باولو سكوت في رمال العنصرية المتحركة

روايته "بني وأصفر" تمزق أسطورة الديمقراطية العرقية في البرازيل

غلاف رواية "بني وأصفر"

باولو سكوت في رمال العنصرية المتحركة

العنصرية في القارة الأميركية ليست حكرا على الولايات المتحدة، حيث لا تزال أقلية بيضاء تغذي استيهاما بتفوقها على ذوي البشرة السوداء، وهو ما يقود أفرادا منها إلى ارتكاب جرائم في حقهم، بين الحين والآخر، تلقى استنكارا واسعا داخل البلد وخارجه. ففي البرازيل، على سبيل المثل، لا يزال السود والمختلطون عرقيا يعانون من تمييز عنصري يتجاوز بكثير ذلك الملاحَظ في الولايات المتحدة، لكن واقعه ونتائجه الرهيبة تبقى مجهولة خارج هذا البلد لسبب بسيط وهو أن البرازيل لا تحتل الموقع المتقدم في العالم الذي تحتله أميركا.

تحت الجلد

من يرغب في تبديد جهله في هذا الموضوع، ننصحه بقراءة رواية الكاتب والشاعر البرازيلي باولو سكوت، "بني وأصفر" (2019)، التي صدرت ترجمتها الفرنسية في باريس حديثا عن دار "غاليمار"، بعنوان "اللون تحت الجلد"، بعد فترة قصيرة من صدور ترجمتها الإنكليزية في نيويورك بعنوان "أنماط ظاهرية". رواية تعاني من بعض الركاكة على المستوى الأدبي، لكنها بالغة الأهمية لفهم الواقع الفج لبلد – البرازيل – لا تزال ذكرى العبودية التي مورست فيه حية، وتشكيل فكرة دقيقة عن نشاط رجال ونساء يكافحون يوميا للتخلص من إرثها الوخيم.

تجدر الإشارة بداية إلى أنه، وفقا للإحصاء الرسمي الأخير الذي أجري في هذا البلد عام 2010، يجاهر 43 في المائة من المواطنين بحقيقة أنهم مختلطون عرقيا، بينما ينحدر 30 في المائة ممن يعتبرون أنفسهم بيضا من أصول سوداء. ولأن البرازيل لطالما عانت من مشاكل تتعلق بالتمييز على أساس لون البشرة والتصنيف العرقي، بينما لا تزال سياسات التمييز الإيجابي فيها تثير جدلا واسعا، قرر باولو سكوت استكشاف هذا الموضوع في "بني وأصفر"، عبر لجوئه إلى شخصيات نموذجية، من بينها بطلا الرواية، الشقيقان فيديريكو، الأبيض مثل والدته الفنانة، وصنو الكاتب إلى حد ما، ولورانسو، الأسود مثل والده الشرطي.

مثل معظم شخصيات الرواية، ولد هذان الشقيقان وترعرعا في بورتو أليغري، جنوب البرازيل. ومع أن التمييز العنصري لم يكن له مكان في منزلهما، إلا أنهما واجها باكرا واقعا مختلفا خارج المنزل، تطغى عليه عنصرية بنيوية تنخر المجتمع البرازيلي. لكن بخلاف لورانسو، الذي عرف دائما كيف يتقبل اختلافه ويصرّف المضايقات التي كان يتعرض لها، تماثل شقيقه البكر، فيديريكو، مع قضية السود منذ طفولته، وحمل في أعماقه غضبا رافقه حتى سن الرشد في كفاحه ضد العنصرية.

لطالما عانت البرازيل من مشاكل تتعلق بالتمييز على أساس لون البشرة والتصنيف العرقي، بينما لا تزال سياسات التمييز الإيجابي فيها تثير جدلا واسعا


لذلك، بعدما أصبح متخصصا في الثقافة البرازيلية ذات الأصول الأفريقية، وناشطا مشهورا في مجال حقوق الإنسان، يوافق على المشاركة في لجنة حكومية مكلفة تطوير برنامج حاسوبي من شأنه تحديد الأصول العرقية للطلاب "بموضوعية"، أي من هو أسود البشرة بما فيه الكفاية، أو مختلط عرقيا، أو من السكان الأصليين، للاستفادة من نظام الحصص العرقية في التعليم العالي. موافقة ستشكل نقطة انطلاق ليس فقط لنقاش مثير حول مفهوم العرق، بل أيضا لمغامرة محفوفة بالأخطار تُسقِط فيديريكو، من خلال جريمة قتل قديمة، في قلب التوترات المجتمعية في البرازيل اليوم.

غلاف الترجمة الفرنسية لرواية سكوت تحت عنوان "اللون تحت الجلد"

أحقاد الماضي

فعلا، لا تلبث أحقاد الماضي أن تطفو على السطح في هذه الرواية التي تتبع كتابتها غالبا قوانين روايات التشويق البوليسي (thriller). كيف؟ حين تلقي الشرطة القبض على ابنة لورينسو، الشابة روبيرتا، بعد عثورها على مسدس في سيارتها، وينشط ضابط شرطة أبيض رفيع المستوى لملاحقتها قانونيا بتهمة الإرهاب، انتقاما من عمها. انتقام سببه شجار عنصري قديم يعود تاريخه إلى أكثر من ثلاثة عقود، وأدى إلى مقتل صديق للضابط المذكور على يد أحد أصدقاء لورينسو. وهو ما يدفع فيديريكو إلى مغادرة برازيليا واللجنة الحكومية، والعودة إلى مدينة ولادته لمساعدة شقيقه وابنته.

لكن القصة التي يسردها سكوت في هذه الرواية لا تقتصر على ذلك. فمن خلال قفز ثابت داخل الزمن يبرره استرجاع فيديريكو ذكريات له، يجد القارئ نفسه في رحلة تنقله من التظاهرات الطالبية التي عمّت البرازيل في عامي 2015 و2016، إلى مشهد إذلال عرقي شاهده فيديريكو بأم عينه أثناء إجرائه الفحوص الطبية التي تستبق التجنيد العسكري، في ثمانينات القرن الماضي، مرورا بفصول من طفولته مع شقيقه في السبعينات، وبقصة حب عاشها أثناء دراسته الجامعية ولم ينطفئ جمرها. سفر داخل الماضي تكشف كل واحدة من محطاته المزيد عن التزامه السياسات العنصرية الإيجابية، وعن مختلف المراحل – الشخصية والمؤسساتية والوطنية – التي تبلورت فيها هذه السياسات.

ينجح سكوت في إظهار كيف أن التوترات العرقية لا تقتصر على مواجهات مفتوحة أو ظاهرة، كونها متأصلة أيضا داخل العقول


أبعد من نقد العنصرية المتفشية في المجتمع البرازيلي، يسمح لجوء سكوت في القسم الأول من روايته إلى قصة ابتكار برنامج حاسوبي "موضوعي" لتحديد الهوية العرقية، بطرح الأسئلة الصحيحة: من هو أسود؟ من هو أبيض؟ أين ينبغي وضع ذوي الأعراق المختلطة؟ كما يسمح بكشف ما يصر المجتمع البرازيلي على إخفائه خلف شعار "التناغم العرقي". ومن خلال قصة الأخوين فيديريكو ولورينسو، وعواقب ماض لم يتمكنا من طي صفحته، يسائل الكاتب بشكل ناجع الإرث العائلي، ويفضح شرور الظلم العنصري التي تنتقل من جيل إلى جيل، مفككا تدريجيا صورة بلد مبني على أسطورة ذلك التناغم الزائف.

Nelson AlmeidaAFP /
تظاهرة ضد العنصرية في ساو باولو في يوم الوعي الأسود

منظور سيكولوجي

في هذا السياق، المنظور الحقيقي الذي يقترحه في "بني وأصفر" هو منظور التماهي الذي يسمح له بعدم طرح مشكلة العنصرية فقط من باب "الأنماط الظاهرية" (phenotypes)، أي السمات والخصائص الظاهرة فينا، بل خصوصا من منظور سيكولوجي غير مرئي يسبر الوعي الذاتي والهوية الفردية لدى كل شخصية. منظور تصبح الطُرَف والحوارات في ضوئه جوهرية، معبّرة، كما حين يفسر لورينسو بشكل موارب لماذا يجب عدم استخدام الفلاش لالتقاط الصور الفوتوغرافية، متجنبا التفوه بالسبب الحقيقي، أي بشرته السوداء التي تلمع بفعل الفلاش، أو حين يقر فيديريكو، الذي لا يشعر بأنه أبيض، لكنه لا يحمل لون بشرة والده السوداء، بأنه يعيش في لا مكان، في فضاء اختلاط عرقي غير محدد، ولذلك يعجز عن إيجاد مكانه الحقيقي. بلبلة تطاول جميع الشخصيات الأخرى على المستوى الهوياتي وتجعلها تتخبط في تناقضاتها وشكوكها.

JEFFERSON BERNARDESAFP /
متظاهر في شوارع بورتو أليغري خلال افتتاح المنتدى الاجتماعي العالمي 2010

بالتالي، ينجح سكوت في إظهار كيف أن التوترات العرقية لا تقتصر على مواجهات مفتوحة أو ظاهرة، كونها متأصلة أيضا داخل العقول والعائلات، والأحياء، والأجيال. لذلك، لا مانوية في روايته، بل حس عال في التقاط دقائق الأشياء، وبنية زمنية تنكشف فيها عواقب أفعال الماضي على الحاضر، لكن بإعادة تشييد هذا الحاضر بواسطة السرد الخرافي، يصبح ممكنا تغذية الأمل في مستقبل أفضل.

Alamy
الكاتب باولو سكوت في ريو دي جانيرو، البرازيل

هذا ما يقودنا إلى نقطة قوة أخرى في "بني وأصفر"، أي عدم اكتفاء صاحبها بتفكيك أسطورة التعايش المتناغم في وطنه. فبين وطأة تاريخ العبودية الصادم والاعتراف بالتوترات الديستوبية الراهنة، تنتهي الرواية بتفاؤل محتمل بفضل جزءيها الأخيرين، "في المستقبل" و"كتاب روبيرتا"، اللذين يشكلان خاتمتين مستوحاتين من ذكريات حميمة وظرف سياسي، وتجسيدا لإيمان بإمكان بناء مجتمع أكثر عدلا وإنسانية.

عنوان يعكس مدى اختلاف فهم مفهوم العرق من بلد إلى آخر، وأيضا استحالة تحديد لون البشرة – أي بشرة – بدقة، مهما كانت التكنولوجيا المستخدمة متطورة


لكن، على أهميتها، تعاني هذه الرواية من عملية تشييد مرهقة، من تشوش زمني يشتت انتباه قارئها، ومن معالجة سطحية أو غير كافية لبعض شخصياتها، مثل أنديارا التي تحب فيديريكو، لكنها لا تحضر سوى كوسيلة لإفراغ الكاتب كما كبيرا من المعطيات، أو بربارا، حبيبة فيديريكو منذ سن الدراسة، التي كانت مؤهلة لإثراء القصة المروية، نظرا إلى المشاعر الجميلة والمعقدة التي تربطها به، لكن علاقتهما لا تحظى مع الأسف بالتطور الذي تحتاجه. إلى ذلك، نضيف مسألة توالي الفصول من دون إيقاع واضح ومضبوط، مما يضعف خيط السرد. ومع أن الرواية تعكس جهدا بحثيا وتوثيقيا لا شك فيه، لكن ذلك لا يكفي لتبرير عملية سرد يأتي التكثيف فيها على حساب الوضوح والسلاسة.

اختلاف مفهوم العرق

مع ذلك، رشحت "بني وأصفر" لجائزة "بوكر" الدولية عام 2022، نظرا إلى طموحها وتصويرها الناجح للواقع التاريخي والاجتماعي في البرازيل، وتحديدا للمشكلة العرقية في بلد يشكل ذوو البشرة السوداء فيه 55 في المائة من عدد سكانه، بينما لا يمكن اعتبار الـ 45 في المائة الباقية ذات بشرة ناصعة البياض. رقمان يأخذ عنوان الرواية في ضوئهما كل معناه. فإضافة إلى وصفه بشرة كل من لورانسو وفيديريكو، يعكس مدى اختلاف فهم مفهوم العرق من بلد إلى آخر، وأيضا استحالة تحديد لون البشرة – أي بشرة – بدقة، مهما كانت التكنولوجيا المستخدمة متطورة. وهي الفكرة الرئيسة التي تقوم الرواية عليها.

shutterstock
بورتو أليغري من الجو عند بحيرة غايبا ومعلم غازومترو

تبقى مدينة بورتو أليغري التي تدور معظم أحداث "بني وأصفر" فيها، ولا نبالغ في اعتبارها شخصية مركزية داخل هذا العمل، وواحدا من مكامن جاذبيته، إذ يتنقل سكوت بنا في جميع شوارعها، ويُدخِلنا إلى مقاهيها وحاناتها ومطاعمها، إضافة إلى إسقاطه إيانا داخل نظامها الاجتماعي المعقد واختلافاتها العرقية. ومع أن عملية السرد تتأرجح بينها وبين برازيليا، لكنها هي مسرح الرواية الجغرافي الرئيس، وروحها.

ولا عجب في اختيار الكاتب هذه المدينة بالذات، وفي تمكنه من نقلها كاملة إلينا، ففي خاتمة روايته يوضح بأنه "في هذا المكان، وتحديدا في حي بارتينون ذي الغالبية السوداء، نشأتُ وعشتُ حتى سن الثانية والعشرين. وعلى الرغم من تجاربي في مدن أخرى، في البرازيل وخارجها، فإنني لم أغادره حقا".

font change