الناقد خيري دومة لـ"المجلة": ليس لي مرجعية أنطلق منها بشكل أيديولوجي

بعد حصوله على جائزة الدولة المصرية في الآداب

خيري دومة

الناقد خيري دومة لـ"المجلة": ليس لي مرجعية أنطلق منها بشكل أيديولوجي

يحتل الدكتور خيري دومة، أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة القاهرة، مكانة بارزة بين النقاد العرب، إذ ينظر إليه كأحد العقول النقدية التي ساهمت في إحياء المشهد الثقافي وإضفاء رؤى جديدة على الخطاب الأدبي. وعلى امتداد مسيرته، جمع بين التجربة الأكاديمية في مصر وخارجها، كما أنه شغل منصب نائب مدير المركز القومي للترجمة، وأدار مركز تعليم اللغة العربية للأجانب بجامعة القاهرة، كما حمل خبرته إلى الشرق الأقصى بالتدريس في إحدى الجامعات اليابانية.

دومة تميز بإصداراته النقدية الرصينة التي حازت تقدير الأوساط الأدبية، كما فاز كتابه "أنت/ ضمير المخاطب في السرد العربي" بجائزة أفضل كتاب في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2017، كما فاز هذا العام بجائزة الدولة التقديرية في الآداب، لتتأكد مكانته كأحد المجددين في قراءة النصوص السردية. كما أضاف إلى المكتبة العربية عددا من المؤلفات النقدية المهمة مثل "تداخل الأنواع في القصة المصرية المعاصرة"، و"عدوى الرحيل/ موسم الهجرة إلى الشمال ودراسات ما بعد الاستعمار".

في هذا الحوار مع "المجلة"، يفتح د. خيري دومة آفاقا أكثر سعة للإجابة عن أسئلة جوهرية تتعلق بالأدب والنقد والترجمة والجوائز وغيرها من الموضوعات.

كيف تلقيت خبر فوزك بجائزة الدولة التقديرية في الآداب؟ وكيف تنظر إلى دور الجوائز الأدبية في العالم العربي؟

كانت فرحتي كبيرة وحقيقية عندما تلقيت خبر فوزي بالجائزة، أولا لأنها جائزة من بلدي وباسمها (جائزة الدولة)ـ وثانيا لأنها تعني أن أحدا في هذا العالم تابعك وأدرك ما قدمته على مدار عمرك، وقرر أن يرشحك لجائزة. هذه الجائزة لها وزن ومعنى وتستحق كل فرحة ممكنة، رغم ما نعيشه من مأساة نراها كل يوم على وجوه أطفال غزة وشيوخها ونسائها. وأنا في الحقيقة أعمل الآن وأستكمل عملي بتحفيز من هذه الجائزة، وعندي مشاريع بحثية أتمنى أن أنجزها، وأعمال وتلاميذ أتمنى مساعدتهم في تحقيق مشروعاتهم.

محاور

من وجهة نظرك، ما أبرز محاور مشروعك النقدي؟

قبل الحصول على الجائزة بأيام كانت حلقة القاهرة النقدية التي تنعقد في بيت الشعر بالقاهرة، نظمت ندوة موسعة للبحث في مشروعي النقدي. والحقيقة أنه لا أحد يستطيع أن يتحدث عن مشروعه النقدي بسهولة، وربما لا أحد يستطيع أن يستبين له مشروعا نقديا بملامح واضحة، ربما يستطيع آخرون أن يتبينوا هذا المشروع بعد مراجعة ما قدمه الشخص وتقييمه.

جيلنا ربما كان معنيا بمزيد من التدقيق في آليات التأثير الأدبي النابع من الشكل والتقنية، وفي الوقت نفسه الحفاظ على ما تبقى من البعد التقييمي والتوصيلي للنقد الأدبي

يمكن القول إنني ضربت في طرق متعددة وحاولت الوصول إلى مناطق جديدة، أو كانت جديدة في البحث، مثل تداخل الأنواع في أوائل التسعينات، ومثل ما بعد الاستعمار ودراسات النهضة في القرن التاسع عشر، ومثل دراسات السرد الخاصة، كالتركيز على ضمير المخاطب وما انطوى عليه من رؤية في السرد العربي على مدار تاريخه.

يمكن القول أيضا إنني حاولت قدر الإمكان أن تكون كتابتي سهلة الوصول إلى القارئ العام رغم موضوعاتها التخصصية الدقيقة، وبذلت في سبيل ذلك جهدا كبيرا لكي أوازن بين مدى الجدية والعمق من ناحية، ومدى السهولة والوضوح من ناحية أخرى.

وقد لاحظ زميل لي خلال هذه الحلقة النقدية، وهو الدكتور سامي سليمان، اهتماما خاصا في أعمالي بفكرة الهوية، بمعانيها وتجلياتها ومستوياتها المختلفة، وهو ما يدفعني الآن كي أجمع بعض دراساتي عن الرواية العربية تحت هذا العنوان الذي يربط الرواية بالهوية.

 أنت واحد من الجيل التالي لجيل الأساتذة من النقاد المعاصرين، عبد المنعم تليمة، وجابر عصفور، وإبراهيم فتحي، ومحمد برادة، وفيصل دراج، وصلاح فضل وغيرهم، فماذا قدم جليكم حتى الآن نقديا؟

جيلنا حاول ولا يزال يحاول بالطبع أن يرث الجيل الأكبر وأن يصير امتدادا عميقا له. نجحنا أحيانا ولم ننجح أخرى. كان جيل أساتذتنا يحرث أرضا بكرا ويقدم دراسات مسحية موسعة لفنون الأدب والنقد التي لم تدرس من قبل. أما جيلنا وإن كان أكثر كسلا، فإنه يسعى إلى شق طريقه في زمن مختلف وتحت ظروف مضطربة حقا. جيلنا ربما كان معنيا بمزيد من التدقيق في آليات التأثير الأدبي  النابع من الشكل والتقنية، وفي الوقت نفسه الحفاظ على ما تبقى من البعد التقييمي والتوصيلي للنقد الأدبي.

 Safin HAMID / AFP
زوار يمرون أمام ملصق يصوّر الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ خلال معرض أربيل الدولي للكتاب

زمن الرواية

هل يمكنا الآن القول إن هذا العصر الأدبي العربي الحالي عصر رواية بامتياز، إذ غطى هذا الأسلوب على أنماط الأدب الأخرى الشعرية والنثرية من حيث الإنتاج والاهتمام؟

ما من شك أن الرواية احتلت ولا تزال تحتل مكانا كبيرا في عصرنا، إلى الدرجة التي دفعت أستاذي جابر عصفور عام 1999 إلى إصدار كتابه "زمن الرواية" الذي أطلق هذه الصيحة متتبعا ما بدأه نجيب محفوظ عام 1945 في الرد على العقاد. الرواية في الحقيقة فن جذاب ومتشعب وقابل للتشكل بصور مختلفة ويعطي مساحة واسعة للعب والتنويع، ولهذا فإنه استحق الاهتمام والتركيز، وصارت تعقد له المؤتمرات، وتنظم له الجوائز، وتحيط به حفلات التوقيع والندوات... إلخ.

لكن هذا طبعا لا ينفي الدور والرؤية اللذين لا تزال تنطلق منهما الفنون الأخرى، خصوصا الشعر والقصة القصيرة والمسرحية. وبصفتي واحدا ممن تركز عملهم على أنواع الأدب، أستطيع أن أقول لك إن أحد هذه الفنون لا يغني عن الآخر، لأن كل واحد منها يلبي حاجة مختلفة لدى القارئ ولدى المبدع أيضا. ولا تزال قصيدة النثر على ازدهارها، ولا يزال كتابنا ينشرون مجموعات القصص المؤثرة.

حدثنا عن المرجعية النقدية التي تستند إليها في دراسة النصوص الروائية النثرية والقصصية؟

لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال إلا في الإطار العام، فأنا ليس لي مرجعية أدافع عنها وأنطلق منها بشكل أيديولوجي واضح. فقط لدي دافع عميق يدعوني إلى ربط الأدب بالمجتمع الذي أنتجه، وبالدفاع عن الإنسانية والعدل والجمال.

 ورغم أني مثل أبناء جيلي مهتم بالشكل وبالتقنيات والأساليب التي تعطي الأدب جماله، فإنني أبحث دائما عن الجدوى وعن الرؤية، حتى لو كانت غير واضحة. وقد انتقل لي هذا الحس العام من أساتذة كبار تعلمت منهم كعبد المحسن طه بدر وعبد المنعم تليمة وجابر عصفور وسيد البحراوي، وكلهم في النهاية يمكن أن تطلق عليهم صفة النقاد الاجتماعيين.

غلاف كتاب"أنت:ضمير المخاطب في السرد العربي"

رحلة مع النقد

صدر لك العديد من الدرسات النقدية من بينها "تداخل الأنواع فى القصة المصرية المعاصرة"، و"عدوى الرحيل/ موسم الهجرة للشمال ودراسات ما بعد الاستعمار"، و"أنت ـ ضمير المخاطب في السرد العربي"، حدثنا عن هذه الرحلة الإبداعية؟

كل واحد من هذه الكتب التي أشرت إليها كان جزءا من رحلتي في البحث، وسعيي للحصول على صوتي الخاص في النقد. "تداخل الأنواع" كان أطروحتي في الدكتوراه، ومنه نبعت كل المشاريع التالية تقريبا.

رغم أني مثل أبناء جيلي مهتم بالشكل وبالتقنيات والأساليب التي تعطي الأدب جماله، فإنني أبحث دائما عن الجدوى وعن الرؤية، حتى لو كانت غير واضحة

وقد قرأت فيه عددا كبيرا من نصوص القصة القصيرة المصرية منذ عام 1960 حتى عام 1990، وحاولت تصنيفها وإدراك ما في هذا التصنيف من صعوبات ناتجة من ضيق الكتاب بالإطار الصارم لفكرة النوع، وكيف لعب هؤلاء الكتاب بحثا عن طريقتهم الخاصة في كتابة القصة القصيرة، مستفيدين من الدراما والشعر والرواية والحكاية الشعبية والمقالة، وكيف أدى هذا كله إلى نصوص لها مذاقها الخاص، وكيف استوعب نوع القصة القصيرة منذ بداياته هذه التنويعات المختلفة وبدت طبيعية في نسيجه المركب.

AWAD AWAD / AFP
جندي إسرائيلي يوجه سلاحه نحو أطفال فلسطينيين خلال مواجهات في حي العيسوية بالقدس الشرقية عام 2000

أما "عدوى الرحيل" فكتيب صغير أنجزته خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 وما بعدها، ثم خلال غزو أميركا للعراق عام 2003. وتقوم فكرة البحث على إدراك ما طرحه منظّرو ما بعد الاستعمار، ومعظمهم من أبناء العالم الثالث، من انشقاق للهوية لا سبيل إلى التئامه. في هذا البحث قدمت وجهة نظر انتقادية لهؤلاء النقاد مع تقديري الخاص لجهودهم، وقرأت على ضوء أفكارهم الطريقة التي انبنت بها رواية "موسم الهجرة للشمال" للكاتب السوداني الطيب صالح، وكيف سكن هاجس الرحيل إلى الغرب أرواح المستعمرين وطاردهم حتى في بلدانهم التي لم يغادروها. كانت الرواية بالنسبة إلي دراسة استكشافية سبقت في عمقها وطروحاتها ما قدمه نقاد ما بعد الاستعمار في مرحلة تالية.

REUTERS/Faleh Kheiber
دبابة للجيش العراقي تسير في أحد شوارع بغداد خلال الغزو عام 2003

كتاب "أنت"، كان وقوفا، خاصة عند نغمة في السرد نادرة، وهي السرد بضمير المخاطب. وقد تتبعت الفكرة وحضورها في الثقافة العربية القديمة، وتجلياتها المختلفة في أدبنا الحديث عند أدباء كبار من أمثال طه حسين ويوسف إدريس وكثيرين من كتاب الستينات وكثيرين من أبناء الجيل الحالي، ولاحظت كيف تصاعد هذا الحضور الخاص لضمير المخاطب في السرد المعاصر، ليس في الأدب العربي وحده وإنما في آداب أخرى كثيرة.

 هناك ارتباط وثيق بين السينما والرواية في العالم العربي، فهل تجد أنها عبرت بحق عن وجهة نظر الروائيين العرب في الكتابة عن مجتمعاتهم وحياتهم المختلفة؟

السينما بالطبع فن مختلف عن الرواية رغم ما بينهما من مشابه كثيرة، ورغم تبادلهما التأثير والتأثر. لهذا استخدمت الرواية كثيرا من تقنيات السينما وانبنى كثير من الأفلام على آليات روائية عبرت عن تعقيد العالم الروائي بطريقتها. ويمكن المرء أن يعود لطرح نجيب محفوظ خصوصا في هذا الصدد، فالرجل يعترف من البداية أن ما تقدمه السينما فن بذاته، بصرف النظر عن علاقته برواياته، ولم يطالب السينمائيين بالتزام نصوصه، لأن أدواتهم مختلفة، ولم يكن غريبا أن ينخرط هو نفسه في عالم السينما ويتعلم منه.

حرفة أم رؤية؟

هل النقد حرفة أكاديمية أم توجه رؤيوي في الحياة؟وكيف أثر النقد وتخصصك الأكاديمي في شخصيتك؟

الشيء المؤكد أن عملي بالنقد وقراءة النصوص ترك أثرا عميقا في حياتي وعلاقتي بما يحيط بي عموما. فأنا في الحقيقة لم أتخذ النقد حرفة، وإنما وجدت فيه طريقا للتعبير عن نفسي وعن آرائي وعن اختياراتي. لا أنظر إلى النقد بصفته حرفة، مع أنه يمكن أن يكون كذلك بالفعل. كل بحث كتبته كان استجابة خاصة لدافع ذاتي، لا أستطيع أن أكتب بمجرد الطلب، حتى لو كتبت بالطلب فأنا أحاول أن أجد في ما طلب مني، زاوية اهتمام خاصة تربط الموضوع بدوافعي الذاتية هذه. قرأت مثلا كتاب التوحيدي، "الإشارات الإلهية"، ليس فقط لأن الكتاب أطول نص بضمير المخاطب في النثر العربي، وإنما لأن الكتاب أعجبني وتركت شخصية أبي حيان بصمتها على روحي. وكتبت مثلا عن رواية "البيضاء" ليوسف إدريس، ليس فقط لأنه ثارت حولها خصومات سياسية ونقدية، وإنما لأنني اكتشفت في إدريس ذلك النزاع الأصيل بين المرء ونفسه، بين ظاهره وباطنه، بين قصة الثورة وقصة الحب كما عبر عنها في هذه الرواية التي جذبتني.

هل تثق في النقد كمكمل للإبداع أم أن العلاقة بينهما ظلت مشبوهة إلى الآن؟

العلاقة بين النقد والإبداع ليست مشبوهة، على العكس هي علاقة تكامل وتعاون. الإبداع هو المادة الأساس التي يعمل عليها النقاد، والأهم دائما هي العلاقة التي تربط النقد والإبداع معا بالجمهور. حاول النقاد على الدوام أن يلعبوا دور الوسيط الشارح المضيء، نجحوا أحيانا، استوعبوا وأدركوا، وفشلوا أحيانا حين تصوروا أن عملهم يقتضي بعض التعقيد لكي يحظى بالتقدير اللازم. النقد مستقل ويحظى بالوجود والتقدير بمقدار ما يكون ممتعا كالإبداع، وبمقدار ما يكون علميا ومحيطا بالصورة من جميع جوانبها، وكاشفا عن الجهد والعمل في هذه الإحاطة.

الناقد مبدعا

انتقل بعض النقاد إلى كتابة الرواية. ما أهمية النص الذي يكتبه الناقد؟ وهل يمكن اعتباره محاولة لدحض مقولة "الناقد مبدع فاشل"؟

ربما كان الناقد مبدعا بطريقة ما، بصرف النظر عن فشله أو نجاحه. الناقد والأديب معا يسعيان إلى فهم العالم والتعبير عنه، كل بطريقته.

النقد مستقل ويحظى بالوجود والتقدير بمقدار ما يكون ممتعا كالإبداع، وبمقدار ما يكون علميا ومحيطا بالصورة من جميع جوانبها

 وكثير من النقاد كتبوا أعمالا إبداعية ممتازة، ليس فقط في السياق العربي وإنما في السياق العالمي كله، وأبرز مثل على ذلك الشاعر ت. إس إليوت . في السياق العربي لا تستطيع أن تغفل ما قدمه محمد برادة وشكري عياد وغيرهما من النقاد الذين دفعهم الأدب نفسه إلى حقل النقد. الناقد والأديب معا يستخدمان اللغة ويلعبان بها ويطوعانها لخدمة أهدافهما، ومهما تكن المسافة واسعة بين الناقد والأديب، فالصلة بينهما قوية.

CHRIS BACON / AFP
صورة غير مؤرخة للكاتب الأمريكي المولود في بريطانيا تي. إس. إليوت، الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1948

البعض يقول إن الترجمة تتخذ ميولا قد تؤثر سلبا في تقديم المنتج الثقافي العربي للغرب ومنهم لويس عوض ومحمد مندور وغيرهما، ما رأيك في هذا القول؟

في كل المراحل لعبت الترجمة دورا عميقا في تطور الثقافات وتبادلاتها، وأنا أنتمي إلى قسم اعتنى أساتذته بالترجمة عناية خاصة وأعطوها من جهودهم ووقتهم الكثير. وقد وجدتني مدفوعا إلى معرفة ما يفكر فيه العالم في ما يتعلق ببحوثي، ولم أستطع إنجاز أي بحث دون هذا النظر الضروري إلى منجز الثقافات الأخرى، وعلمتني الترجمة الكثير وطبعت عملي وشخصيتي بلون من التسامح والتعددية والأفق المتسع لتقبل ما يفكر فيه الآخرون المختلفون.

غلاف كتاب"سعد مكاوي كاتبا للقصة القصيرة"

-كيف تقيم استفادة النقد العربي من المناهج النقدية التي تبلورت في الغرب؟ وهل ترى في الأفق نظرية نقدية عربية؟

تبعية النقد في العالم العربي وفي معظم العالم الثالث نابعة من التبعية الثقافية الأوسع، وقد ناقش كثيرون مسألة التبعية هذه في السياسة وفي النقد أيضا، كما فعل أستاذي سيد البحراوي في كتابه "التبعية الذهنية". معظم مصطلحات النقد وتاريخ الأدب وغيره مأخوذة من النقد الغربي وصارت هي المصطلحات التي يستخدمها الجميع، وصار هذا أمرا طبيعيا. الأهم دائما هو أن نستوعب ونعيد إنتاج ما ننقله بحيث يصبح نابعا من عقولنا ومعجونا في تربتنا. الحلم بالعودة إلى حالة ما قبل الاستعمار، حالة الصفاء الأول الخالي من التبعية، حلم مستحيل حقا، وعلينا فقط أن نكيف الأشياء بحيث تناسبنا وتعمل لصالحنا وليس ضدنا. صارت الثقافة كما صارت العلوم والفنون ذات طابع إنساني مجاوز للثقافات. المهم دائما هو استيعابها لا تقليدها، وهذا ما يسمح بقدر لا بأس به من الإضافة النظرية والعملية، لأننا على الأقل نعمل في لغة أخرى وعلى مادة أدبية مختلفة.

هل تلوح في الأفق بوادر جيدة لخروج جيل مبدع قوي، وجيل آخر ناقد واع في العالم العربي؟

لا شك أن في بلادنا – خصوصا في الرواية- إبداعا أوسع وأغزر وأعمق بكثير من أن تستوعبه أقلام النقاد، خصوصا مع تراجع الحركة الثقافية والأكاديمية التي كانت تنتج لنا نقادا قادرين على المتابعة والإضاءة. لكن هذا لا يعني أن الساحة خالية من النقد.

نقد المجاملات كان موجودا في كل المراحل وهو جزء من طبيعة الحياة ومفيد أحيانا ومفهوم، لكن ما يبقى منه قليل، ربما تبقى منه على الأقل قيمته التوثيقية لمن يمرون بعدنا

 هناك جيل حقيقي كان يتشكل ويعمل في ظل النقاد الكبار الذين رحلوا كصلاح فضل وجابر عصفور وغيرهما. هم في الحقيقة تلاميذ هؤلاء لكنهم يحاولون أن يشقوا لهم طريقا جديدا يلائم عالمهم المتغير الصعب، تساعدهم في ذلك أدوات جديدة وإتاحة أوسع للمعارف والكتب والحوارات عبر الإنترنت ووسائطه.

REUTERS/Shokry Hussien
طلاب يسيرون قرب أحد مباني جامعة القاهرة في العاصمة المصرية

هذه الغزارة في إنتاج الرواية بصورها المختلفة بقدر ما تعكس من الخصوبة والأمل، ربما تشير أيضا إلى قدر من الاضطراب في تقدير قيمة الأدب ووظيفته وأشكاله. وكلي أمل في أن هناك حركة تصفية طبيعية للإبداع وللنقد أيضا ستؤدي في النهاية إلى بقاء المفيد والممتع.

نقد المجاملات كان موجودا في كل المراحل وهو جزء من طبيعة الحياة ومفيد أحيانا ومفهوم، لكن ما يبقى منه قليل، ربما تبقى منه على الأقل قيمته التوثيقية لمن يمرون بعدنا.

font change