لعبة البرغماتي... انسحاب روسيا المحسوب من الشرق الأوسط

لا يعني أنها سلّمت زمام الأمور للغرب

إدواردو رامون
إدواردو رامون

لعبة البرغماتي... انسحاب روسيا المحسوب من الشرق الأوسط

في مارس/آذار 2023، كشف الكرملين عن أحدث وثيقة لمفهومه للسياسة الخارجية، معلنا عودة روسيا إلى الساحة العالمية بوصفها قوة ذات "مهمة فريدة في الحفاظ على توازن القوى العالمي". ووفق هذه الاستراتيجية ستكون موسكو الوسيط الذي لا غنى عنه ومهندس الأمن في الشرق الأوسط، وقد تعهدت بـ"تعاون شامل وقائم على الثقة مع إيران"، و"دعم كامل" لسوريا، و"تعميق الشراكات المتعددة الأوجه والمثمرة للطرفين" مع كل من تركيا والسعودية ومصر. كما سعت إلى ترسيخ مكانة روسيا كصانع سلام في المنطقة، قادر على "رأب الصدع وتطبيع العلاقات" بين الخصوم الإقليميين، وعلى بناء "هيكل مستدام وشامل للأمن والتعاون الإقليمي".

غير أن واقعا مختلفا تماما قد تكشّف بعد مرور أكثر من عامين بقليل. فمن صراع غزة إلى التحولات السياسية في سوريا، ومن هشاشة الاستقرار في لبنان إلى حسابات إيران الإقليمية، لم يكن لموسكو سوى حضور محدود باهت. هذا التباين بين الطموح الاستراتيجي والواقع العملي يكشف حقيقة جوهرية: إن انسحاب روسيا البرغماتي من الانخراط الشرق أوسطي لا يعكس تبدلا في الرغبة، بل إدراك للقدرة. فقد دفعت حرب أوكرانيا موسكو إلى إعادة حساباتها الاستراتيجية، محوّلة دورها الإقليمي من وسيط طموح إلى شريك محدود، ومفسحة المجال أمام ما يمكن تسميته "الصفقات الاستراتيجية"- وهو نهج في السياسة الخارجية يجمع بين التعاون البرغماتي القائم على المصالح والطموح نحو تنسيق أعمق، لكنه يظل مقيدا بأولويات متنافسة وموارد محدودة.

مثّل مفهوم السياسة الخارجية لعام 2023 تحولا جذريا في التوجه الاستراتيجي الروسي. فللمرة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، طغى خطاب المواجهة مع الغرب على رغبة روسيا في التعاون. وأكدت الوثيقة أن النظام الدولي يشهد تحولا عميقا نحو التعددية القطبية، واعتبرت ذلك "تحولا في إمكانات التنمية نحو مراكز جديدة للنمو الاقتصادي والنفوذ الجيوسياسي". وقد وضعت هذه الرؤية الشرق الأوسط في صلب مسرح التحدي للهيمنة الغربية.

شكّلت حرب أوكرانيا استنزافا للموارد، ما اضطر روسيا إلى إعطاء الأولوية للاحتياجات الأمنية العاجلة على حساب الطموحات البعيدة

لكن تنفيذ هذا المفهوم اتسم بما يمكن وصفه بـ"الصفقات البرغماتية"، وهو نهج يجمع بين الاصطفاف الخطابي الطموح والتعهدات المحدودة بعناية. ويتجلى ذلك بوضوح في العلاقة بين روسيا وإيران، حيث وقّع البلدان في يناير/كانون الثاني 2025 معاهدة شراكة استراتيجية شاملة تضم 47 مادة تغطي التعاون في مجالات الدفاع والطاقة، لكنها خلت بشكل لافت من أي بند للدفاع المشترك. هذا النمط من ترقية العلاقات شكليا مع تجنب الالتزامات الجوهرية التي قد تستنزف الموارد الروسية، بات السمة المميزة لسياسة موسكو الراهنة في الشرق الأوسط.

وقد شكّلت حرب أوكرانيا استنزافا للموارد، ما اضطر روسيا إلى إعطاء الأولوية للاحتياجات الأمنية العاجلة على حساب الطموحات البعيدة. وكما أشار أحد التحليلات، فإن "روسيا تفتقر إلى الموارد المالية والبشرية والثقافية" اللازمة للقيادة الإقليمية. وبدلا من ذلك، سعت موسكو إلى التعويض عبر اتخاذ مواقف حاسمة، مقدّمة نفسها كـ"نقيض للغرب"، عارضة على دول الشرق الأوسط عرضا بسيطا: "نعم، نحن واقعيون ساخرون ولا نؤمن بالقيم، لكن إن اختلفتم مع الغرب، فنحن مستعدون لمدّ يد العون".

أ ف ب
يُظهر هذا المنظر موقع المباني السكنية المتضررة بشدة في أعقاب هجوم جوي روسي على مشارف كييف، في 28 سبتمبر

وقد قدّم مفهوم السياسة الخارجية لعام 2023 روسيا بوصفها "دولة-حضارة" متميزة، ذات مطالب تاريخية في التأثير العالمي، تسعى إلى تحدي الهيمنة الغربية من خلال تعزيز الشراكات في العالم الإسلامي. وتخيّلت الوثيقة موسكو كصانع سلام يسعى إلى التوفيق بين الخصوم الإقليميين وبناء "هيكل شامل ومستدام للأمن والتعاون الإقليمي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا". هذا الإطار الطموح اقترح عمقا استراتيجيا عبر توطيد العلاقات مع إيران وسوريا وتركيا والسعودية ومصر، مستفيدا من الروابط التاريخية مع الفصائل الفلسطينية وإسرائيل.

انعقدت القمم الكبرى للسلام من دون مشاركة روسية ذات مغزى، ما كشف حدود النفوذ الدبلوماسي الروسي على الرغم من الطموحات الكبرى التي تباهت بها الوثيقة في التوسط في القضية الفلسطينية

ما يجعل انسحاب روسيا اللاحق من الشرق الأوسط بالغ الدلالة هو أنه جاء على الرغم من كون مفهوم السياسة الخارجية لعام 2023 قد منح الأولوية للانخراط في المنطقة وليس للانسحاب منها. فقد شددت الوثيقة المذكورة أعلاه على بناء "عالم متعدد الأقطاب" وعلى "مواجهة الخطط التوسعية للولايات المتحدة والغرب الجماعي"، وهي أهداف كان يُفترض أن تنعكس في حضور روسي مكثف على الساحة الإقليمية. غير أن تنفيذ هذه الرؤية اصطدم باستنزاف الموارد الذي تسببت به حرب أوكرانيا، إذ فرضت الاحتياجات العسكرية والضغوط الاقتصادية إعادة ضبط للطموحات العالمية. وهكذا تحوّل الشرق الأوسط إلى مسرح ثانوي، لا عن خيار بل عن ضرورة، في تجسيد نموذجي لتجاوزٍ استراتيجي اصطدم بحدود القدرة الفعلية.

ويجسد رد فعل روسيا على أزمة غزة نهجها القائم على "الصفقات البرغماتية" في التعامل مع الأزمات الإقليمية. فرغم الروابط التاريخية مع الفصائل الفلسطينية واستضافة وفود من حركة "حماس" في موسكو، وجدت روسيا نفسها مستبعدة إلى حد كبير من دبلوماسية وقف إطلاق النار الفعلية. فقد انعقدت القمم الكبرى للسلام من دون مشاركة روسية ذات مغزى، ما كشف حدود النفوذ الدبلوماسي الروسي على الرغم من الطموحات الكبرى التي تباهت بها الوثيقة في التوسط في القضية الفلسطينية.

وربما كان المؤشر الأوضح على سياسة موسكو الراهنة، والذي يمثل انحرافا صارخا عن الدور الذي تصورته الوثيقة كوسيط لا غنى عنه في المنطقة، هو تصريح وزير الخارجية سيرغي لافروف بأن روسيا لن "تفرض خدماتها" كوسيط. هذا الموقف السلبي يتناقض بحدة مع وعد الوثيقة بأن روسيا ستسهم في إيجاد "حل شامل ودائم للقضية الفلسطينية".

أ ف ب
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس السوري أحمد الشرع يعقدان اجتماعا في قصر الكرملين الكبير في موسكو في 15 أكتوبر

أما المثال الأكثر درامية على محدودية الدور الروسي في الشرق الأوسط، فقد تجلى في انهيار نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، وهو النظام الذي أنفقت موسكو قرابة عقد من الزمن وموارد كبيرة في دعمه. وقد شكل هذا التطور نكسة عميقة للنفوذ الروسي، وقوض تعهد الوثيقة بـ"الدعم الكامل" لسوريا.

وقد كشف رد روسيا عن برغماتية جديدة ولدت من محدودية استراتيجية. وتشير الأدلة إلى أن موسكو ربما تعمدت تقليص دعمها العسكري خلال الهجوم الأخير للمعارضة، حيث لاحظ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أن روسيا "كانت تملك القدرة العسكرية للرد وكان بإمكانها استخدامها، لكنها قررت عدم ذلك". هذا التقييد المحسوب يظهر إدراك موسكو أن بعض الحلفاء لا يستحقون التضحية بعلاقات استراتيجية أكثر أهمية، ولا سيما مع تركيا.

في لبنان، نرى وجها آخر لتراجع روسيا الإقليمي الأوسع من خلال محدودية الانخراط في الشأن اللبناني

وفي أعقاب ذلك، تقلصت طموحات روسيا بشكل كبير لتقتصر على الحفاظ على قواعدها العسكرية الاستراتيجية في طرطوس وحميميم. وتحولت العلاقة من نمط الراعي والتابع إلى تفاوض برغماتي مع الحكومة الجديدة. وبينما سعى الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع إلى "إعادة تعريف" العلاقة، انكمشت الأهداف الروسية إلى الحفاظ على حقوق التمركز العسكري بدلا من توجيه المسار السياسي لسوريا. وهذا يمثل ابتعادا كبيرا عن رؤية الوثيقة لشراكة استراتيجية عميقة، ويعكس نهجا جديدا يركز على الحفاظ على الأصول العسكرية الحيوية في المتوسط.

أما العلاقة بين روسيا وإيران، فتمثل حالة معقدة تخفي فيها الشكليات الدبلوماسية المعززة حدودا جوهرية. فمعاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة التي وقعت في يناير/كانون الثاني 2025، والتي تغطي بموادها السبع والأربعين التعاونَ في مجالات تمتد من الدفاع إلى الطاقة، بدت وكأنها تجسد دعوة الوثيقة إلى "تعاون شامل وقائم على الثقة مع إيران". إلا أن هذه الترقية الشكلية أخفت علاقة لا تزال في جوهرها صفقة برغماتية، مقيدة بالضرورة المتبادلة أكثر من كونها تحالفا متينا.

أ ف ب
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في صورة قبل اجتماع ثلاثي بشأن سوريا في طهران في 19 يوليو 2022

يرتكز جوهر الشراكة بين روسيا وإيران على مواجهة العقوبات الغربية والتعاون العسكري المحدد، ولا سيما فيما يتعلق بتزويد إيران لروسيا بطائرات مسيرة تستخدم في حرب أوكرانيا. وعلى الرغم من الإطار الطموح للمعاهدة، فالمؤكد أنها خلت بشكل لافت من أي بند للدفاع المشترك، وهو قيد جوهري يكشف عن تردد روسيا في تقديم ضمانات أمنية لطهران. وقد تجلى هذا الغياب بشكل خاص خلال فترات التصعيد بين إيران وإسرائيل، حيث اكتفت موسكو بالدعم الخطابي دون أن تقدم أي دعم عسكري فعلي.

وهكذا، فإن العلاقة مع إيران، وإن تعززت شكليا، تظل محدودة في جوهرها الاستراتيجي، شراكة قائمة على الضرورة أكثر من كونها تحالفا حقيقيا، وهي تجسيد دقيق لما يمكن وصفه بـ"الصفقات الاستراتيجية" التي باتت تعرف نهج موسكو الراهن.

وفي لبنان، نرى وجها آخر لتراجع روسيا الإقليمي الأوسع من خلال محدودية الانخراط في الشأن اللبناني. فرغم طموح وثيقة السياسة الخارجية الروسية إلى التوسط في النزاعات الإقليمية، اكتفت موسكو بدور المراقب في المفاوضات الحساسة بين لبنان وإسرائيل، ولا سيما المتعلقة منها بنزع سلاح "حزب الله". وقد تولت الولايات المتحدة زمام المبادرة في هذه المحادثات، فيما غابت روسيا بشكل واضح عن الدبلوماسية الفعلية.

ويمثل هذا الانخراط الهامشي ابتعادا كبيرا عن رؤية الوثيقة لروسيا كمهندس للأمن في الشرق الأوسط. فعلى الرغم من استمرار موسكو في اعتبار "حزب الله" "قوة اجتماعية سياسية شرعية" لا جماعة إرهابية، فإن تأثيرها على حسابات "الحزب" الاستراتيجية أو على المسار السياسي اللبناني ظل محدودا. وقد مضت مفاوضات نزع السلاح الحاسمة لاستقرار المنطقة من دون مشاركة روسية ذات مغزى، في مؤشر واضح على تراجع قدرة موسكو على إسقاط نفوذها وهي منشغلة بجبهات أخرى.

تقدم تطورات الانخراط الروسي في المنطقة درسًا أعمق في حدود ما يمكن تسميته "الصفقات الاستراتيجية"

إن محدودية الانخراط الروسي في بؤر التوتر الشرق أوسطية خلال العامين الماضيين تكشف الفجوة العميقة بين العقيدة السياسية المعلنة والواقع العملي. فقد تصورت وثيقة السياسة الخارجية لعام 2023 روسيا منخرطة استراتيجيا في مختلف أنحاء المنطقة، تتوسط في النزاعات وتعيد تشكيل هندسة الأمن. لكن موسكو حافظت على حضور محدود بشكل ملحوظ، وقد خففت طموحاتها بفعل الاستنزاف الذي تسببت به حرب أوكرانيا.

ويمثل هذا التراجع لا تخليا استراتيجيا، بل اعترافا برغماتيا بضيق الهامش المتاح. فمن غزة إلى سوريا، ومن لبنان إلى إيران، فضلت روسيا الحفاظ على أصولها الحيوية، وقواعدها العسكرية، وشراكاتها المحددة، وتموضعها الدبلوماسي، على الانخراط الشامل الذي رسمته عقيدتها الاستراتيجية. لقد أصبح الشرق الأوسط مسرحا ثانويا لا عن تصميم، بل عن ضرورة، فيما كشفت حرب أوكرانيا حدود قدرة روسيا على إسقاط القوة.

وتقدم تطورات الانخراط الروسي في المنطقة درسًا أعمق في حدود ما يمكن تسميته "الصفقات الاستراتيجية". فهذا النهج، وإن أتاح قدرًا من المرونة وضبط التكاليف، فإنه قلّص مساحة النفوذ وكشف هشاشة الالتزامات الخطابية. وقد أدرك الشركاء الإقليميون ضيق هامش الحركة الروسية، فبدأوا في تعديل توقعاتهم تبعًا لذلك، باحثين عن شركاء أكثر موثوقية لتلبية احتياجاتهم الأمنية.

تراجعت فخامة المفاهيم الاستراتيجية أمام واقعية الفرز والتحديد، كاشفةً أن حتى القوى الطامحة عالميًا لا بد لها في نهاية المطاف من ترتيب أولوياتها. وفي هذه اللحظة، اختارت موسكو أوكرانيا على حساب المنطقة، تاركةً مسارها السياسي والدبلوماسي يتطور بمساهمة روسية هامشية، في ابتعاد واضح عن الرؤية الطموحة التي رسمتها وثيقة السياسة الخارجية لعام 2023.
ومع ذلك، لا تجوز الاستهانة بعمق المصالح الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط. فاختيارها، بدافع الضرورة، انسحابا تكتيكيا من التأثير في مسار تطور المنطقة، لا يعني أنها سلّمت زمام الأمور للغرب، فروسيا، كما هو معروف، تُجيد اللعب على المدى الطويل.

font change