الرياض ترسم خريطة "أنسنة الاستثمار" والذكاء الاصطناعي المسؤول

الأثر الإنساني على رأس الأولويات في اتفاقات "مبادرة مستقبل الاستثمار"

المجلة
المجلة

الرياض ترسم خريطة "أنسنة الاستثمار" والذكاء الاصطناعي المسؤول

حملت النسخة التاسعة من منتدى "مبادرة مستقبل الاستثمار" (FII9) في الرياض شعارا تنمويا "مفتاح الازدهار: فتح آفاق نمو جديدة"، ليظهر المعنى في جلسات المنتدى ومداخلاته وحواراته، والمقصود هنا الانتقال من النقاشات النخبوية والاتفاقات والتنفيذ إلى أنسنة القرارات، أي إلى ازدهار تتمحور بوصلته حول الإنسان، صحته ورفاهه، قدرته على التعلم والعمل، والثقة التي تبنيها المؤسسات حين تصوغ سياسات عادلة ومسؤولة. في هذا المعنى، بدا المنتدى أقل شبها من مؤتمر نقدي كلاسيكي، وأكثر قربا من مسرحٍ جيوسياسي وتنموي تتحاور فيه الرؤى مع الاستثمارات، وتتجاور فيه الحوكمة مع التكنولوجيا على منصة واحدة.

من هذا المدخل، لا يمكن النظر إلى الإعلانات الاستثمارية التي قاربت 70 مليار دولار في اللوجستيات والتقنية والذكاء الاصطناعي بمعزل عن الأجندة الإنسانية. فالتوازي كان لافتا بين تحول أولويات رأس المال السعودي وبين صعود خطاب يضع "الوقاية الصحية" و"سياسات قائمة على الأدلة" و"العدالة الرقمية" في قلب المعادلة. والأهم في المحاور هو هيمنة التكنولوجيا على معظم الجلسات، في إشارة إلى انتقال مركز الثقل من مشاريع عقارية ضخمة إلى البنية التحتية الرقمية والحوسبة العالية الأداء ومراكز البيانات وسلاسل توريد الرقاقات، أي إلى البنية الأساس التي سيتحدد عبرها توزيع الفرص في الاقتصاد العالمي الجديد.

الرفاه والوقاية: "الحق الصحي"

في قلب الأجندة الإنسانية، أطلق معهد "مبادرة مستقبل الاستثمار"، ضمن برنامج "Healthy Humanity" (الإنسانية الصحية)، مبادرة عالمية تحت اسم "Blueprint for Healthy Humanity" (خريطة طريق لإنسانية صحية)، منطلقا من فكرة هدفها وضع الوقاية والرفاه في صميم أنظمة الصحة حول العالم، وتحويلهما إلى حق أساسي متاح للجميع. ترتكز المبادرة على تحالف دولي يجمع الحكومات والقطاع الخاص وشركات التأمين والمنظمات المدنية، بحيث تنتقل الرؤية من بيانات وتقارير إلى سياسات قابلة للتنفيذ وتمويلات مستدامة.

الفكرة هنا أن القرارات العامة إن كانت ضريبية أم تعليمية أم صحية، يجب ألا تصاغ في فراغ سياسي أو بعيدا من بيانات الناس، بل تختبر افتراضاتها على نموذج وطني يراعي التفاوت والفئات الضعيفة والتوزيع الجغرافي

ما الذي يجعل هذه المبادرة مختلفة عن مبادرات سابقة حول العالم؟

أولا، مجانية الفحوص الوقائية الدورية عبر الدعوة إلى فحوص أساسية لجميع المواطنين كل عامين، بتمويل مشترك بين القطاعين العام والخاص.

ثانيا، اقتصادات الوقاية، إذا كان 75 في المئة من تكاليف الرعاية الصحية يرتبط بأمراض يمكن الوقاية منها، فإن كل دولار يستثمر في الوقاية يمكن، وفق تقديرات المبادرة، أن يولد ما يصل إلى 6 دولارات من الفوائد الاقتصادية عبر رفع الإنتاجية وتخفيف أعباء العلاج.

ثالثا، ديموغرافيا الشيخوخة، إذ إن العالم مقبل على 1,5 مليار إنسان فوق 65 عاما في حلول 2040، فيما يمضي الفرد في المتوسط 9 سنوات في اعتلال صحي. هنا تتحول الوقاية من خيار إلى ضرورة اقتصادية واجتماعية.

أ.ف.ب.
الرئيس التنفيذي لـ"إكسبو الرياض 2030" طلال المري، يتحدث في جلسة، على هامش مؤتمر "مبادرة مستقبل الاستثمار"، 29 أكتوبر 2025

تعتمد الخطة أربع ركائز مترابطة، وهي الوقاية من الأمراض المزمنة المرتبطة بنمط الحياة (70–80 في المئة)، عبر سياسات غذائية ورياضية وبيئية وسلوكية. كذلك الفحص المبكر والتشخيص باستخدام الذكاء الاصطناعي والصحة الرقمية، بما يقلص فاتورة العلاج ويرفع نسب النجاة. بالإضافة إلى إدارة الصحة على مدى الحياة، بما يشمل الصحة النفسية والشيخوخة الصحية وبناء مسارات رعاية متصلة لا تنقطع عند الأزمات. ومعها التوعية والتدريب لبناء جيل من المهنيين الصحيين والمواطنين يضعون الوقاية أولا، ويعاملون "عمر الصحة الجيد" بوصفه الهدف، لا مجرد إطالة العمر.

بالنسبة الى المنظمين، فهذا برنامج عمل يؤسس لقياس نسبة السكان الذين يحصلون على فحوص دورية، وانخفاض الأمراض القابلة للوقاية، والتغير في تكلفة العلاج للفرد، واندماج أدوات الذكاء الاصطناعي في المسارات الإكلينيكية.

حوكمة تتمحور حول المواطن

الشق الثاني من الأجندة الإنسانية جاء عبر منصة "SAGE" وهي أداة ذكاء اصطناعي لمحاكاة السياسات وتقدير أثرها الاجتماعي - الاقتصادي قبل التنفيذ. الفكرة هنا أن القرارات العامة إن كانت ضريبية أم تعليمية أم صحية، يجب ألا تصاغ في فراغ سياسي أو بعيدا من بيانات الناس، بل تختبر افتراضاتها على نموذج وطني يراعي التفاوت والفئات الهشة والتوزيع الجغرافي، ثم تقاس التكلفة والمنفعة والعدالة قبل أن تصبح قانونا نافذا.

ساهمت المبادرة في تحول استثماري أوسع من خلال إعادة تركيز صندوق الاستثمارات العامة على أصول واستثمارات ذات عائدات أسرع مثل اللوجستيات والمعادن والذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات

هذا التحول من "القرار الحدسي" إلى "القرار المحكوم بالنمذجة" يعني تقليل تكلفة الأخطاء وزيادة كفاءة توزيع الخدمات العامة، ويدخل أدوات "الذكاء السيادي" في المجال التنفيذي لا في العروض التسويقية. كما يوفر أرضية لربط التمويل العام وتمويل الأثر بمؤشرات ملموسة. من الأمثلة: هل خفضت السياسة الفقر التعليمي؟ وأين؟ وكيف توزعت منافع دعم الطاقة أو الإسكان على الشرائح المختلفة؟ باختصار، يعيد "SAGE" تعريف الحوكمة بوصفها علما للإنصاف لا مجرد إدارة إجراءات.

بوصلة الرأي العام والانسان

لا تكتمل الأجندة الإنسانية بلا صوت الناس، هنا برزت "بوصلة أولويات مبادرة مستقبل الاستثمار 2025" (FII PRIORITY Compass 2025) كمقياس نبضي واسع النطاق، ليغطي 60 ألف مشارك من 32 دولة. النتائج بدت صريحة، تركيز على غلاء المعيشة هو الهم الأول عالميا؛ 77 في المئة يريدون إستراتيجيات وطنية للذكاء الاصطناعي، 73 في المئة يضعون طول العمر الصحي أولوية، و75 في المئة يقدمون الطاقة الميسورة على غيرها. في السعودية، رأى 89 في المئة من العينة المشاركة، أن البلاد على "المسار الصحيح"، و87 في المئة عبروا عن رضاهم عن حياتهم.

رويترز

الأهم أن هذه النتائج ليست استفتاء علاقات عامة، بل جدول أعمال اجتماعي هدفه دفع الحكومات والشركات الاستثمارية لقراءته جيدا بهدف تخفيف تكلفة المعيشة، توفير طاقة ميسورة، وسياسات ذكاء اصطناعي مسؤولة، وصحة وقائية عادلة.

تموضع جيو – اقتصادي

إلى جانب المضامين، كان المنتدى نفسه قصة في حد ذاتها، فالحضور المتنوع وعدد المتحدثين والجلسات التقنية الكثيفة، صاغت صورة للرياض بوصفها محورا يلتقي عنده رأس المال العالمي وصناع السياسة والمبتكرون. في هذا، تؤدي "مبادرة مستقبل الاستثمار" وظيفة مزدوجة: تعزيز الثقة الاستثمارية، وتسريع التموضع السعودي في سلاسل القيمة الجديدة، لا سيما في الذكاء الاصطناعي والبيانات والطاقة.

تقع هذه الصورة في سياق تحول استثماري أوسع، من خلال إعادة تركيز صندوق الاستثمارات العامة بعيدا من الاعتماد المفرط على المشاريع العملاقة (Giga projects) التي واجه بعضها تأخيرات، في اتجاه أصول أسرع عائدا مثل اللوجستيات والمعادن والذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات. المغزى ليس تقليل قيمة المشاريع الرمزية، بل تنويع محفظة الأخطار والاقتراب من الصناعات التي تحول الإعلان إلى تدفقات نقدية ضمن أفق زمني أقرب، مع أثر تشغيلي على العمالة والمهارات والتوطين.

الذكاء الاصطناعي… من "قطاع" إلى "بنية تحتية"

هيمنت قضايا الذكاء الاصطناعي على اليومين الأول والثاني من المنتدى، النقاشات طالت الحوسبة العالية الأداء، مراكز البيانات، ذاكرة النطاق العالي (HBM) والذاكرات المتقدمة، سيادة البيانات، والتمويل القابل للتوسعة. هذا ليس سباقا تكنولوجيا معزولا، إنه إعادة تركيب للاقتصاد. فحين تتحول الخوارزميات إلى محرك إنتاجي عابر للقطاعات، تصبح الطاقة والبيانات والحوسبة شبيهة بالموانئ والطرق والسكك في القرنين التاسع عشر والعشرين، أي مرافق سيادية تحدد موقع الدول على خريطة القيمة.

تمتلك السعودية عناصر قوة "الطاقة، القدرة على التمويل، والبنى التحتية" ما يؤهلها لتصبح مزود بنية تحتية للذكاء الاصطناعي إقليميا وعالميا

هنا يتقاطع الخطاب التقني مع أسئلة الوظائف والتعليم والفجوات الرقمية، فكيف تضمن الاقتصادات أن يترجم الاستثمار في المراكز والرقاقات إلى مهارات محلية ووظائف نوعية؟ وكيف تصمم سياسات ذكاء اصطناعي تحد من اللامساواة بدل أن تعمقها؟ الإجابة تبدأ من تعليم محدث، وشراكات جامعية - صناعية، ومشتريات حكومية تربط المحتوى المحلي ونقل المعرفة بالإكمال المالي للمشروعات.

خبرة السنوات المنصرمة تقول إن قوة المنتديات تكمن في فتح الأبواب، لكن الامتحان يبدأ لحظة إطفاء الأضواء: كم صفقة ستتحول من مذكرة تفاهم إلى عقد ملزم؟ كم مشروعا سيدخل حيز الإنشاء أو التشغيل خلال 12-24 شهرا؟ وكيف سيقاس الأثر على المحتوى المحلي، وقدرة الحوسبة المضافة، والطاقة المخصصة للمراكز، وسلاسل القيمة المرتبطة بالرقائق؟ لذلك، تبدو مؤشرات متابعة ما بعد "FII9" حاسمة: عقود توريد طويلة الأجل للرقائق/ ذاكرة النطاق العالي (HBM) واتفاقات "مصانع ذكاء اصطناعي" مع مزودين عالميين. وكذلك تنفيذ اتفاقات شراء الطاقة (PPAs) لمراكز البيانات، مع إنتاج قدرة كهربائية مضافة تعلن مواعيدها بالأرقام وبدء الأعمال الإنشائية، وزيادة الاستثمار الأجنبي المباشر غير النفطي المرتبط بهذه القطاعات.

.أ.ف.ب
ضيوف في جناح شركة الذكاء الاصطناعي السعودية "هيوماين" خلال مؤتمر "مبادرة مستقبل الاستثمار" في الرياض 28 أكتوبر 2025

استخدم منتدى "FII9" كأداة للتموضع الجيواقتصادي، بهدف تعزيز الثقة الدولية بالرياض كنقطة التقاء بين المال والتقنية والسياسة في لحظة تشظي سلاسل التوريد العالمية. فالذكاء الاصطناعي الكثيف الطاقة والموارد، وسلاسل توريد الرقائق في حالة إعادة رسم، حيث تمتلك السعودية عناصر قوة "الطاقة، القدرة على التمويل، بنى تحتية جارية" تؤهلها لتصبح مزود بنية تحتية للذكاء الاصطناعي إقليميا وعالميا.

أما بالنسبة إلى النقلة في السردية الاستثمارية، فيظهر ذلك، اضافة الى المشاريع الضخمة التي تحتاج الى وقت، في التحول نحو أصول قابلة للتنفيذ سريعا، من دون التخلي عن طموح التحولات الكبرى، والأهم التطوير برؤية إطار إنساني واضح، فالوقاية الصحية والسياسات القائمة على الأدلة، ومعها مؤشر أولويات جماهيري يربط القرارات بهموم الناس الفعلية. لكن هناك موانع محتملة، منها تشظي سلاسل توريد الرقائق في سياق التنافس الأميركي - الصيني وما يرافقه من قيود تصدير، وحله يبدأ بديبلوماسية تعمل على اتفاقات "مبادلة منافع" مع منتجي الرقائق والذاكرات والمعدات لخفض أثر القيود وتثبيت سلاسل الإمداد. وبالنسبة الى تحديات القدرة الكهربائية والمهارات المتخصصة لتشغيل "مزارع الحوسبة"، يجب تسريع مسارات التأشيرات التخصصية وبرامج إعادة التدريب الجامعي – الصناعي، وربط المشتريات الحكومية بنسب واضحة لنقل المعرفة.

شراكات تبنى بالثقة

النجاح في إقفال عقود تقنية – طاقية - تمويلية وإثبات القدرة على تحويل "حضور المنصة" إلى أصول منتجة تقاس بالكيلوواط من الطاقة المضافة، والبيتات/ الثانية من القدرة الحاسوبية، ونسب المحتوى المحلي والوظائف النوعية، كلها أمور جعلت هذه النسخة من المنتدى نقطة تحول حقيقية في تموضع الرياض على خريطة الاقتصاد الجديد، وفي صوغ نموذج عربي يجعل من الوقاية الصحية وسياسات قائمة على الأدلة وذكاء اصطناعي منصف مكونات لازدهار يخص الجميع.

.أ.ف.ب
نائب وزير الطاقة الأميركي جيمس دانلي، خلال مشاركته في جلسات "مبادرة مستقبل الاستثمار"، الرياض، 29 أكتوبر 2025

بين الإعلان والتنفيذ تقع المسافة التي تقاس بها القيمة الحقيقية للمنتدى، كم حياة تحسنت؟ كم فرصة عمل تولدت؟ وكم خدمة عامة أصبحت أسرع وأعدل؟

لم تكن الشراكات التي برزت في "FII9" مجرد صور جماعية، بل قنوات تنفيذ. فالتعاون مع منصات وطنية كبرى مثل "إكسبو 2030" الرياض، يعني تحويل شعارات "الإنسان أولا" إلى برامج حضرية وتعليمية وصحية ذات خرائط طريق وموازنات واضحة. كما أن برامج رأس المال المخاطر عبر "FII Ventures" تكمل الحلقة بتمويل حلول قابلة للتوسعة في الصحة الرقمية والشمول المالي والخدمات العامة، بينما توفر الشراكات مع لاعبين دوليين (منها شركات دفع وبنى رقمية) جسور السوق والتشغيل التجريبي.

font change

مقالات ذات صلة