القاهرة في اختبار الوساطة… بعد تراجع دور الدوحة؟

الضربات الجوية في الدوحة تُلقي بظلال كثيفة من الشك على نوايا تل أبيب

أ.ف.ب
أ.ف.ب
معدات بناء ثقيلة تحمل أعلام مصر وقطر مصطفة على الجانب المصري من معبر رفح الحدودي مع قطاع غزة في 20 فبراير 2025

القاهرة في اختبار الوساطة… بعد تراجع دور الدوحة؟

من المرجح أن تزيد الضربات الجوية الإسرائيلية في قطر بتاريخ 9 سبتمبر/أيلول من تعقيد رحلة المحادثات غير المباشرة الجارية بشأن وقف إطلاق النار في غزة وإطلاق سراح الرهائن بين "حماس" وإسرائيل.

وقد ألقت هذه الضربات بظلال من الشك على مستقبل المفاوضات، باستهدافها بشكل مباشر وسيطا رئيسا يتمتع بنفوذ كبير على "حماس". وبينما شكّل الهجوم، الذي أصاب عددا من قادة "حماس" خلال اجتماع في الدوحة، ضربة قوية لجهود الوساطة القطرية، كشف في الوقت ذاته عن عزم إسرائيل في تقويض القيادة السياسية لـ"حماس".

ومع ذلك، وفي هذا التوقيت الحرج، قد تؤدي الضربات إلى نتائج عكسية عبر تعزيز موقف "حماس"، ما قد يدفع الجماعة إلى فرض شروط أو مطالب إضافية، الأمر الذي يزيد من تعقيد عملية تفاوض تعاني أصلا من تحديات جمّة.

لقد أكّد رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن، في أعقاب الهجوم، استمرار بلاده في لعب دور الوسيط، مشددا على عزم قطر ترسيخ مكانتها كقوة استقرار في المنطقة. ولكن ذلك لا ينفي أن تظل الأسئلة مطروحة حول ما إذا كانت الدوحة قادرة أو راغبة في الحفاظ على دورها في محادثات وقف إطلاق النار وإطلاق الرهائن خلال المرحلة المقبلة.

وفي حال انسحاب قطر، ستتوجه الأنظار إلى مصر، الوسيط الرئيس الآخر، لمعرفة ما إذا كانت القاهرة مستعدة– وحيدة– لتحمّل عبء المفاوضات بالكامل.

عدو عدوي

كقوة إقليمية راسخة منذ زمن بعيد، أدّت مصر دورا محوريا تقليديا في الوساطة لإبرام هدنات خلال الحملات الإسرائيلية السابقة على غزة. ومنذ اندلاع الحرب الحالية في أكتوبر/تشرين الأول 2023، شاركت القاهرة في جهود الوساطة لإجراء محادثات وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن بالتعاون مع قطر والولايات المتحدة.

من منظور القاهرة، تُعدّ "حماس" قوة تفريق لا قوة وئام في السياسة الفلسطينية، وتراها عقبة أمام تحقيق الوحدة الوطنية وإقامة دولة فلسطينية تضم غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية

وقدّمت مصر عدة مقترحات لوقف إطلاق النار، دعت من خلالها إلى إبقاء سكان غزة في أماكنهم، كما طرحت خطة لإعادة إعمار القطاع، وسعت إلى حشد الدعم الدولي لمواجهة مقترحات احتلال غزة أو تهجير سكانها قسرا.

ويستند نفوذ القاهرة في ملف غزة إلى عاملين رئيسين: القرب الجغرافي والعلاقة العدائية مع "حماس". فبوجود حدود مشتركة تمتد لتسعة أميال، مثّلت مصر على مدى سنوات طويلة نافذة غزة الوحيدة على العالم الخارجي، خاصة منذ أن فرضت إسرائيل حصارا شاملا عقب استيلاء "حماس" العنيف على القطاع في عام 2007. ولا تزال مصر اليوم نقطة الدخول الرئيسة للمساعدات الإنسانية، بينما تستمر إسرائيل في تقييد دخول الغذاء والإمدادات الأساسية، في سياسة يصفها النقاد بأنها تسليح للمساعدات، وهي سياسة دفعت غزة إلى حافة المجاعة.

رويترز
مبنى متضرر في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على قادة حماس، في الدوحة، قطر، 9 سبتمبر 2025

ومع ذلك، لم تكن مصر على وفاق مع "حماس"، لا سيما خلال العقد الماضي، منذ أن شرعت في قمع جماعة "الإخوان المسلمين"، الحركة الإسلامية المحلية التي يعود تاريخها إلى نحو قرن من الزمان، والتي تُعدّ "حماس" امتدادا أيديولوجياً لها.

ومن منظور القاهرة، تُعدّ "حماس" قوة تفريق لا قوة وئام في السياسة الفلسطينية، وتراها عقبة أمام تحقيق الوحدة الوطنية وإقامة دولة فلسطينية تضم غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية. ولهذا السبب، عندما قدّمت مصر خطة لما بعد الحرب في غزة استبعدت "حماس" بالكامل، وتهدف إلى تمهيد الطريق لعودة السلطة الفلسطينية إلى الحكم.

ويضع هذا العداء تجاه "حماس" مصر في موقف متقارب مع إسرائيل في ما يتعلق بهذا الملف، حتى وإن اختلفت درجة الخصومة بين الجانبين. ويُفسّر هذا التقارب سبب اعتبار تل أبيب القاهرة وسيطا موثوقا، على الرغم من استمرار الخلافات بينهما حول مستقبل غزة.

تعتمد قدرة مصر على التوسط لإنهاء حرب غزة على ما إذا كانت إسرائيل تسعى بالفعل إلى تسوية عبر التفاوض. إلا أن الضربات الجوية الأخيرة في قطر تُلقي بظلال كثيفة من الشك على نوايا تل أبيب

الاستسلام؟

منذ ما قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أظهرت "حماس" صمودا لافتا، حتى بعد فقدانها عددا من أبرز قاداتها. ومن المرجح أن يعزز بقاء قادتها على قيد الحياة عقب الضربات الجوية الإسرائيلية الأخيرة في الدوحة من عزيمتها في المرحلة المقبلة.

وعلى المستوى العملي، قد تؤدي هذه الضربات إلى تصلّب موقف "حماس" التفاوضي، ما يشجع الجماعة على طرح مطالب جديدة، قد تشمل ضمانات أمنية شخصية لقادتها. وقد تُصر "حماس" أيضا على شروطها الأساسية، بما في ذلك إنهاء الحرب بشكل كامل، وانسحاب القوات الإسرائيلية كليا من القطاع، والحفاظ على ترسانتها، وضمان دور لها في إدارة غزة بعد الحرب، مقابل إطلاق سراح ما تبقى من رهائن.

أ.ف.ب
رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى (يسار)، برفقة وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي (وسط)، يصلان إلى مطار العريش لزيارة الجرحى الفلسطينيين في 18 أغسطس 2025

من جانب آخر، إذا أسفرت الضربات الجوية عن تهميش دور قطر في الوساطة، فستكون "حماس" هي الخاسر الأكبر. لقد لعبت قطر على الدوام دورا مهماً في المفاوضات بين إسرائيل و"حماس". ومنذ عام 2012، استضافت الدوحة القيادة السياسية للجماعة، ولعبت دورا حاسما كوسيط مع كل من إسرائيل والولايات المتحدة، فضلا عن تقديمها دعما ماليا ثابتا لغزة بموافقة إسرائيل قبل الحرب. وسيُمثل انسحاب قطر من العملية ضربة قوية قد تُضعف موقف "حماس" بشكل كبير.

في المقابل، سيدفع هذا السيناريو الجماعة إلى التفاعل بجدية أكبر مع مصر، وهي نتيجة قد تُعزز من نفوذ القاهرة إذا ما تولّت مسؤولية الوساطة بشكل كامل.

في مهب الريح

تعتمد قدرة مصر على التوسط لإنهاء حرب غزة على ما إذا كانت إسرائيل تسعى بالفعل إلى تسوية عبر التفاوض. إلا أن الضربات الجوية الأخيرة في قطر تُلقي بظلال كثيفة من الشك على نوايا تل أبيب، خاصة أنها تتماشى مع نمط مألوف: عمليات تخريبية تظهر كلما اقتربت محادثات وقف إطلاق النار من تحقيق اختراق محتمل.

وقد جاءت هذه الضربات عقب موافقة "حماس" على مقترح نهائي قدمه الرئيس الأميركي دونالد ترمب لإنهاء الحرب مقابل إطلاق سراح جميع الرهائن، بمن فيهم رفات القتلى. ويُهدد هذا التوقيت بتقويض الثقة في عملية الوساطة بالكامل، ما يصعّب على أي طرف تيسير محادثات بنّاءة.

سيتعيّن على مصر أن تكون مستعدة لتحديات جسام، من بينها تصلّب محتمل في موقف "حماس"، وتفضيل إسرائيلي واضح للتصعيد العسكري على التسوية السياسية

وبالنسبة لمصر، فإن استمرار التصعيد الإسرائيلي سيُفاقم الضغط على دورها الوسيط، خاصة في ظل قلق القاهرة العميق بشأن الاستقرار الإقليمي وتدهور الأوضاع الإنسانية في غزة. ولمواجهة هذا الوضع، قد تضطر مصر إلى الدفع باتجاه تدخل أميركي أوسع للضغط على إسرائيل من أجل التفاوض بنية صادقة. وتشير الانتقادات الأميركية النادرة لإسرائيل عقب ضربات الدوحة إلى وجود توتر محتمل في العلاقات بين واشنطن وتل أبيب، وهو ما قد تستثمره القاهرة في تعزيز موقعها التفاوضي.

أ.ف.ب
نازحون فلسطينيون يخيمون قرب السياج الحدودي بين غزة ومصر، في رفح، جنوب قطاع غزة، في 16 فبراير 2024

ولكن على الرغم من ذلك كله، سيتعيّن على مصر أن تكون مستعدة لتحديات جسام، من بينها تصلّب محتمل في موقف "حماس"، وتفضيل إسرائيلي واضح للتصعيد العسكري على التسوية السياسية. وقد تبدو هذه المهمة شبه مستحيلة، بالنظر إلى الدوافع العميقة التي تحكم مواقف إسرائيل و"حماس" في الماضي والحاضر وربما المستقبل. فبقاء الطرفين السياسي مرهون بهذه الحرب: إذ تخشى القيادة الإسرائيلية أن يؤدي إنهاؤها من دون نصر حاسم إلى سقوطها، بينما ترى "حماس" أن أي تنازلات جوهرية ستقوّض شرعيتها وتهدد وجودها. ويبقى السؤال بلا جواب: هل تستطيع مصر وحدها دفعهما إلى اتفاق يقوم على تنازلات يعدّها كل منهما ضربا من الانتحار السياسي؟

font change

مقالات ذات صلة