المبعوث الأميركي الجديد للعراق... بين آمال الإصلاح واستمرار الفشل

لا يأتي مارك سافايا من خلفية سياسية وليس في سجله ما يشير إلى القدرة على تطوير رؤية متماسكة

أ ف ب
أ ف ب
جنود أميركيون يسيرون بجوار الأعلام العراقية أثناء مغادرتهم قصر الفاو في معسكر النصر بعد إحدى الاحتفالات العديدة المخطط لها لإحياء ذكرى انتهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق، في بغداد، 1 ديسمبر 2011

المبعوث الأميركي الجديد للعراق... بين آمال الإصلاح واستمرار الفشل

أثار تعيين الرئيس الأميركي دونالد ترمب مارك سافايا مبعوثا خاصا للعراق اهتماما عراقيا كثيفا لجهة معنى هذا التعيين ودلالاته بخصوص التوجهات الأميركية نحو العراق. فمنذ تولي ترمب رئاسته الثانية، لم تُبدِ إدارته اهتماما بالعراق، بل اكتفت بالتعاطي معه على أنه ساحة خلفية لإيران وينبغي له أن يخرج من دائرة نفوذ الأخيرة. كانت علامات ضعف الاهتمام بالبلد وربطه بإيران كثيرة وأولها المذكرة الرئاسية التي أصدرتها الإدارة بعد أسبوعين من توليها زمام الأمور في البيت الأبيض، في الرابع من فبراير/شباط، بإعادة فرض العقوبات القصوى على إيران. في تلك المذكرة يرد ذكر النظام المالي العراقي كأحد الثغرات التي تستغلها الجمهورية الإسلامية للتنصل من العقوبات الأميركية وضرورة سد هذه الثغرة، وهذا ما ظهر عبر قرارات لوزارتي الخزانة والخارجية الأميركيتين بإيقاع عقوبات مالية على شخصيات ومؤسسات عراقية متهمة بمساعدة إيران على التهرب من العقوبات الأميركية وتصنيف بعضها بوصفها تهديدا إرهابيا.

على المستوى السياسي، لم يحصل أي تواصل ذي قيمة حقيقية بين إدارة ترمب والحكومة العراقية رغم سعي الأخيرة الحثيث لفتح قنوات اتصال مباشرة مع الإدارة الجديدة، إذ اكتفت هذه الأخيرة باتصالات هاتفية قليلة ومتباعدة بين وزير الخارجية ماركو روبيو ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني، طابعها- بحسب ما يُستشف من البيانات الأميركية- يميل إلى الإملاء والتهديد المُبَطن، أكثر من تبادل الآراء بين طرفين صديقين. كان آخر هذه الاتصالات قبل أسبوع تقريبا وأكد فيه روبيو، بحسب البيان الأميركي، على "الضرورة الملحة" لنزع سلاح الميليشيات المرتبطة بإيران، في ما يبدو تصعيدا في المطالبات الأميركية بخصوص هذا الأمر الذي عجزت عن حله حكومات عراقية متعاقبة. فضلا عن ذلك، كانت هناك بعض الزيارات ذات الطابع التقني لمسؤولين عراقيين إلى الولايات المتحدة (فيما أظهرت الإدارة الاهتمام بحكومة إقليم كردستان واستضافت رئيس وزرائها، مسرور بارزاني، الذي زار العاصمة الأميركية في شهر مايو/أيار الفائت). العلامة الأهم على غياب الاهتمام الأميركي بالعراق في ظل هذه الإدارة هو عدم ترشيح الإدارة سفيرا لها في العراق بعد انقضاء مهمة السفيرة السابقة، آلينا رومانوسكي، بنهاية العام الماضي، والاكتفاء بالقائم بالأعمال الحالي، جوشوا هارس.

يتصاعد دور المبعوثين الرئاسيين الذين يتواصلون مع الرئيس مباشرة ما يعني سرعة في اتخاذ القرارات واحتمالات عالية لاتخاذ مواقف غير تقليدية وخارجة عن المألوف المؤسساتي الأميركي

سافايا: بصمة الأشخاص لا المؤسسات

من هنا تأتي أهمية تعيين سافيا بدور المبعوث الخاص، فبرغم أن هذا التعيين يقفز على دور المؤسسات التقليدية في إدارة ملفات السياسة الخارجية مثل وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي كغيرها من تعيينات ترمب، فإنه، في الحالة العراقية، يوفر خطا مباشرا بين البيت الأبيض والوقائع العراقية على أساس طريقة سافايا في تأدية الدور المنوط به. فبخلاف المبعوثين الخاصين الآخرين، ستيفن ويتكوف وتوم باراك اللذين يديران ملفات مهمة في السياسة الخارجية تقع ضمن أولويات الرئيس، فإن سافايا ليس صديقا شخصيا لترمب كما هو حال ويتكوف وباراك وملفه، العراق، ليس ضمن الأولويات الرئاسية. يبدو  واضحا أن تعيين سافايا في هذا المنصب هو رد لدين سياسي في عنق ترمب نحو الرجل على الدعم الانتخابي، بضمنه تبرعات مالية، التي قدمها لترمب في حملتيه الانتخابيتين في 2020 و2024، ومساعدته في ضمان الفوز بولاية (ميشغن) غالبا ما تصّوت للمرشحين الرئاسيين من "الحزب الديمقراطي"، وليس علامة اهتمام رئاسية أميركية بالعراق.

حساب سافايا في "إنستغرم"
مارك سافايا، المبعوث الخاص الجديد لدونالد ترمب إلى العراق، يظهر مع ترمب في صورة

من أجل أن يكون ناجحا في صناعة تغيير إيجابي حقيقي في قصة العراق الحالية، البلد الذي ما يزال يراوح في مصاف الدول الفاشلة، يواجه صاحب هذا التعيين تحديين اثنين مختلفين. التحدي الأول هو قدرة سافايا على إثارة اهتمام إدارة ترمب بالعراق بحيث يتجاوز الانشغال الأميركي الحالي والضيق لكن المهم أيضا بالملف العراقي، من الاكتفاء بتفكيك الفصائل المسلحة فيه وإخراجه من دائرة النفوذ الإيراني ليصل إلى مساعدة البلد على الخروج من واقع الدولة الفاشلة المستحكم عراقيا على مدى عقدين من الزمن. يبرز هنا  اختلافٌ مهم بخصوص تعيين ترمب سافايا مبعوثا رئاسيا مقارنة بتعيينه لويتكوف وباراك اللذين يديران ملفات يهمُ الرئيس كثيرا النجاح فيها. لا يثق ترمب كثيرا بمؤسسات الدولة الرسمية المختصة بصناعة القرار كجزء من اعتقاده، الذي يشاركه فيه الكثير من أنصاره في حركة "ماغا" اليمينية، بأنها جزء من الدولة العميقة التي، بحسب هذا الاعتقاد، تعمل لصالح الديمقراطيين على أساس أجندة ليبرالية وفاسدة تتضمن تَعمد إفشال الزعامات الجمهورية. كان هذا الاعتقاد حاضرا بقوة في قرارات ترمب بتقليص أعداد الموظفين في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي، وهما المؤسستان الأهم في صناعة السياسة الخارجية وتنفيذها. في ظل هذا التقليص والارتياب بعمل مثل هذه المؤسسات، يتصاعد دور المبعوثين الرئاسيين الذين لا يأتون عبر هذه المؤسسات وليسوا مقيدين بها، بل يتواصلون مع الرئيس مباشرة ما يعني سرعة في اتخاذ القرارات واحتمالات عالية لاتخاذ مواقف غير تقليدية وخارجة عن المألوف المؤسساتي الأميركي (كما حصل في ملف الحرب الروسية-الأوكرانية). تتسق طريقة العمل هذه أيضا مع مزاج ترمب وسرعة إيقاعه وكثرة تبدلاته.

لا يأتي سافايا من خلفية سياسية وليس في سجله ما يشير إلى القدرة على تطوير رؤية إصلاحية متماسكة وقابلة للتطبيق

يفتح كل هذا الفرصة أمام سافايا لإقناع ترمب بإيلاء اهتمام أكبر بالعراق يتجاوز مشكلة النفوذ الإيراني  المستحكم في البلد إلى رؤية إصلاحية عامة أوسع وأعمق.  تقوم هذه الرؤية على دفع القوى السياسية العراقية المتنفذة عبر خليط من الترغيب والضغط الأميركيين لتبني أجندة إصلاحية تبدأ بتفكيك الفصائل المسلحة وضمان احتكار الدولة للسلاح وإلغاء المحاصصة وتنتهي بإنهاء الدولة الريعية المعتمدة على الموارد النفطية لصالح بناء اقتصاد دينامي ومتنوع يتصدره القطاع الخاص يجعل أميركا شريكا اقتصاديا رئيسا ما يعود بالنفع للشركات الأميركية التي يحرص ترمب على تيسير حصولها على صفقات مربحة. في ضوء النهج الصفقاتي الذي يُميز ترمب، وقلة الكلفة السياسية الأميركية المطلوبة لدفع الأشياء نحو مثل هذا الإصلاح البنيوي والجدي في العراق، فإن مثل هذا الاحتمال ليس بعيدا، خصوصا مع الإقرار الشعبي والسياسي الواسع في العراق بأن نظام ما بعد 2003 قد فشل على نحو ذريع في تقديم الخدمات اللازمة للمجتمع وبناء المؤسسات الرصينة وصناعة الفرص الاقتصادية وتحقيق الاستقرار السياسي.

رويترز
يحمل أطفال عراقيون أعلامًا إيرانية وهم يحتفلون بما يقولون هم والعراقيون الآخرون إنه انتصار إيران، بعد أن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، في بغداد، العراق، 24 يونيو

العلاقة الشخصية وليس الخبرة السياسية

يصطدم هذا الاحتمال بالتحدي الثاني والمتعلق بشخصية سافايا نفسه، إذ لا يأتي الرجل من خلفية سياسية وليس في سجله ما يشير إلى القدرة على تطوير رؤية إصلاحية متماسكة وقابلة للتطبيق، ولا حتى إلى إمكانية إقناعه ترمب بتبني مثل هذه الرؤية في ظل العلاقة المحدودة بينهما. تضمنت هذه العلاقة بعض الزيارات التي قام بها سافايا إلى نادي مارالاغو (Mar-A-Lago) المنتجع السياحي للأثرياء ذي العضوية الخاصة الذي يملكه ترمب في ولاية فلوريدا ولقاءه ترمب هناك. ليس واضحا إذا كان الرجل عضوا مسجلا في النادي وهو ما يتطلب دفع رسوم عضوية عالية لمرة واحدة كانت سابقا بحدود 700 ألف دولار رفعها ترمب في العام الماضي إلى مليون دولار قبل دخوله البيت الأبيض، فضلا عن أجور سنوية لتجديد الاشتراك تبلغ نحو 25 ألف دولار (كانت رسوم العضوية بحدود 200 ألف دولار عندما تولى ترمب الرئاسة للمرة الأولى في 2017). تعني العضوية في نادي الأثرياء هذا الذي لا توجد سجلات علنية بخصوص الانضمام له (لأسباب تتعلق بالحفاظ على الخصوصية الشخصية) شيئا مهماً  في هذا السياق السياسي المتعلق بترمب الرئيس، فالكثير من الصفقات السياسية، وحتى التفاوض مع زعماء وممثلي دول مهمة، كالصين والأرجنتين وإيطاليا وكندا، جرت وتجري في هذا النادي الذي يفضله ترمب كثيرا. ما الذي يعنيه هذا عراقيا؟ وصولا سهلا ومريحا لسافايا لترمب خارج الأطر الرسمية، إذا تأكدت عضويته في هذا النادي وتطويره رؤية سياسية متعددة الجوانب للإصلاح في العراق ليقنع الرئيس بها وبكيفية تطبيقها (على الأغلب، سافايا ليس عضوا في النادي وإنما دُعي هناك كضيف، فعضوية هذا النادي تلائم كبار الأثرياء، وليس رجال أعمال حديثي الغنى بثروات محدودة في طور الزيادة، كما هو حال سافايا).

في ظل المعطيات المتوفرة، بضمنها انشغال الإدارة المحدود بالعراق وقدرات سافايا الشخصية واهتماماته التجارية، يبدو أن الخيار الذي تمضي فيه الأشياء سيكون استمرارا مُحَسنا للسياسة الأميركية الحالية

حدود الممكن العراقية

لكن في ظل المعطيات المتوفرة، بضمنها انشغال الإدارة المحدود بالعراق وقدرات سافايا الشخصية واهتماماته التجارية، يبدو أن الخيار الذي تمضي فيه الأشياء سيكون استمرارا مُحَسنا للسياسة الأميركية الحالية: خليط من الضغوط لتفكيك الميليشيات والحث على المزيد من الصفقات التجارية بين العراق والشركات الأميركية. وبما أن النفط، والكهرباء على نحو أقل بكثير، يكادان يكونان المجالين الوحيدين المتيسيرين لعمل الشركات الأميركية في البلد، فعلى الأكثر ستُبرم بعض الصفقات بهذا الاتجاه، في ظل الاقتصاد الريعي المُهيمن عليه من جانب الدولة وانتشار البيروقراطية المرهقة والفساد الإداري وضعف القطاع الخاص، وهي مجموعة العوامل التي تعيق دخولا اقتصاديا أميركيا واسعا ومؤثرا في الاقتصاد العراقي. بموازاة هذا النشاط الاقتصادي المحدود، ستتصاعد الضغوط الأميركية لتفكيك الفصائل المسلحة وهو الملف الذي يتطلب حضور سافايا القوي فيه كناقل للرسائل والتحذيرات وصانع للاقتراحات والتسويات. لكن اختبار الرجل الأول والأكثر جدية سيكون قريبا جدا، قبل أن يُتاح له الوقت الكافي للتدرب جيدا على مهمته الجديدة كمبعوث رئاسي: قدرته على الوقوف ضد سعي إيران المتوقع لصياغة معادلة سياسية تخدم مصالحها في العراق على أساس نتائج الانتخابات البرلمانية التي ستجري خلال أقل من أسبوعين، في 11 نوفمبر/تشرين الثاني، والحكومة التي ستتمخض عنها. هل يستطيع سافايا أن يمنع هذا التدخل الإيراني المعتاد، والمتوقع من جانب "الإطار التنسيقي" الحاكم، في تشكيل الحكومة المقبلة؟ نتيجة هذا الاختبار سنقول الكثير عن طبيعة الدور الذي سيلعبه سافايا في العراق، نجاحا أو فشلا.

font change

مقالات ذات صلة