عن تحديات ملء الفراغ في المشرق العربي

لا بد من التفكير بدور عربي أوسع وأكبر

أ.ف.ب
أ.ف.ب
تصاعد الدخان إثر غارات إسرائيلية قرب مدينة السويداء ذات الأغلبية الدرزية عقب اشتباكات بين قبائل بدوية ومقاتلين دروز، في 15 يوليو

عن تحديات ملء الفراغ في المشرق العربي

تعيش منطقة المشرق العربي، تحديدا سوريا ولبنان، على وقع فوضى الأحداث والتصريحات والمواقف. وأما الأردن ففي موقف ترقب حذر بين أوضاع الجنوب السوري وأوضاع الضفة الغربية، بينما العراق يعيد قراءة خرائط النفوذ بعد المواجهة الإيرانية الأميركية، في وقت لا تزال غزة تخضع لمنطق العنف الإسرائيلي في حرب من دون أفق حتى من المنظور الإسرائيلي.

والواقع أنه لا يكاد يمر يوم واحد من دون صور الدم والتهجير والجوع، وبعدما كانت غزة طيلة الأشهر الماضية وما زالت المسرح الرئيس لهذه المشاهد المفزعة، فإن مشاهد العنف الطائفي في سوريا يبدو أنها تمتلك قدرة تنافسية معتبرة عندما يتعلق الأمر بثارات وأحقاد قديمة وتعصب ديني ليس سوى نتاج عقود من التجهيل والعنف وإلغاء السياسة.

والمرعب والخطير ليس العنف وحده بل الاحتفال به وكأنه إنجاز، وهو سلوك يترسخ أكثر فأكثر ولا يحتكره غلاة اليمين الصهيوني المتطرف، بل أيضا يجد نماذج عدة على مستوى المنطقة وفي محطات متفرقة آخرها ما يجري في سوريا حيث يبدو أن المجازر ترتكب لكي يتم تصويرها وتوثيقها كعمل بطولي ومدعاة فخر واعتزاز.

وبات لا يكفي القول إن ما نشهده في سوريا هو نتيجة لنصف قرن من العنف شهد آخر 15 سنة أدمى الحروب الأهلية في المنطقة مع نحو نصف مليون قتيل وملايين النازحين والمشردين فضلا عن الآلاف المؤلفة للمختفين والمعتقلين في أسوأ سجون العالم على الإطلاق. هذا كله مفهوم ولا يمكن إغفاله عند معاينة المشهد السوري وتحليله وفهمه، لكن التوقف عند هذا الفهم بات عقبة كأداء أمام فهم ما يحصل في سوريا وما يمكن أن يحصل مستقبلا إذا لم تتم محاصرة هذا الوعي العنفي الذي يبدو يوما بعد يوم أنه متأصل وليس وليد سلوك عابر أو ردود أفعال فردية.

ففي حالة كهذه يختلط الفردي بالجماعي فلا يعود التمييز بينهما مفيدا أو ممكنا، إذ إن الاعتبار الرئيس من كل ذلك هو أن ثمة مجتمعا يتأسس على العنف وليس على أي قيم إيجابية أخرى. وهذه انتكاسة خطيرة للتغيير في سوريا والذي ذهب بنظام تأسس على العنف وترهيب المجتمع، فهل يكون التغيير قد اقتصر على انتقال أدوات العنف من طرف إلى آخر؟

 الجواب على هذا الوضع المعقد ليس بسيطا ولا يمكن الاعتقاد أن ثمة حلولا جاهزة وغب الطلب، ولكن في المقابل فإن العودة إلى الوراء من خلال إنتاج الوضع السابق كارثية أيضا

ما يفاقم من خطورة المشهد السوري أن المنطقة بأسرها، وخصوصا الأردن ولبنان والعراق لن تكون بمنأى عما يجري في سوريا، ليس بالنظر إلى تاريخ العنف الطائفي في دول مثل لبنان والعراق وبالتالي قد يعيد العنف السوري الراهن تحفيز نزاعات طائفية كامنة في هاتين الدولتين، مع احتمال أن يعبر الاقتتال الأهلي الحدود في الاتجاهين، بل أيضا لأن بقاء نظام الأسد والذي انتهى في سنواته الأخيرة إلى مشروع حرب أهلية يتغذى على شبكات الميليشيات والمهربين، كان يعني بقاء المشرق العربي كله بلا أي أفق للتنمية الاقتصادية بالنظر إلى مركزية سوريا في خريطته الاقتصادية بما تتمتع به من موارد وحوافز اقتصادية. فالأردن الذي أمضى العقود الأخيرة يستوعب ارتدادات حروب المنطقة منذ الغزو الأميركي للعراق، في ظل أزمة اقتصادية متفاقمة، كان قد بدأ ينظر إلى التغيير في سوريا كنافذة اقتصادية واعدة، أما لبنان الذي يدعوه المبعوث الأميركي توم برّاك للحاق بالركب السوري المجهول، فيقف حائرا لا يعرف أي اتجاه يتجه، وهو الذي لم يتلق، على نطاق "الدولة العميقة"، التغيير السوري بإيجابية بفعل الحضور السياسي الوازن لـ"حزب الله" وحلفائه والذين كانوا يسيطرون لعقود على المشهد السياسي والإعلامي في لبنان كامتداد لـ"الحالة الأسدية" أو كإحدى منتجاتها.

بالتالي فإن الموروث السياسي الذي تركه نظام الأسد لا يزال راسخا إلى حد بعيد في لبنان، بل يعاد إنتاجه اليوم على وقع أحداث العنف الطائفي في سوريا، ما يزيد من احتمالات أن تتحول العملية السياسية برمتها إلى غطاء للسلوك الطائفي الميليشياوي بحجة حماية لبنان من تمدد العنف السوري بعدما شارك "حزب الله" في العنف الحرب السورية لنحو عقد من الزمن.

أ.ف.ب.
الرئيس اللبناني جوزيف عون يستقبل المبعوث الأميركي توم براك في قصر بعبدا، بيروت، في 19 يونيو 2025

إلى ذلك يتبدى الضغط الأميركي على الحكومة اللبنانية لوضع جدول زمني لتسليم "حزب الله" سلاحه الرادع الوحيد أمام تمكين هذا "الانحراف"، أي إنه لولا هذه الضغوط الأميركية المترافقة مع ضغط عسكري إسرائيلي لكان يمكن توقع أن تنحاز "الدولة العميقة" بالكامل إلى سردية "حزب الله" في ما يخص الأحداث في سوريا والتهويل من خطر داهم على لبنان انطلاقا من الحدود الشمالية والشرقية. وهو ما يؤشر إلى رسوخ "الثقافة السياسية" التي يحاول "الحزب" تكريسها وتغذيتها في العقل الجمعي اللبناني، مستفيدا من موروثات سياسية و"ثقافية" راسخة لدى المكونات الطائفية اللبنانية والتي تمحورت طيلة عقود حول نظرية "حلف الأقليات" التي كان نظام الأسد عرابها الرئيس، والتي بدا بوضوح خلال الشهور الماضية أن إسرائيل مستعدة للانخراط فيها ودعمها وهو ما عبّرت عنه أصوات إسرائيلية عدة في أعقاب سقوط نظام الأسد الذي "باغت" تل أبيب.

هذا لا يعني أن المشاهد الواردة من سوريا لا تبعث على القلق، على سوريا أولا، ومن ثم على محيطها الإقليمي كل بحسب خصائصه وأزماته وتطلعاته، لكن هذا لا يعني في المقابل أن لا بديل عن إعادة إنتاج "الحالة السابقة" بحيث يعاد إنتاج مشهد التعبئة الطائفية والمذهبية نفسها بما يغذي مسار العنف الطائفي الآخذ في التجذر عوض التفتيش عن مخارج من المأزق الراهن والذي يطال دول المشرق العربي جميعا.

والحال أن الجواب على هذا الوضع المعقد ليس بسيطا ولا يمكن الاعتقاد أن ثمة حلولا جاهزة وغب الطلب، ولكن في المقابل فإن العودة إلى الوراء من خلال إنتاج الوضع السابق كارثية أيضا. فابتداء يجب الإقرار بأن الفراغ الذي خلفه سقوط الهيمنة الإيرانية في كل من سوريا ولبنان لم يملأ بعد بالشكل الصحيح. فمسارعة إسرائيل إلى انتهاج سياسة عدوانية تجاه سوريا الجديدة من خلال الاحتلالات والتوغلات وتقديم نفسها حامية للأقليات السورية، ليس سوى وصفة للفوضى ولإحباط أي فرصة سورية حقيقية للخروج من المأزق الراهن إلا إذا كانت تخضع للشروط الإسرائيلية التعجيزية.

الأهم الآن كيف يمكن ملء هذا الفراغ بعدما بدا أن ملأه إسرائيليا هو استبدال مشكلة بمشكلة، كما أن ملأه أميركياً وحسب دونه محاذير عدة

بالتالي فإن الانخراط الأميركي في سوريا والذي تعبر عنه مواقف الرئيس دونالد ترمب ومبعوثه توم برّاك لا يمكن النظر إليه في حال انحاز إلى شروط تل أبيب إلا بوصفه ضغطا إضافيا على الحكومة السورية وليس نافذة حلول اقتصادية وسياسية وأمنية لها. فالمقاربة الاقتصادية الأميركية للمنطقة، على أهميتها، أو على أهمية أخذها في الاعتبار، فهي تبدو بدءا من غزة ووصولا إلى دمشق كأنها جدول أعمال مفروض من فوق لا يأخذ في الاعتبار حقائق المشكلات الأمنية والسياسية على أرض الواقع، وبالتالي فهي يمكن أن تتحول في أي لحظة إلى تعقيد إضافي للأزمة لا إلى فرصة حقيقية لحلها، خصوصا عندما تكون في إسرائيل حكومة يمينية متطرفة لا تؤمن بالحلول السياسية إلا إذا كانت تكرس هيمنتها في المنطقة.

أ ف ب
عنصر من قوات الأمن السورية قرب مدخل مدينة السويداء صباح الثلثاء 15يوليو 2025

كل ما سبق يفترض التفكير بطريق ثالث للبحث عن حلول لأزمات المشرق العربي أو بأقل تقدير الحد من تفاقمها بما يمنع أي أفق لحلول مستقبلية لها. وغني عن القول أنه لا يمكن البقاء عند لحظة سقوط الهيمنة الإيرانية عن دول المشرق وتحديدا سوريا كما لو أنه آخر المطاف، بل إن الأهم الآن كيف يمكن ملء هذا الفراغ بعدما بدا أن ملأه إسرائيليا هو استبدال مشكلة بمشكلة، كما أن ملأه أميركياً وحسب دونه محاذير خصوصا أن إدارة ترمب تبدو مستعدة للتعامل مع جميع السيناريوهات سواء الاستقرار أو "الفوضى المنظمة" التي لا تخرج عن حدودها بما يعرض المكتسبات الإسرائيلية للخطر، وهذا بطبيعة الحال غير كاف ولا تعوضه الدعوة الأميركية لاستكمال "الاتفاقات الإبراهيمية". وبالتالي لا بد من التفكير بدور عربي أوسع وأكبر في دول المشرق، ولاسيما في سوريا التي تقف الآن على مفترق خطر، والتي يشكل سقوطها أو نجاتها، معيارا رئيسا لمستقبل سائر دول المشرق. فربما هي اللحظة الأنسب لدور عربي أوسع وأكبر في المشرق العربي وبالأخص في سوريا، هل هذا ممكن؟ ربما، لكن الأكيد أنه ضروري، والأكيد أيضا أن مجرد التفكير في احتمال سقوط سوريا مجددا مرعب!

font change

مقالات ذات صلة