المشرق العربي بين الجغرافيا الجديدة والسياسة القديمة

وضع جديد ومختلف لا ينحصر في مناطق الحدود مع إسرائيل بل يشمل أيضا دواخل الدول

شترستوك
شترستوك
صورة جوية لمدينة بيروت

المشرق العربي بين الجغرافيا الجديدة والسياسة القديمة

لعل التصريح الأكثر أهمية في ما يخص الأوضاع في المنطقة خلال الأسبوع الماضي كان تصريح المبعوث الأميركي توم باراك الذي قال إن الحدود التي رسمتها اتفاقية "سايكس-بيكو" للمشرق العربي في عام 1916 لا تعني شيئا لإسرائيل. هذا لا يعني القفز فورا إلى استنتاج أن إسرائيل في طور تحقيق رؤية "إسرائيل الكبرى" التي أصبحت مادة دعائية سياسية لبعض الأطراف في المنطقة أكثر منها مشروعا إسرائيليا قابلا للتحقيق أقله في المدى القريب والمتوسط، وبطبيعة الحال أي تحليل يقوم على استشراف وضع جيوسياسي بعد مئة أو مئتي عام هو تحليل أقل ما يقال فيه إنه غير دقيق وغير حاسم. لكن في الوقت نفسه لا يمكن التقليل من خطورة المشروع الإسرائيلي التوسعي الراهن بدءا من الأراضي الفلسطينية وتحديدا في الضفة الغربية التي يسلك مسار ضمها مسالك جديدة أكثر خطورة مع اجتماع الحكومة الإسرائيلية الثلاثاء لبحث فرض السيادة الإسرائيلية عليها، في سباق مع الزمن مع تزايد عدد الدول الغربية المستعدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية. وأما في قطاع غزة فإن الخطة الإسرائيلية لاحتلال مدينة غزة لا يمكن فصلها عن هذا المشروع التوسعي الإسرائيلي وعما سرب عن خطة أميركية لإدارة القطاع لمدة عشر سنوات بعد تهجير سكانه وتحويله إلى مشروع استثماري ضخم بما يحاكي رؤية دونالد ترمب لـ"ريفييرا الشرق الأوسط". وفي سوريا لا يختلف الوضع كثيرا حيث تواصل إسرائيل توغلاتها بالرغم من المحادثات السورية الإسرائيلية برعاية أميركية، في تحد مباشر للسلطات السورية الجديدة، وكذلك الأمر لتركيا التي يتفاقم التوتر بينها وبين إسرائيل على خلفية خريطة النفوذ الإقليمي في سوريا بالدرجة الأولى. أما في لبنان حيث تحتل إسرائيل خمس نقاط حدودية فهي غير مستعدة للانسحاب منها في الوقت الراهن بينما تربط الشروع بهذا الانسحاب بتسليم "حزب الله" للجيش اللبناني، وهذه نقطة تزداد تعقيدا وابتعادا مع فشل التسوية الداخلية اللبنانية حول هذا الملف، ومع فشل الوساطة الأميركية في تثبيت مبدأ "الخطوة مقابل خطوة" في مسار التفاوض غير المباشر بين لبنان وإسرائيل حول تثبيت وقف إطلاق النار المبرم في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. إذ كان باراك قد وعد بالضغط على إسرائيل لتنفيذ خطوة تجاه لبنان بعد أن أقرت الحكومة اللبنانية في السابع من أغسطس/آب الماضي أهداف الورقة الأميركية المتصلة بتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار والذي ينص على تسليم "حزب الله" سلاحه إلى القوات المسلحة اللبنانية خلال مهلة زمنية تم تحديدها بحلول نهاية العام الجاري.

لا بد من الأخذ في الاعتبار أن الخلفيات التاريخية للأحداث يمكن أن يكون لها تأثيرات راهنة، خصوصا عندما تتضارب مصالح اللاعبين الرئيسين

ولكن لا يبدو أنه سيتم الالتزام بهذه المهلة وهو ما يفتح هذا الملف على غموض إضافي وعلى أخطار حرب إسرائيلية جديدة ضدّ "حزب الله" ولبنان. لكن المبعوث الأميركي وبعدما عاد من إسرائيل الأسبوع الماضي لم يحمل معه أي وعد إسرائيلي بتنفيذ خطوة مقابلة بل أكد أن إسرائيل مستعدة لبدء انسحابها من النقاط الخمس تدريجيا بحسب قدرة الجيش اللبناني على جمع سلاح "الحزب" من الجنوب وسائر لبنان. كذلك فإن الأردن ليس بعيدا عن تداعيات هذا المشروع التوسعي الإسرائيلي أولا بسبب مخاطر تهجير فلسطينيي الضفة إليه وثانيا بسبب التسريبات الأميركية عن أن إدارة ترمب تقترح على تل أبيب أن تستعيض عن ضم الضفة بضم غور الأردن "الخالي من السكان".

هذا كله يفترض النظر إلى المشرق العربي كما لو أنه جغرافيا واحدة مهددة بالمشروع التوسعي الإسرائيلي. وهذا يعني أولا أن إجهاض الدولة الفلسطينية هو قلب هذا المشروع لكنه لا يختصره كله على اعتبار أن الإطاحة بهذه الدولة يعني أن جغرافيا المشرق برمتها معرضة للتبديل و"الضم والفرز" وفق المصالح الإسرائيلية وبغطاء أميركي. ومن هنا تأتي أهمية تصريح باراك الذي لم يستغرب أو يستنكر إسقاط إسرائيل لـ"سايكس–بيكو"، بما يعني أن واشنطن لا تضع خطوطا حمراء أمام إسرائيل لناحية  عدم المس بالحدود المرسومة وفق هذه الاتفاقية، وبما يعني أيضا أن التوسعات الإسرائيلية ليست إجراءات عابرة وآنية بل هي توطئة لوضع جغرافي مختلف على مستوى المنطقة، لا يمكن التنبؤ بحدوده الجديدة التي يمكن أن تكون خاضعة للتفاوض الإقليمي–الدولي النهائي حول الوضع الجديد في المنطقة، لكن عمليا فإن باراك أعلن أن الوضع السابق قد سقط أقله بالنسبة لإسرائيل، بينما لا تظهر حتى الآن قوى محلية أو إقليمية أو دولية قادرة على الدفاع عن الوضع القديم.

رويترز
الموفد الرئاسي الأميركي الى لبنان توماس باراك، بيروت، 22 يوليو/تموز 2025

وهنا لسنا أمام قضية إقليمية وحسب بل قضية دولية، إذا ما أخذنا في الاعتبار قواعد الاشتباك بين الحلفاء وليس بين الخصوم وحسب. وعلى هذا الأساس فإن الاشتباك الأوروبي الأميركي القائم حاليا حول الملف الأوكراني والقضايا التجارية (إلخ) مرشح للانسحاب إلى المنطقة، وهو قد بدأ فعلا من خلال الخلاف على مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية الذي يأتي في خضم هذا الاشتباك عبر الأطلسي. ولا يمكن إغفال الخلفية التاريخية لهذه المسألة على اعتبار أن الأميركيين ورثوا قواعد الاستعمار الغربي في المنطقة، وتحديدا الفرنسي والبريطاني، ولم يكونوا هم من رسم حدودها الحاضرة، وبالتالي فإن هذه الحدود ليست جزءا من إرثهم الاستعماري الذي لا يمكن الانقلاب عليه متى كان ذلك يحقق المصالح الأميركية. هذا مع الأخذ في الاعتبار أنه لا ثوابت من هذا النوع في السياسات الأميركية، والغربية عموما، ولكن لا بد من الأخذ في الاعتبار أن الخلفيات التاريخية للأحداث يمكن أن يكون لها تأثيرات راهنة، خصوصا عندما تتضارب مصالح اللاعبين الرئيسين، كما يحصل الآن بين أميركا وأوروبا. لكن الأهم من كل ذلك أن موقف باراك وإن كان لا يعكس بالضرورة مجمل الموقف الأميركي، فإنه يدل على أنه ليس هناك استراتيجية أميركية ثابتة تجاه المنطقة، بل هي استراتيجية متحركة بحسب الظروف والفرص، وهذا يفسر الضوء الأخضر الأميركي لإسرائيل، ولكنه أيضا يفسر الضوء الأحمر الأميركي لها في لحظات معينة عندما تشعر واشنطن أن سياسات تل أبيب قد تهدد مصالحها الكلية في المنطقة. وهذه أيضا من أنواع قواعد الاشتباك بين الحلفاء ولكنها بين أميركا وإسرائيل قواعد من نوع خاص وفريد حول العالم، ولذلك يبدو أحيانا وكأن تل أبيب تنفذ سياسات أميركية في المنطقة، أو أن تعيين الفروقات في سياسات كلا البلدين تجاه المنطقة صعب بل صعب جدا، خصوصا في ظل عهد دونالد ترمب.

حتى الآن لا تزال الغلبة للغة القديمة والنزاعات القديمة، والسلاح المتقادم والذي لم تعد وظيفته سوى إبقاء هذه اللغة وهذه النزاعات حية ومستمرة

ولذلك نحن في المشرق أمام وضع جديد ومختلف يشمل دوله كلها، وهو وضع لا ينحصر في مناطق الحدود مع إسرائيل، سواء في جنوب سوريا أو جنوب لبنان أو غرب الأردن فضلا على الأراضي الفلسطينية، بل إن تداعياته ستشمل أيضا دواخل هذه الدول على اعتبار أن المتغيرات على الحدود مع إسرائيل تعكس موازين القوى الجديدة في المنطقة التي أنتجتها الحروب بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. وبالتالي فإن إسرائيل تصر على أن ما قبل هذا التاريخ لا يجب أن يكون كما ما بعده، أي إنها تسعى بغطاء وبدفع أميركي لإلغاء كل دوافع وعوامل إنتاج الوضع السابق. إلا أن الأمر لا يقتصر على النواحي السياسية والأمنية وحسب بل إنه يشمل وضعا اقتصاديا مختلفا في دول منهارة اقتصاديا. وإذا أخذنا جنوب لبنان مثلا، فإن منطقة ترمب الاقتصادية هناك تنقل، نظريا حتى الآن، المركز الاقتصادي والمالي للبلاد من العاصمة بيروت المنسية والمهملة إلى المنطقة الحدودية في الجنوب، وهذا ليس أقل من إعادة رسم للجغرافيا الاقتصادية والسياسية للمنطقة ما يجعل الحدود السابقة بحكم الساقطة حكما، وما يجعل بالتالي الوضع السياسي الاقتصادي القديم بحكم الساقط. هذا من دون التطرق إلى "اليوم التالي" في قطاع غزة الذي ينطوي على تحديات مختلفة ولكنه يمثل عصب الوضع الجديد الموعود في المنطقة من حيث إن القطاع سيتحول إلى أكبر مستعمرة أميركية، وربما ستدير واشنطن منها كل ملفات المنطقة، في حين أن لبنانيين كثيرين يبنون تصورهم لـ"اليوم التالي" في لبنان على قاعدة أن بلدهم سيكون مركز الحضور الأميركي في المنطقة بالنظر إلى بناء أكبر سفارة أميركية إقليمية فيه.

AFP
سوريون يسيرون نحو معبر المصنع الحدودي شرق بيروت في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، أثناء عودتهم إلى سوريا عقب سقوط العاصمة بيد مقاتلي المعارضة

  أمام ذلك كله ثمة سؤال أساسي عن قدرة الإرادة الداخلية في دول المشرق المفككة والمنهارة- باستثناء الأردن الذي يحافظ على وضع مستقر ولكن وسط مصاعب اقتصادية وتحديات سياسية ضخمة-  قدرتها على التأثير في المتغيرات الحاصلة وفي "إعادة البناء" الموعودة والتي تمثل حقبة جديدة من الاستعمار الغربي للمنطقة بهوية أميركية صافية هذه المرة مع تصفية آخر مناطق النفوذ الغربية الأوروبية في المشرق وتحديدا في لبنان، ومع بقاء روسيا والصين بعيدتين نسبيا عن المشرق. هذه الإرادة التي طحنتها الحروب والتدخلات والأزمات وأنظمة الحكم والتي حكم بعضها بذريعة مقارعة الاستعمار ومقارعة المشروع الصهيوني فإذا بها تفترس مجتمعاتها وتقتل السياسة، وهذا لا يشمل سوريا وحسب بل لبنان أيضا الذي كان طيلة العقود الماضية محكوما بأدبيات نظام الأسدين في سوريا والمشروع التوسعي الإيراني وهو ما رده، إضافة إلى أسباب أخرى، صحراء سياسية وقتل فيه أي حيوية سياسية جدية قادرة على إنتاج خطاب بديل وعلى مواكبة المتغيرات بلغة جديدة تأخذ في الاعتبار موازين القوى ولكنها قادرة على إعادة تعريف المصالح الوطنية وفق المتغيرات الحاصلة... حتى الآن لا تزال الغلبة للغة القديمة والنزاعات القديمة، والسلاح المتقادم والذي لم تعد وظيفته سوى إبقاء هذه اللغة وهذه النزاعات حية ومستمرة.

font change

مقالات ذات صلة