6 أدباء روس كبار ربما لم تسمع بهم من قبل

أصوات منسية من بلاد الشتاء

6 كتاب روس

6 أدباء روس كبار ربما لم تسمع بهم من قبل

ربما يكون مستغربا أن نمر اليوم بقارئ لم يسبق له أن اطلع على الأدب الروسي، تحديدا أدب عصور الإمبراطورية الأخيرة خلال القرن التاسع عشر، فلا أحد منا لم يقرأ، أو لم يطلع على "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي، أو “الحرب والسلم” لتولستوي، أو “المعطف” لغوغول، أو “عنبر رقم 6” لتشيخوف... بيد أن سطوع هذه الأسماء وأعمالها حجب عنا أسماء كان لها حضور كبير ومهم في أدب تلك الحقبة في روسيا، بالتالي أمست هذه الأسماء على الهامش. كثيرة هي الأسباب التي أدت إلى تهميش هؤلاء، منها التطور المبكر لأفكارهم، وكذلك التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها روسيا، وساهمت في جعلهم طي النسيان.

رغم ذلك، فإن هؤلاء الأدباء قدموا رؤى مميزة عن الحياة الاجتماعية للناس العاديين وظهور الطبقة الوسطى في المجتمع الروسي، بالتالي تظل أعمالهم ذات أهمية لفهم الثقافة والفكر الروسيين خلال القرن التاسع عشر. نسلط الضوء هنا على بعض من هذه الأصوات المنسية التي تستحق إعادة اكتشاف، ومن خلال قراءة لمسيرتهم وأعمالهم نكشف عن الدور المهم الذي لعبوه في تشكيل الهوية الثقافية والفكرية لروسيا.

أبولون مايكوف: شاعر الثورة الهادئة

من السهل جدا تصنيف أبولون نيقولايفيتش مايكوف (1821-1897) كواحد من أبرز شعراء الحركة الرومانسية الروسية، فهو يعتبر من الأصوات البارزة التي كتبت عن إرث "ثورة الديسمبريين"، إذ سعى إلى دمج التقاليد الشعرية الكلاسيكية مع مواقف سياسية تقدمية. ورغم إسهاماته العميقة في الشعر والنقد والترجمة، ظل إرثه الأدبي غير معترف به بالمقارنة مع عمالقة مثل بوشكين وباكونين.

ولد مايكوف لعائلة من المبدعين، فوالده نيقولاي مايكوف (1794-1873) كان رساما بارزا في الأوساط الفنية الروسية، ووالدته يفغينيا بتروفنا مايكوفا (1803-1880) شاعرة وكاتبة، أما شقيقه فاليريان (1823-1847) فكان كاتبا وناقدا أدبيا، واعتبر أول من قدم نهجا علميا روسيا في فن النقد الأدبي، في حين اتجه شقيقه الأصغر ليونيد (1839-1900) نحو العمل والبحث في مجال التاريخ وأصبح عضوا في أكاديمية سانت بطرسبورغ للعلوم. تلقى أبولون تعليمه في المنزل على يد فلاديمير سولونيتسين وإيفان غونتشاروف، قبل أن يلتحق بكلية الحقوق في جامعة سانت بطرسبورغ، حيث تعلم اللاتينية واليونانية القديمة، وهذا ما ساعده في قراءة الكلاسيكيات الاغريقية والرومانية في نصوصها الأصلية.

واحد من الأصوات التي كتبت عن إرث "ثورة الديسمبريين"، لا سيما في قصيدته "الأميرة"، التي استكشفت فيها مُثل جيل الشباب في ذلك الوقت وكانت بمثابة إدانة للظروف السياسية والاجتماعية في روسيا


كانت ترجماته للأعمال الكلاسيكية الشرقية القديمة، وفي مقدمها الملحمة الشعرية، "حكاية حملة الإيغور"، التي ترجمها من السلافية الشرقية القديمة إلى الروسية الحديثة، مهمة في تقديم التراث السلافي الكلاسيكي للأجيال الجديدة. وعلى الرغم من تقدير معاصريه لها، غير أنها باتت شبه منسية، شأنها شأن أعماله الأدبية التي تراجع تأثيرها بعد ظهور الكتابات الأكثر شعبية، ومع ذلك فإن شعره يظل شهادة على الطموحات الثورية الهادئة التي سعى المثقفون الروس لتحقيقها.

DeAgostini/Getty Images
الشاعر الروسي أبولون مايكوف (1821–1897)

تأثر مايكوف بأفكار التنوير ودعوات الإصلاح في روسيا، وكان يطمح إلى مجتمع أكثر حرية وأقل قمعا. وكما ذكرنا آنفا، فإن أبولون هو واحد من الأصوات التي كتبت عن إرث "ثورة الديسمبريين"، لا سيما في قصيدته "الأميرة"، التي استكشفت فيها مُثل جيل الشباب في ذلك الوقت وكانت بمثابة إدانة للظروف السياسية والاجتماعية في روسيا، بما في ذلك أساليب العنف التي استخدمها المتطرفون. أيضا نجد قصيدته "قدران"  التي تعد تأملا مؤثرا حول المسارات المتباينة التي يمكن أن يسلكها الأفراد، بحيث تبرز قوة القدر في تشكيل حياة البشر: تستعرض هذه القصيدة فكرة أن القدر هو القوة التي تحدد مسار حياة الإنسان، وأن الأفراد لا يستطيعون الهروب من تأثيراتها.

كان مايكوف شاعرا تقدميا ليبيراليا جمع بين التقاليد الكلاسيكية والأفكار الثورية، ورغم عدم نيل أعماله الشعبية التي نالها أقرانه، فإن إسهاماته في الأدب الروسي تظل ذات أهمية، وتظل ترجماته وشعره دليلا على تطلعات جيله نحو التغيير الاجتماعي والسياسي، ويستحق إرثه أن يعاد اكتشافه في الأدب الروسي.

إيفان غونتشاروف: "أوبلوموف" وتأريخ الركود

يحتل إيفان ألكسندروفيتش غونتشاروف (1812-1891) مكانة بين مصاف الكتاب الروس، وذلك على الرغم من عدم نيل أعماله التقدير الذي نالته أعمال معاصريه مثل دوستويفسكي وتولستوي، ولعل أبرز مثل على قيمته الأدبية هو روايته الخالدة، "أوبلوموف"، التي يقدم فيها نقدا حادا للمجتمع الروسي في القرن التاسع عشر، مركزا على الجمود الفكري والأخلاقي للطبقة الأريستوقراطية. في الرواية يصور غونتشاروف شخصية أوبلوموف كرمز لعجز الطبقة النبيلة عن التفاعل مع التغيرات الاجتماعية والسياسية، فمعاناتها تتجاوز مسألة كسل شخصي لتصبح تمثيلا لجماعة عجزت عن التأقلم مع المتغيرات، مما يجعلها مرآة للجمود الجماعي الذي أعاق المجتمع الروسي في تلك الفترة.

لا يقتصر غونتشاروف في "أوبلوموف" على نقد الفرد، إنما يقدم صورة لمجتمع عالق بين التقاليد القديمة وضغوط التحديث، مما يعكس انفصال النخبة عن الواقع الاجتماعي الأوسع


لا يقتصر غونتشاروف في "أوبلوموف" على نقد الفرد، إنما يقدم صورة لمجتمع عالق بين التقاليد القديمة وضغوط التحديث، مما يعكس انفصال النخبة عن الواقع الاجتماعي الأوسع: تظهر الرواية الطبقة الأريستوقراطية بعيدة عن هموم الطبقات الأدنى (كالفلاحين والطبقة الوسطى الناشئة)، لتصبح نقدا اجتماعيا شاملا. بينما يعتبر أوبلوموف نموذجا للواقعية الروسية، فإنه يتخطى تصوير الحياة اليومية ليتناول الصراع النفسي لشخصياته، ومن خلاله يكشف غونتشاروف كيف يعزل الشلل الفكري والركود الفرد عن التفاعل مع العالم، مشيرا إلى الصراع الداخلي بين الرغبة في التغيير والخوف من الفشل، مما يسبق الروايات النفسية التي كتبها دوستويفسكي في وقت لاحق.

Fine Art Images/Heritage Images/Getty Images

إلى "أوبلوموف"، كتب غونتشاروف روايات أخرى مثل "الهاوية" التي رسمت خطوط الصراع الداخلي بين الرغبات الشخصية والقيود الاجتماعية مع تسليط الضوء على الصراع من أجل تحقيق الذات وسط خيبة الأمل والركود في المجتمع الروسي في القرن التاسع عشر، وأيضا رواية "القصة القديمة نفسها" التي تعكس عبثية الحياة وركودها، حيث تظهر الشخصيات عالقة في روتين ممل وصراع داخلي بين الرغبات الشخصية والضغوط الاجتماعية. ورغم أن هذه الأعمال لم تحظ بالتقدير نفسه، إلا أنها تكمل رؤية غونتشاروف النقدية للركود الاجتماعي. ومع مرور الوقت، ورغم تهميشه مقارنة بكتاب آخرين، يظل إرث غونتشاروف ذا أهمية كبرى في الأدب الروسي، إذ يصور قضايا اجتماعية وأخلاقية تبقى صالحة اليوم، ولا سيما في تحليل الأزمات النفسية والفكرية للأفراد في مجتمع متغير.

ألكسي بيسيمسكي: عبث المجتمع الروسي

قد يكون من المبالغة وضع ألكسي فيوفيلاكتوفيتش بيسيمسكي (1821-1881) في مصاف كبار الأدباء على غرار فيودور دوستويفسكي وإيفان تورغينيف، لكن عند قراءتنا له سنكتشف كاتبا مبدعا تميز بذكائه الحاد ونقده الاجتماعي الجريء، وهو ما جعله من أبرز المراقبين الاجتماعيين في القرن التاسع عشر. صحيح أنه ولد لعائلة نبيلة، لكنه سرعان ما رفض الامتيازات التي منحته إياها خلفيته واتجه لانتقاد الطبقية الاجتماعية في روسيا والكشف عن تدهور أخلاقياتها. وقد بدأ بهذا الاتجاه منذ روايته الأولى "الساذج"، التي تناول فيها التوتر الحاصل بين التقاليد الاجتماعية والرغبات الفردية، إذ تبرز فيها تعقيدات الطبيعة البشرية والسعي نحو السعادة الشخصية، ناهيك عن التناقض بين المشاعر الحقيقية وتوقعات المجتمع. وهذا ما نجده في مختلف رواياته، التي كان من أبرزها "بويارشينا"، و"ألف روح"، و"خطيئة الشيخوخة".

يبقى أحد أعمدة الواقعية الروسية، إذ ترك إرثا أدبيا ساخرا وكاشفا لعيوب المجتمع الروسي، وظل تأثيره باقيا في الأدب الروسي عبر الأجيال


غير أن عبقرية بيسيمسكي تجلت في أبهى صورها في عمله ككاتب مسرحي، إذ تميز مسرحه بالواقعية التراجيدية القاسية التي تجسد العبث المستشري في المجتمع الروسي، حيث كان يتناول الطبقات الأريستوقراطية والمثقفين والبورجوازيين الجدد، فيصورهم كمجموعات مملوءة بالأخطاء والنفاق. وتجسد ذلك أيما تجسد في مسرحيته الخالدة، "مصير مرير"، التي تدور حول العواقب القاسية في كثير من الأحيان والناجمة عن خيارات الإنسان، والضغوط الاجتماعية والتضحيات الشخصية: تستعرض المسرحية الصراعات العاطفية والنفسية لشخصياتها وتغوص في تعقيدات الطبيعة البشرية، مظهرة الصراع بين الإشباع الشخصي والقيود التي يفرضها المجتمع.

adoc-photos/Corbis via Getty Images
الكاتب الروسي ألكسي بيسيمسكي (1821–1881)

كما تحدى بيسيمسكي المثقفين الروس الذين، رغم خطابهم الإصلاحي، وقعوا في الفخاخ الأخلاقية التي وقعت فيها الأريستوقراطية، ومن خلال أعماله أظهر أن الإصلاح لا يمكن أن يأتي فقط من تغيير الأفراد في الطبقات العليا، بل يحتاج إلى تغيير اجتماعي أعمق. ورغم أن أعماله لم تحظ بالشهرة التي نالها تورغينيف أو دوستويفسكي، فإن بيسيمسكي يبقى أحد أعمدة الواقعية الروسية، إذ ترك إرثا أدبيا ساخرا وكاشفا لعيوب المجتمع الروسي، وظل تأثيره باقيا في الأدب الروسي عبر الأجيال.

ألكسندر أوستروفسكي: مؤسس المسرح الواقعي الروسي

يعتبر ألكسندر نيقولايفيتش أوستروفسكي (1823-1886) مؤسس المسرح الواقعي الروسي بلا منازع، إذ قدم مجموعة من المسرحيات تناولت حياة الناس البسطاء والعاديين في روسيا ومعاناتهم. صحيح أن اسمه لم يبرز بقوة عالميا، كما برز كبار المسرحيين الروس (على غرار تشيخوف وأندرييف وغوغول وبوشكين)، إلا أن تأثيره في المسرح الروسي لا يستهان به، فهو الذي أسهم في تطويره من خلال تصوير الواقع الاجتماعي بحساسية وعناية.

ولد أوستروفسكي في موسكو لأب يعمل محاميا ما لبث أن أصبح مسؤولا حكوميا رفيع المستوى، ليحصل على لقب نبيل عام 1839. على الرغم من أنه سار على درب والده والتحق بجامعة موسكو لدراسة القانون، لكنه اختار لاحقا الانغماس في عالم المسرح ليصبح واحدا من أبرز كتابه في عصره. وقد امتدت مسيرته المسرحية منذ أربعينات القرن التاسع عشر حتى وفاته، تحديدا حين صدرت مسرحيته الأولى "صورة عائلية" عام 1847، وصولا إلى مسرحيته الأخيرة "الرجل الوسيم" الصادرة عام 1882. وقد اقتبس العديد من الأفلام وأعمال الأوبرا من مسرحياته، لعل أبرزها فيلم "الضحية الأخيرة" (1975) من إخراج بيوتر تودوروفسكي، والأوبرا التشيكية "كاتيا كابانوفا" (1921) من تأليف ليوش ياناتشيك (اقتبست من مسرحية "العاصفة").

يشكل إرث أوستروفسكي في المسرح الروسي مرجعية هائلة، فقد أعاد تعريف دور الخشبة بوصفها مرآة للمجتمع وأداة للنقد الأخلاقي، ومنح عالم البسطاء والعوام حضورا دراميا غير مسبوق


ما ميز أعماله، افراطها في الواقعية، حيث صور الحياة كما هي بكل تعقيداتها الأخلاقية والاجتماعية، ففي مسرحياته التي تعد من أبرزها "العاصفة" (1859) و"الغابة" (1871)، انتقد التدهور الأخلاقي والنفاق في المجتمع الروسي، خاصة في الطبقات الأريستوقراطية والتجارية، وركز على معاناة الفلاحين والنساء، وتجدر الإشارة إلى أن تصويره للنساء كان مبتكرا في عصره، حيث قدمهن كشخصيات تكافح من أجل الاستقلالية والعيش الكريم.

كما كان ملتزما تأكيد أن الأفعال الشخصية تؤدي إلى نتائج اجتماعية وأخلاقية، مما جعل أعماله مفعمة بالتوترات الأخلاقية خلال فترة شهدت العديد من التغيرات السياسية في روسيا. لم ينأ أوستروفسكي بنفسه عن التوتر السياسي في الإمبراطورية آنذاك، إذ انتقد بحدة النظام القائم وأوصى بالإصلاح الاجتماعي، وعلى الرغم من أنه لم يكن سياسيا بشكل مباشر، فإن نقده للأخلاق الاجتماعية والاقتصادية كان له تأثير كبير في تحفيز التفكير الإصلاحي في روسيا التي عارضت سلطاتها القائمة أعماله، ومع ذلك حظيت بشعبية كبيرة بين الجمهور.

يشكل إرث أوستروفسكي في المسرح الروسي مرجعية هائلة، فقد أعاد تعريف دور الخشبة بوصفها مرآة للمجتمع وأداة للنقد الأخلاقي، ومنح عالم البسطاء والعوام حضورا دراميا غير مسبوق، وصاغ حوارا نابضا بإيقاع اللغة الحية وتفاصيل اليومي، مما مهد لمدارس الأداء الحديثة ولجيل ستانيسلافسكي وتشيخوف. ولهذا لا تزال مسرحياته تعرض حول العالم اليوم، مغذية الخيال المسرحي ومكرسة تأثيره الثقافي والفكري المستمر.

بافل ميلنيكوف: صوت الفلاحين

جعل بافل إيفانوفيتش ميلنيكوف (1818-1883)، الكاتب والإثنوغرافي والناقد الاجتماعي المولود في نيجني نوفغورود، من روسيا الريفية موضوعه الأثير وصوته الأخلاقي، فعلى الرغم من كونه مولودا من عائلة من النبلاء، إلا أنه بقي على مسافة من غواية الامتياز (وربما يعود ذلك إلى كون العائلة من العائلات النبيلة المتواضعة النسب)، وتجلى ذلك في اقترابه من الفلاحين، في العيش بين ظهرانيهم وتجوله بين قراهم، مصغيا الى نبض يومهم ومحولا إياه أدبا يمزج السرد بالملاحظة الميدانية. هكذا غدت أعماله الروائية مرآة لحياة أهل هذه الطبقة المهمشة: عاداتهم وهمومهم، صلتهم بالأرض وما يعصف بهم من تبدلات اجتماعية جارفة.

يمنح ميلنيكوف الفلاحين حضورا إنسانيا كثيفا يجلي نقاءهم وحكمتهم ووشائجهم بالطبيعة من غير أن يختزلهم أو يسطحهم


تتجلى بصيرته على نحو بين في روايتيه الأشهر، "في الغابات" (1874) و"في الجبال" (1879). تلتقط الأولى تفاصيل مجتمع قروي تضغط عليه موجات التحديث: فلاحون معلقون بين صون التقليد والتكيف مع عالم يتبدل، ملتحمون بالأرض التحام العظم بالعصب، ومع ذلك يساقون إلى إعادة تعريف مكانهم في مجتمع يزداد تصنيعا وتحضرا. أما الثانية فتعرض، تحت مجهر أخلاقي حاد، العلاقة الملتبسة بين ملاك الأراضي والفلاحين: انحلال طبقة السادة، وتصاعد سخط المقهورين، وشقيقان يتجاذبهما الولاء لقيم الريف من جهة وإغواء الثراء والطموح من جهة أخرى... وذلك في استعارة للصراع الدائر آنذاك على الأراضي الروسية، بين الضمير الريفي وصعود قيم المنفعة.

Fine Art Images/Heritage Images/Getty Images
الكاتب الروسي بافل إيفانوفيتش ميلنيكوف (1818–1883)

يمنح ميلنيكوف الفلاحين حضورا إنسانيا كثيفا يجلي نقاءهم وحكمتهم ووشائجهم بالطبيعة من غير أن يختزلهم أو يسطحهم، ناهيك عن أن رومانسيته موزونة بنقد يقظ يعترف بالمكابدة وبالتعقيدات الأخلاقية وبالضعف البشري. لذا تفلت شخصياته من القوالب الجاهزة: أناس من لحم ودم يخطئون ويصيبون، ويقاومون قدرهم عند تخوم الفقر والكرامة.

إلى جانب عطائه الأدبي، برع في عمله كإثنوغرافي دقيق الملاحظة، فوثق اللهجات والطقوس والأعياد ومظاهر التدين الشعبي، محولا مؤلفاته إلى سجلات ثقافية نفيسة تكشف الإيقاع الخفي للحياة الريفية وعمق الصلة بين الإنسان وأرضه. ورغم ما حظي به من شهرة في حياته، أخذ اسمه يخبو شيئا فشيئا مع تغير الذائقة الأدبية واتجاهها نحو عوالم الأريستوقراطية والنخبة المثقفة، وأيضا مع تقدم مسيرة التحضر، فطغت أعمال عمالقة السرد على نتاجه. مع ذلك ظل أثره متجذرا، إذ وسع آفاق الواقعية الروسية ومنح الفلاحين صوتا وملامح وكرامة سردية، ويضاف إلى ذلك عمله على حفظ طبقات من الذاكرة الريفية كانت مهددة بالاندثار.

يفغيني باراتينسكي: الشاعر الفلسفي

ليس بالمستغرب أن يقال عن يفغيني أبراموفيتش باراتينسكي (1800-1844) إنه "الوجه الفلسفي المشرق للعصر الذهبي الروسي"، فهو شاعر جعل من الفكر نشيدا وقصائد ولكن دون إفقاده معناه. قد تبدو سيرة طبيعية في ظاهرها: مولد نبيل في تمبوف، فصل مبكر من "فيلق باج" إثر فضيحة، خدمة عسكرية في فنلندا، زواج من أناستاسيا إنغيلهارت، ثم تقاعد بتصريح إمبراطوري عام 1826، وهو ما شكل حياة مدنية منضبطة قوامها القراءة والمراسلات ونظم الشعر. غير أن وراء هذا السكون أسلوبا صارما دقيقا يختبر العاطفة بالحجة ويؤثر البيان والوضوح، حتى استقرت صورته بوصفه "أبرز شاعر فلسفي" بين معاصري بوشكين. ولعل الإثارة الكبيرة حدثت ما بعد وفاته المفاجئة في نابولي، فصحيح أن نجمه أفل في الأربعينات وبات شبه منسي حينها، إلا أن صعود التيار الرمزي في روسيا أعاده إلى الواجهة من جديد، فأضحى له موقع نقدي راسخ، لا سيما بفضل قصائده المتأخرة.

احتفظ إرثه الأدبي بقيمة عظيمة، لأنه أسس لأسلوب شعري فكري وفلسفي تميز بالصدق والتعقيد


تكمن القيمة الجوهرية لأعماله الأولى، لا سيما قصيدتاه "إيدا" (1826) و"الحفلة الراقصة" (1828)، في الموقف الشعري أكثر منها في بنية الحكاية، فالعاطفة تقدم كفرضية تختبر عبر النحو وبناء المشهد، فيما يغدو المنظر الطبيعي في فنلندا (بحكم خدمته العسكرية هناك) إطارا أخلاقيا لا مجرد ديكور جمالي: من هنا يمكن فهم ما عده بعض معاصريه "برودا" باعتباره ستارا يخفي نمطا جديدا من التفكير في السرد الشعري. وفي المراثي القصيرة يتقدم العقل خطوة ليعيد تشكيل الانفعال في صيغة محسوبة، كما في مرثية "عن وفاة غوته" (1832) التي تقدم نموذجا لقصيدة تجمع بين البعد الحجاجي والقدرة التصويرية. وعلى الصعيد التقني، بلور باراتينسكي ما يمكن تسميته بـ"الجملة الدورية الممتدة" في الشعر، إذ يوظف التوابع والاعتراضات والإرجاءات الدقيقة عبر التدوير بين الأسطر، بينما يحافظ الوزن على تماسك الإيقاع لأن النحو أداة تحليلية والإيقاع آلية برهانية.

Fine Art Images/Heritage Images/Getty Images
ChatGPT said:الشاعر الروسي يفغيني باراتينسكي (1800–1844)

رغم أهميته البالغة في الأدب الروسي، إلا أن باراتينسكي تعرض للتهميش لأسباب من أبرزها تأخر اعتراف الأوساط الأدبية به، إلى جانب تناقض أعماله مع التيارات الأدبية السائدة في عصره: على الرغم من تأثره الواضح بالرومانسية، فإن شعره لم يكن يتماشى تماما مع هذه الحركة، مما جعله في موقف يتسم بالتباين. إضافة إلى ذلك، كان باراتينسكي شاعرا ذا طابع فكري عميق، مما جعل أعماله تتطلب فهما معقدا يجمع بين العاطفة والعقل، وهو ما لا يتناسب دائما مع ذائقة القارئ في ذلك الوقت. مع ذلك احتفظ إرثه الأدبي بقيمة عظيمة، لأنه أسس لأسلوب شعري فكري وفلسفي تميز بالصدق والتعقيد، وهو لا يزال مقدرا من أولئك الذين يثمنون عمق الفكر وجمال التعبير في الأدب.

font change

مقالات ذات صلة