الاعتداء على قطر… أميركا العالقة بين حليفين

دخلت واشنطن في مرحلة "احتواء الأضرار"

الاعتداء على قطر… أميركا العالقة بين حليفين

على مدى يومين حافلين بالأحداث والترقب كانا أشبه بالدراما المفتوحة، كانت علاقة قطر بالولايات المتحدة الأميركية تتعرض لاختبار شديد، على خلفية قيام طائرات إسرائيلية بقصف قيادات كبار زعماء حركة "حماس" في الدوحة، قبيل اجتماع لهم كان مفترضا أن يُجرى لاحقا مع وفد أميركي.

هول المفاجأة كان واضحا ومفهوما بإعلان قطري غاضب على لسان رئيس وزراء الإمارة الخليجية ووزير خارجيتها الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، يستنكر الفعل الإسرائيلي بوصفه "تهديدا خطيرا لأمن وسلامة المواطنين والمقيمين في قطر" ويشير إلى استعداد الأخيرة "لاتخاذ كافة الوسائل القانونية والدبلوماسية لمحاسبة المسؤولين عن هذا الهجوم". تصاعدت نبرة الغضب هذه ضد هذا الهجوم الإسرائيلي الذي أدى إلى مقتل خمسة فلسطينيين ورجل أمن قطري وصفه المسؤول القطري في تصريح ثان بأنه "إرهاب دولة... لقد تعرضنا للخيانة".

في هذه الأثناء دخلت الولايات المتحدة في مرحلة "احتواء الأضرار"، إذ وجدت نفسها فجأة عالقة بين حليفين مهمين لها في المنطقة اعتدى أحدهما على الآخر على نحو فاضح ولا يمكن تبريره، في الوقت الذي يساعدها هذا هذا الحليف لتحقيق اختراق سياسي ينهي حربا دموية يمكن أن تقدمه أميركا كانتصار دبلوماسي لها.

أ.ف.ب
ترمب أثناء زيارته الأخيرة لقطر في مايو/أيار 2025

كان جزءا من "احتواء الضرر" الإعلانُ الأميركي، على لسان الناطقة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، بأن أميركا علمت بالهجوم عبر مصادرها العسكرية ونقلت تحذيرا منه إلى القطريين الذين أكدوا تلقيهم هذا التحذير لكن على نحو متأخر فيما كانت القنابل الإسرائيلية تسقط في عاصمة بلادهم. من جانبها، ذكرت إسرائيل أنها أعلمت أميركا مقدما بنيتها شن الضربة، فيما يبدو تصرفا أحاديا من إسرائيل، لم تتشاور فيه مع الولايات المتحدة بل اكتفت بأخبار متأخرة، في تكرار لسلوكها عندما شنت الهجوم الجوي الذي قتلت فيه زعيم "حزب الله" اللبناني، السيد حسن نصرالله، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. أيضا، ليس ثمة تأكيد لحد الآن بخصوص وضع زعماء الحركة المستهدفين، خالد مشعل وخليل الحية وزاهر جبارين ومحمد درويش.

لحد الآن، ما يبدو مؤكدا لجهة الوقائع هو فشل العملية العسكرية في تحقيق هدفها. لكن بعيدا عن تفاصيل هذا الحدث المهم وخباياه التي سيظهر المزيد منها في الفترة المقبلة، الأكثر أهمية فيه من الوقائع هو الدوافع والنتائج.

إسرائيل بين نصف الفشل ونصف النجاح

ترتبط معظم الدوافع الإسرائيلية بشن ضربة الدوحة بالحاجات السياسية لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، التي يضعها الرجل في إطار استراتيجي أوسع يخفي الطابع الشخصي لهذه الحاجات. يريد نتنياهو حربا مفتوحة دون سقوف زمنية تُدار على أساس تحقيق أهداف طويلة الأمد، على نحو شبيه بما قامت به الولايات المتحدة على نطاق عالمي بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول في إطار "الحرب على الإرهاب" الذي فكك "الأعداء" ولم يلتزم بمواعيد زمنية، إذ كانت الأولوية الأميركية هي إنهاء المهمة بنجاح وليس توقيت هذه الإنهاء (لهذا يُكثر نتنياهو في خطابه من تشبيه مهمة إسرائيل بعد السابع من أكتوبر بمهمة أميركا بعد الحادي عشر من سبتمبر).

يعني هذا أنه لا جدوى من "اتفاق أكفاء" مع "حماس" ينهي الحرب، لأن مثل هذا الاتفاق يمنع حكومة نتنياهو من ادعاء تحقيق النصر عبر الهزيمة المعلنة لـ"حماس" بغض النظر عن أثمانها من الضحايا المدنيين الفلسطينيين. لكن نتنياهو كان يواجه ضغط حليفه وحليف إسرائيل الأقوى، الولايات المتحدة الأميركية التي تضغط بشدة للتوصل إلى مثل هذا الاتفاق، وفتحت لأجل ذلك مسارا تفاوضيا مباشرا مع "حماس" أغضب الإسرائيليين الذين يعتقدون أن مثل هذا المسار يكافئ "حماس"، المنظمة التي تصنفها أميركا إرهابية وينبغي أن لا تجلس معها وجها لوجه وتفاوضها.

يريد نتنياهو حربا مفتوحة دون سقوف زمنية تُدار على أساس تحقيق أهداف طويلة الأمد، على نحو شبيه بما قامت به الولايات المتحدة على نطاق عالمي بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول في إطار "الحرب على الإرهاب"

كان واضحا أن "حماس" جادة في التوصل إلى اتفاق مرض ٍلأميركا من المستوى العالي لوفدها الذي استهدفته الضربة الإسرائيلية وهو الاتفاق الذي سعت إسرائيل لإحباط إبرامه. ولذلك جاء توقيت الضربة حساسا وحاسما، قبل اجتماع هذا الوفد بنظيره الأميركي، أي على نحو شبيه بما قامت به إسرائيل بخصوص قصفها لإيران في يونيو/حزيران الماضي، قبل يومين من الاجتماع "الأخير" المرتقب بين الوفدين الأميركي والإيراني الذي كان يُتوقع واسعا أنه سيتمخض عنه اتفاق بخصوص حل الخلاف حول الملف النووي الايراني.

فالغرض من القصفين، قصف الدوحة وقصف طهران، هو منع التوصل إلى اتفاقيات سياسية تحل المشاكل، للإبقاء على الجبهات مشتعلة حتى يتحقق لإسرائيل هدفها بتحقيق انتصار عسكري يُظهر الطرف الآخر خاسرا ومهزوما ويقبل بالشروط الإسرائيلية، كما حصل في سيناريو إنهاء الحرب مع "حزب الله". 

باختصار شديد، لا تبحث إسرائيل نتنياهو بعد السابع من أكتوبر عن تسويات سياسية، وإنما تبحث عن انتصارات عسكرية. يتسق هذا مع الوعد الذي كرره نتنياهو بضع مرات بخصوص أن إسرائيل  ستغير الشرق الأوسط (أول إعلان له بهذا الصدد كان بعد يومين من هجوم السابع من أكتوبر عندما خاطب الإسرائيليين بالقول: "ما ستمر به (حماس) سيكون امرا مرعبا وشاقا... أطلب منكم أن تصمدوا إننا سنغير الشرق الأوسط". ثم أضاف في تصريحات أخرى تالية على مدى أشهر طويلة أن هذا التغيير يتضمن الانتصار في سبع جبهات مختلفة بينها غزة).

الغرض من القصفين، قصف الدوحة وقصف طهران، هو منع التوصل إلى اتفاقيات سياسية تحل المشاكل، للإبقاء على الجبهات مشتعلة حتى يتحقق لإسرائيل هدفها بتحقيق انتصار عسكري يُظهر الطرف الآخر خاسرا ومهزوما ويقبل بالشروط الإسرائيلية

على المستوى التكتيكي المباشر، اتسقت هذه الضربة مع  بعض التقديرات الاستخبارية الإسرائيلية بأن  تصفية زعماء "حماس" في الدوحة لن يزيل فقط من تعتبرهم قياديين متشددين، بل أيضا يضع "حماس" في وضع حرج وبالغ الخطورة يهدد كامل وجودها، لأن النجاح المفترض للضربة كان سيعني أن "حماس" ستبقى تحت زعامة قائد ميداني واحد  وأخير له السيطرة حاليا على كل مؤسساتها في القطاع وأثبت براعة في إعادة تشكيل بعض قوة "حماس" والإفلات من محاولات الاغتيال الإسرائيلية: عز الدين الحداد.

بخلاف الكثير من قادة "حماس"، يميل الحداد، حسب تقديرات إسرائيلية، إلى المرونة بخصوص الاستعداد لتقديم تنازلات لإنهاء الحرب تجنبا للمزيد من الخسائر الفادحة بين المدنيين وحفاظا على ما تبقى من التنظيم الذي يعيد الرجل تشكيله. تستطيع إسرائيل أن تقدم صفقة تعقدها هي مع "حماس" بقيادة الحداد على أنها وثيقة استسلام للأخيرة فرضته هي بقوتها العسكرية، بديلا عن اتفاق سياسي، فيه حس الندية ومظهر التكافؤ في سياق تنازلات متبادلة، بين أطراف مختلفة في الدوحة. وحتى في حال الفشل في الحصول على "وثيقة الاستسلام" هذه، تستطيع إسرائيل- لو نجحت ضربة الدوحة- مواصلة الحرب في غزة على أساس أنه لا يوجد من يمكن أن تتفاوض معه، خصوصا مع احتمال نجاح سعيها لاغتيال الحداد، ما يترك التنظيم دون رأس أو قيادة مركزية، بحسب التقديرات نفسها. حتى مع كل ذلك، بوجود الحداد وزعماء "حماس" الآخرين، أو عدم وجودهم، تستفيد إسرائيل من الوقت لتصعيد عملياتها العسكرية عبر احتلال المزيد من الأرض في  مدينة غزة في وسط القطاع وعاصمته التي تعتبر معقل "حماس" الأهم (تحتل إسرائيل الآن نحو 75 في المئة من القطاع). 

أميركا والموازنة الصعبة بين حليفين

أحرجت ضربة الدوحة الولايات المتحدة كثيرا، فأحد أهم حلفائها في المنطقة يضرب في عاصمة حليف آخر لها مهم. ورغم عدم وجود تأكيدات حاسمة لحد الآن بخصوص ما حصل بدقة، يبدو منطقيا أن الإدارة الأميركية عندما شعرت بأنها لا تستطيع منع إسرائيل من شن العملية، فإنها، على الأغلب، قامت بتسريب معلومات قادت إلى إفشالها، وذلك كجزء من مسعاها "احتواء الأضرار" والقبول بأهون الشرين.

رويترز
مبنى متضرر في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على قادة حماس، في الدوحة، قطر، 9 سبتمبر 2025

في ظل هذا المسعى حاولت الإدارة مسك العصا من الوسط: التضامن مع قطر التي طورت ردا سريعا ومؤثرا على الضربة قام على استثمار الغضب المشروع في سياقات قانونية وسياسية وتشكيل تضامن إقليمي ودولي معها. كانت بعض نتائج هذا الرد لوم أميركي مباشر لإسرائيل، ودعم أميركا إدانة رسمية صادرة من مجلس الأمن الدولي ضد الاعتداء الإسرائيلي، وهو ما يُعد تخليا أميركياً نادرا عن الدفاع التقليدي عن إسرائيل في المحافل الدولية، فضلا عن تعزير مسار إقليمي ودولي متنام لصياغة سيناريو مُتفق عليه بخصوص غزة ما بعد الحرب خارج السيطرة الإسرائيلية. لكن قد يكون الأهم بين نتائج هذا الرد هو انتزاع قطر لضمانات أميركية مستقبلية بأن تقوم الولايات المتحدة عسكريا بمنع أي سلوك إسرائيلي شبيه نحو قطر (ثمة توقعات بأن زيارة أمير قطر المقبلة لأميركا ستتناول مثل هذه الضمانات). هنا يلعب الثقل الاقتصادي لقطر واتفاقياتها التجارية السخية مع أميركا دورها الضاغط على إدارة  أميركية "صفقاتية" التفكير والسلوك على نحو غير مسبوق في التاريخ الأميركي.

يبدو منطقيا أن الإدارة الأميركية عندما شعرت بأنها لا تستطيع منع إسرائيل من شن العملية، فإنها، على الأغلب، قامت بتسريب معلومات قادت إلى إفشالها

على الجانب الآخر، وبرغم الخسارة الدبلوماسية والسياسية التي تعرضت لها إسرائيل جراء عمليتها الفاشلة، فإن نتنياهو حصل على شيء يمكن أن يستفيد منه لإطالة عمره السياسي كرئيس للوزراء والإبقاء على تحالفه البرلماني الهش وإبعاد شبح الانتهاء بالسجن جراء تهم الفساد التي تلاحقه. أطاح الرجل عمليا، ولو مؤقتا، بمسار الدوحة السلمي وبالتالي باحتمال نهاية سريعة أو وشيكة لحرب غزة، أو تواصل أميركي-حمساوي مباشر.

كان مثيرا للانتباه مثلا الطابع المفتوح للأشياء الذي برز في تصريحات وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، عندما قال بعد وصوله إلى إسرائيل في زيارته هذا الأسبوع: "سنتحدث عما يخبئه المستقبل، وسأحصل على فهم أدق بكثير حول خططهم (أي الخطط الإسرائيلية) بخصوص المستقبل". وعلى الرغم من أن روبيو أشار في الزيارة نفسها إلى أن أميركا غير راضية عن الضربة الإسرائيلية، فإنه هنا يبدو منفتحا على التفاعل مع البدائل الإسرائيلية ما دامت هذه البدائل تتضمن المطلبين الأميركيين الأساسيين بهذا الصدد: إطلاق سراح المحتجزين ونهاية الحرب بما تتضمنه هذه النهاية من ترتيبات حكم غزة ما بعد الحرب من دون "حماس". على الأغلب سيكون "العرض" الإسرائيلي لروبيو هو إنهاءٌ وحيدُ الجانب للحرب، من دون شراكة مع "حماس" تجعلها طرفا رسميا في اتفاق نهاية الحرب هذا، وهو ما يعني أن تواصل الماكينة العسكرية الإسرائيلية تقدمها في غزة وصولا إلى احتلالها كاملة وتفكيك "حماس"، وإطلاق سراح الرهائن. يتسق  سيناريو النهاية هذا القائم على ثنائية المنتصر والمهزوم مع مزاج اليمين الإسرائيلي الذي يحتاجه نتنياهو للبقاء في الحكم، لكن وقائع الأرض قد تكون مختلفة وتخيب هذه الآمال اليمينية، فـ"حماس" أثبتت قدرة عالية على التكيف وقد يعطيها احتلال إسرائيلي لكامل قطاع غزة الفرصة التي تريدها: التحرر من أعباء الحكم والتحول إلى حرب عصابات طويلة الأمد تنهك إسرائيل وتجدد شرعية "حماس" وفاعليتها... ثم على نتنياهو أن يقنع روبيو بجدوى هذا السيناريو الذي يستثمر في الأماني أكثر من الوقائع.

font change