالتجويد والتطوير والمشاركة مع جامعات في الداخل والخارج حتى يكون هناك ارتقاء أكبر في المستوى. وأشدد على دور المتخرجات قبل الخريجين، وقد يكون هناك انحياز كوني أبا لبنت واحدة، لكن أؤكد أهمية تعليم المرأة وإدراكها في مجالات العلوم المتقدمة جنباً إلى جنب مع الرجل.

التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي 

الأمر الآخر مع التنويع الاقتصادي، هو التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي، فمن شأن هذه الثورة ذات المجالات الكبرى الانطلاق بالاقتصاد نوعاً وكماً. الأمر الثالث هو الاهتمام بتوطين التنمية، فمصر بلد كبير بمحافظاته، أصغر محافظة في مصر عدداً ومساحة، تعادل دولة صغيرة أو متوسطة الحجم، ولكل محافظة إمكانات كبرى يجب أن تستخدم وأن تُستحث في إطار المنافسة لتتمكن من جذب الاستثمارات والسعي للإنتاج والتصدير. هناك مبادرة مهمة تحت رعاية رئيس الجمهورية لمشروعات خضراء ذكية، كل عام تتم بأفكار جذابة وملهمة، وأنا سعيد بأن عددا كبيرا جداً من هذه الأفكار هو الآن على خريطة الاستثمار والتطور. الأمر الرابع هو الاهتمام بالبيانات والمعلومات، التي هي وقود الثورة الصناعية الجديدة.

رويترز
رئيس الوزراء المصري مصطفى مبدولي، يصافح كريستالينا غورغيفا، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي في زيارتها الأخيرة إلى القاهرة في 30 نوفمبر 2024

الأمر الأخير، وهو يجب أن يكون الأول: أن تكون هناك أولوية مطلقة للاهتمام بالبشر، وأتصور أن هذا هو مكون الثروة الأكبر لدى بلد مثل مصر، وقد تعاملنا مع هذه الثروة بممكناتها بقدر من نقص الرشد، بعدم إعطاء الأولوية الواجبة للتعليم والرعاية الصحية، وأرجو أن يكون هناك توجه أكبر للاستثمار في البشر. التركيبة السكانية في مصر بشبابها تعتبر مثالية، والسوق الكبيرة محل جذب لأكبر الشركات حول العالم، والأَوْلى هي الشركات المحلية والعربية. مجالات الإبداع لا تتم إلا من خلال البشر. نظرنا الى البشر باعتبارهم عبئا على الإسكان وعلى الموارد واعتبرناهم سكاناً. نقول معدل النمو السكاني، ويجب أن نقول معدل نمو البشر بطاقاته وإبداعاته وأفكاره قبل أن يكونوا عبئاً.

العملة لا تُطلب لذاتها ولكن تُطلب لوظائفها

 أنهي هذا اللقاء بالاقتصاد الرقمي، وهو التوجه السائد حاليا على المستوى العالمي، خصوصا في الولايات المتحدة الأميركية، حيث تتبنى بعض المؤسسات المالية الكبرى، مثل "مورغان ستانلي" موضوع العملات الرقمية أو المشفرة في التداول، بل هناك توجه إلى إنشاء مصارف حصرية للعملات الرقمية. ما هي رؤيتك الاستشرافية لهذا القطاع غير التقليدي في الاقتصاد العالمي؟

الصين والبنك المركزي الأوروبي أعلنا بالفعل برامج طموحة في هذا الشأن. هناك عملة مستقرة من جهة الولايات المتحدة مرتبطة بالدولار، قد تكون هي المنافس للعملتين المشفّرتين الأوروبية والصينية. هناك عدد من البرامج أيضا يتبعها عدد من الدول العربية الخليجية. قد يختلف شكل العملة في التعامل واستخدام تكنولوجيا العصر، ولكن أين مكون العملة وسندها؟ شكل العملة للتيسير مهم، ولكن في النهاية قيمة العملة المستمدة مما تقتنيه من سلع وخدمات هي الأهم. طبعاً هناك حديث عن الدولار وتراجعه، ولكن على الرغم من كل ما يحدث في الاقتصاد الأميركي من تغيرات ومربكات وانفلات في التضخم، وتوقعات سلبية للنمو، لا يزال هو الاقتصاد الأكبر في العالم، وأداؤه نسبيا أفضل من أداء الاقتصادات المنافسة. المسألة هنا هي مسألة وجود البديل وليس التشبث بما هو قائم.

وذكر المؤسس لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية الدكتور محمد زكي شافعي أن العملة لا تُطلب لذاتها ولكن تُطلب لوظائفها، ووظائفها هي طريقة الحساب لتسوية المدفوعات، ولأنها تحفظ القيمة عبر الوقت. إذا ما اخلت العملة القيام بوظائفها فسوف تتمرد على هذه العملة وتنتقل إلى سواها.

font change

مقالات ذات صلة