غزة بعد الإبادة... "حماس" تختبر سيطرتها بالنار

"حماس" تفرض سيطرتها بالنار... والمدنيون بين مؤيد ومعارض

لينا جرادات
لينا جرادات

غزة بعد الإبادة... "حماس" تختبر سيطرتها بالنار

عقب دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، بين حركة "حماس" وإسرائيل، الجمعة 10 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وبينما كان الغزيون يفكرون في كيفية استعادة أمنهم وأمانهم، انتشرت عناصر أمنية تابعة لـ"حماس" على مفترقات عامة وبعض المناطق الحيوية التي انسحب منها الجيش الإسرائيلي داخل قطاع غزة. لم يكن انتشارا كبيرا كما في السابق، بل اقتصر على أعداد محدودة، مسلحين بلباس مدني وملثمين، تركز عملهم على تفتيش سيارات المارة من المواطنين بحثا عن أسلحة.

خلال حرب الإبادة التي امتدت لعامين متواصلين، واجهت "حماس" وعناصرها الأمنية- حتى من يعملون في وزارة الداخلية التابعة لها- ملاحقات من الجيش الإسرائيلي وصلت حد استهدافهم بشكل مباشر، ما أدى إلى مقتل أكثر من 700 عنصر من عناصرها، ما حملها على اتهام عملاء ومتعاونين مع الاحتلال بالوقوف خلف تقديم معلومات عنهم لإسرائيل وقالت إن من بين هؤلاء من قتل بعضا من عناصرها وعناصر المقاومة الفلسطينية مباشرة، وهو ما دفعها لتصفية عدد من المتهمين بالعمالة ميدانيا بالرصاص خلال الحرب، وآخرون كانوا على قائمة الملاحقة.

ومع وقف إطلاق النار، أعلنت وزارة الداخلية التابعة لـ"حماس"، فتح باب التوبة خلال أسبوع واحد، لكل من ارتكب فعلا مخالفا للقانون، شرط أن لا تكون يديه مُلطخة بالدماء، فيما توعدت بملاحقة المتعاونين ومرتكبي جرائم القتل. حيث هاجمت مجموعات أمنية تابعة للحركة عددا من أوكار الخارجين عن القانون والمتهمين بقتل عناصر من الفصائل أو مواطنين خلال الحرب.

في خانيونس جنوب القطاع، داهمت قوة "رادع" التابعة لأمن "حماس" عددا من الأوكار بحسب بيانات الداخلية واشتبكت مع بعض الخارجين عن القانون واعتقلت عددا منهم واقتادتهم إلى مراكز تحقيق. لكن المداهمة الأبرز، كانت وسط مدينة غزة، حيث حاصر عشرات من عناصر الحركة مزودين بالأسلحة النارية والقذائف الصاروخية ما تعرف بـ"منطقة الدغامشة" بحي الصبرة، وهي مربع سكني كبير يضم عشرات منازل المنتمين لعائلة "دغمش" ويمتد من شارع الصناعة غربا وحتى شارع المغربي شرقا.

كانت "حماس" تجري محاكمات للعملاء والمتعاونين مع إسرائيل خلال السنوات الماضية في محاكم عسكرية وفق قانون العقوبات الثوري لـ"منظمة التحرير الفلسطينية" لعام 1979

وتتهم "حماس" أفرادا من العائلة، بالتعاون مع الاحتلال في تقديم معلومات أمنية، ومساعدة إسرائيل في نشر الفوضى والخراب من خلال ارتكاب مجموعات من أبناء العائلة جرائم السرقة والقتل بحق مواطنين خلال الحرب، وكذلك سرقة قوافل المساعدات الغذائية التي كانت تدخل شمال قطاع غزة للمُجوعين، ما ساهم بتعميق أزمة التجويع والفوضى، الأمر الذي استوجب العمل على المحاسبة بالمثل بهدف إنهاء حالة الفلتان والفوضى وضبط أمن وأمان الغزيين من قبل أمن الحركة التي لا زالت تسيطر على الحكم في غزة.

يقول شاهد عيان رفض الكشف عن هويته لـ"المجلة" وهو من سكان المنطقة المستهدفة، أن عناصر أمنية تحمل أسلحة متنوعة، هاجمت منازل "الدغامشة" بالنار- دون سابق إنذار- خلال ساعات النهار من يوم الأحد 12 أكتوبر/تشرين الأول، ليرد أفراد من العائلة بالمثل، حيث امتدت اشتباكات واسعة بين الجانبين من عدة اتجاهات أكثر من أربع ساعات متواصلة، قُتل خلالها العشرات من الجانبين فيما اعتقل الأمن أكثر من 60 فردا من العائلة واقتادهم إلى مراكز التحقيق، قبل أن تعلن الجهات الأمنية عن إحكام وفرض سيطرتها على المربع السكني بالكامل، وقد داهمت جميع المنازل لتفتيشها وإشعال النار بعد الانتهاء من العملية.

أ.ف.ب
عنصران من قوات الأمن الداخلي التابعة لحركة "حماس" في مخيم النصيرات للاجئين وسط قطاع غزة، مع عودة النازحين إلى مدينة غزة، في 12 أكتوبر 2025

في اليوم التالي لعملية المداهمة والاعتقال، أعدم عناصر أمن "حماس" بالرصاص وعلى مفترق شارع المغربي، ووسط حشود المواطنين، سبعة أفراد من عائلة دغمش بالقرب من منازلهم، كانوا قد اعتقلوا خلال المداهمة واتهموا بالتعاون مع الاحتلال وقتل ومهاجمة مدنيين، فيما هاجمت مجموعات أمنية مناطق أخرى في حي الشجاعية، جماعات تتعاون مع الجيش الإسرائيلي شرق مدينة غزة، وجماعات أخرى في منطقة جباليا شمال القطاع، وهي مناطق لا زالت خاضعة للاحتلال الاسرائيلي، ما أسفر عن مقتل عدد من الأفراد من الجانبين.

وكانت "حماس" تجري محاكمات للعملاء والمتعاونين مع إسرائيل خلال السنوات الماضية في محاكم عسكرية وفق قانون العقوبات الثوري لـ"منظمة التحرير الفلسطينية" لعام 1979، والذي يشوبه بعض الإشكاليات والثغرات القانونية حيث تتضارب نصوصه مع مبادئ العدالة الجنائية الحديثة. فيما تعتمد "حماس" والفصائل الفلسطينية عموما، على محاكمة كل من يثبت تورطه بالعمالة والتعاون مع إسرائيل أمام محاكم ميدانية فورية، غالبا ما يكون عقابها الإعدام الفوري بالرصاص أو إطلاق النار على القدمين، وهو ما يحرم المُتهم من الدفاع عن نفسه ويفرض عقابا شديدا يؤدي إلى فقدان الحياة غالبا.

تؤيد الغالبية العظمى من المواطنين تنفيذ أشد العقوبات التي تصل حد الإعدام ميدانيا بالرصاص للمتورطين، على اعتبار أنهم كانوا سببا إضافيا لمعاناتهم وفقدهم لحالة الأمن والأمان

وبينما كانت المؤسسات الحقوقية تنادي في السنوات السابقة بإلغاء العمل بالقانون الثوري واستبداله بالمحاكمة وفق قانون العقوبات الفلسطيني وبعد عامين في الإبادة والقتل والدمار الذي مارسته إسرائيل بحق أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة، عانوا خلالها من الفوضى والقتل والاعتداء على ممتلكاتهم وأبنائهم من قبل عصابات ومجموعات استغلت حالة غياب القانون والجهات التنفيذية بسبب الحرب والقصف، تؤيد الغالبية العظمى من المواطنين تنفيذ أشد العقوبات التي تصل حد الإعدام ميدانيا بالرصاص للمتورطين، على اعتبار أنهم كانوا سببا إضافيا لمعاناتهم وفقدهم لحالة الأمن والأمان.

فادي عثمان (34 عاما)، من سكان شمال مدينة غزة، اضطر وشباب من أقاربه خلال المجاعة التي طالتهم خلال الحصار الإسرائيلي في مايو/أيار الماضي إلى التوجه نحو منطقة زكيم شمال غربي القطاع، حيث سمح الجيش الإسرائيلي بدخول شاحنات تحمل الطحين ومساعدات إغاثية، ويقول لـ"لمجلة" "جعنا ومش لاقين إشي بتاكل، حتى الخبز ما كنا ملاقينه، الجيش سمح بدخول شاحنات طحين والناس كانت بتروح تاخد من الشاحنات بشكل ذاتي".

بعد رحلة شاقة من المشي تحت أشعة الشمس لأكثر من 8 كيلومترات، تمكن من الحصول على جوال طحين يزن 25 كيلوغراما، وكذلك صديقه، فيما لم يتمكن الآخرون من الحصول على الطحين.. "اتفقنا نتعاون في حمل الشوالات خلال الطريق مع بعضنا البعض واقتسام الكمية بالتساوي فور وصولنا، لكن الطريق ما كانت آمنة"، حيث واجهتهم خلال رحلة العودة مشيا، مجموعات من الشبان الذين يحملون أسلحة بيضاء يهددون العائدين المحملين بالطحين أو المواد الغذائية بتسليمهم ما حملوه أو الاعتداء عليهم، ما اضطرهم للتخلي عن حصتهم.

أ.ف.ب
صورة جوية تظهر الدمار في مدينة غزة شمال قطاع غزة في 11 أكتوبر 2025، بعد يوم من سريان وقف إطلاق النار.

ويضيف: "من بعدها صرنا بنروح واحنا حاملين سكاكين، بدنا نحمي حالنا وبدنا نطعمي أسرنا، يعني ما في خيارات تانية"، هكذا كان حال معظم الغزيين نتيجة عصابات قطاع الطرق التي انتشرت، متابعا: "اليوم بعد ما خلصت الحرب، بدي أي حد يفرض الأمن، ما بدي أحمل لا سكينة ولا سلاح، ولا بدي أتعرض للتهديد والتجويع، احنا بحاجة للأمن والأمان ومعاقبة كل مرتكب جريمة على جريمته".

وتعرّض ضياء مسعود (44 عاما)، خلال الحرب للسرقة تحت التهديد بسلاح أبيض من مجموعة شبان في حي تل الهوا جنوب غربي مدينة غزة، وذلك خلال عملية عسكرية كان ينفذها الجيش الإسرائيلي متوغلا في أحياء المدينة الشرقية قبل خمسة أشهر من الآن، حيث كان في طريق نزوحه مع عائلته حينما هاجمه أربعة شبان يحملون "سكاكين مطبخ" وأجبروه على تسليمهم هواتفهم النقالة وبعض حاجياتهم. ولكي يحمي أسرته منهم اضطر لمنحهم ما طلبوه.

غالبية المواطنين تؤيد تطبيق القصاص والعقاب على مرتكبي جرائم القتل والسرقة والتعدي عليهم وعلى أملاكهم، لكن فئة قليلة تعارض طريقة أمن "حماس" في العقاب

يقول لـ"المجلة": "فوضى وما في جهة تقدم فيها شكوى أو تستنجد فيها، يا بفقد حياتي أو حياة حد من أولادي يا باتخلى عن أغراضنا الشخصية وبنشتري أرواحنا". مشيرا إلى أنه مع تطبيق الأمن من أي جهة أمنية تفرض القانون على الجميع وتحمي المواطنين كي يتمكنوا من العيش والتنقل بحرية في جميع المناطق وخلال الأوقات المختلفة، خاصة وأنّ الغالبية من المواطنين فقدوا منازلهم ويعيشون في خيام لا تحميهم من التعدي عليها من العصابات المختصة بالسرقة.

أ.ف.ب
أعضاء من "كتائب القسام" الجناح العسكري لحركة "حماس"، يقفون حراسا بجوار مركبات تقل رهائن إسرائيليين مُفرج عنهم على طريق رئيسي في دير البلح وسط قطاع غزة في 13 أكتوبر 2025

وقد تكون الغالبية من المواطنين تؤيد تطبيق القصاص والعقاب على مرتكبي جرائم القتل والسرقة والتعدي عليهم وعلى أملاكهم، لكن فئة قليلة تعارض طريقة أمن "حماس" في العقاب، ويقول ممدوح سمعان (39 عاما) لـ"لمجلة": "ما حد بختلف على فرض القانون وتطبيقه، ولا حد بختلف على وجوب فرض العقاب وتنفيذه، لكن يجب تقديم المذنب لمحاكمات مدنية تنظر في التهمة والأدلة تمنح للمتهم فرصة للدفاع عن نفسه، قد يكون مظلوما وقد تكون فعلته وجرمه لا يرقى لمعاقبته بالقتل".

لا يلتفت كثيرا أمن حركة "حماس" لتلك الأصوات الناقدة في مثل الأوقات الحالية، بل يكسب التأييد الشعبي الأوسع من خلال البيانات الثورية في حالة انفلات أمني ربما لم يشهده الغزيون من قبل، ولا زالت تصدر التهديدات المتتالية بالتوعد لمحاسبة المجموعات المسلحة التي برزت خلال الحرب في مناطق سيطرة الجيش الإسرائيلي مثل مجموعة ياسر أبو شباب شرق رفح جنوب القطاع، ومجموعات أخرى في مناطق متفرقة قالت خلال الأشهر السابقة إن عملها يتركز بالتخلص من "حماس" وعناصرها خلال الحرب.

font change

مقالات ذات صلة