في مارس/آذار 2023، كشف الكرملين عن أحدث وثيقة لمفهومه للسياسة الخارجية، معلنا عودة روسيا إلى الساحة العالمية بوصفها قوة ذات "مهمة فريدة في الحفاظ على توازن القوى العالمي". ووفق هذه الاستراتيجية ستكون موسكو الوسيط الذي لا غنى عنه ومهندس الأمن في الشرق الأوسط، وقد تعهدت بـ"تعاون شامل وقائم على الثقة مع إيران"، و"دعم كامل" لسوريا، و"تعميق الشراكات المتعددة الأوجه والمثمرة للطرفين" مع كل من تركيا والسعودية ومصر. كما سعت إلى ترسيخ مكانة روسيا كصانع سلام في المنطقة، قادر على "رأب الصدع وتطبيع العلاقات" بين الخصوم الإقليميين، وعلى بناء "هيكل مستدام وشامل للأمن والتعاون الإقليمي".
غير أن واقعا مختلفا تماما قد تكشّف بعد مرور أكثر من عامين بقليل. فمن صراع غزة إلى التحولات السياسية في سوريا، ومن هشاشة الاستقرار في لبنان إلى حسابات إيران الإقليمية، لم يكن لموسكو سوى حضور محدود باهت. هذا التباين بين الطموح الاستراتيجي والواقع العملي يكشف حقيقة جوهرية: إن انسحاب روسيا البرغماتي من الانخراط الشرق أوسطي لا يعكس تبدلا في الرغبة، بل إدراك للقدرة. فقد دفعت حرب أوكرانيا موسكو إلى إعادة حساباتها الاستراتيجية، محوّلة دورها الإقليمي من وسيط طموح إلى شريك محدود، ومفسحة المجال أمام ما يمكن تسميته "الصفقات الاستراتيجية"- وهو نهج في السياسة الخارجية يجمع بين التعاون البرغماتي القائم على المصالح والطموح نحو تنسيق أعمق، لكنه يظل مقيدا بأولويات متنافسة وموارد محدودة.
مثّل مفهوم السياسة الخارجية لعام 2023 تحولا جذريا في التوجه الاستراتيجي الروسي. فللمرة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، طغى خطاب المواجهة مع الغرب على رغبة روسيا في التعاون. وأكدت الوثيقة أن النظام الدولي يشهد تحولا عميقا نحو التعددية القطبية، واعتبرت ذلك "تحولا في إمكانات التنمية نحو مراكز جديدة للنمو الاقتصادي والنفوذ الجيوسياسي". وقد وضعت هذه الرؤية الشرق الأوسط في صلب مسرح التحدي للهيمنة الغربية.


