ترمب... وداعا لنظام التجارة العالميhttps://www.majalla.com/node/328114/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AA%D8%B1%D9%85%D8%A8-%D9%88%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%A7-%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A
يمكن للصين عبر منعها تصدير المعادن الأرضية النادرة والمكونات المغناطيسية المتقدمة، أن تؤثر إلى حد كبير على الشركات الأوروبية المنتجة للمعدات العسكرية، وتعيق بالتالي الجهود الأوروبية الهادفة إلى مساعدة أوكرانيا في حربها ضد أصدقاء الصين في روسيا.
الآن، وفي خضم التوترات العسكرية في شرق آسيا، تقوّض المنافسة الشرسة بين الولايات المتحدة والصين النظام التجاري العالمي، الذي كانت الولايات المتحدة قد أنشأته. فقد عززت الولايات المتحدة، بعد الحرب العالمية الثانية، قواعد تجارية منفتحة على العموم، لا سيما مع أوروبا وآسيا وأفريقيا، بغية تجنب كارثة اقتصادية أخرى كتلك التي وقعت في ثلاثينات القرن الماضي.
أما الاستثناء الأكبر لهذا الانفتاح التجاري، فهو القيود الأميركية التي فرضت على الصادرات إلى الاتحاد السوفياتي، والتي شملت سلعا عالية التقنية، بدءا من معدات حقول النفط وصولا إلى الطائرات وتكنولوجيا المعلومات. وعلى نحو مماثل، خنقت الولايات المتحدة تدفقات السلع التجارية والاستثمارات إلى خصوم مثل سوريا وإيران لعقود، ومؤخرا ضد روسيا الرئيس بوتين. كما فرضت إدارة ترمب الأولى، ثم إدارة بايدن، على الصين ضوابط أكثر صرامة ورسوما جمركية أعلى بشكل مضطرد، ردا على نجاح الصين في التصدير إلى الولايات المتحدة، إضافة إلى تنامي قدراتها التكنولوجية وتزايد قدراتها العسكرية.
طوّر الاقتصاد الأميركي تقنيات مبتكرة ومصادر طاقة جديدة بحيث أصبح في عام 2025 أقل عرضة لضغوط الدول المصدرة للنفط
لم تطلب إدارة بايدن إذنا من منظمة التجارة العالمية لتنفيذ إجراءاتها التي تقيد التجارة مع هؤلاء الخصوم، مؤكدة أن الأمن القومي يبرر تلك القيود. ولم يلقِ ترمب بالاً لمنظمة التجارة العالمية قط.
في الوقت نفسه، ظلت الصين طيلة عقود، تتستر وراء وضعها الرسمي كدولة نامية في منظمة التجارة العالمية لفرض قيود على التجارة والاستثمار، بما فيها مساعدة قطاعات وشركات محددة على النمو. أما مطلبها من المستثمرين الأجانب بأن يشاركوا التكنولوجيا المتقدمة والخبرات الحساسة مع الشركات الصينية، فقد أثار على الأخص غضب الولايات المتحدة ودول أوروبية.
ضربتان للأميركيين
بدأت الخلافات بين واشنطن وبكين في مسألة التجارة قبل عقدين من الزمن، ولكن في عام 2025 فاجأت الصين الأميركيين عندما كشفت لهم مدى ضعف الاقتصاد الأميركي الآن أمام الإجراءات الصينية. أولا، عندما أضر قرار الصين، بوقف وارداتها من فول الصويا الأميركي، بالمزارعين الأميركيين في جميع أنحاء الولايات، التي تعد أساسية لقاعدة ترمب السياسية. وعد ترمب بأموال حكومية لتعويض المزارعين عن خسائرهم المالية، ولكن التعويض سيتأجل. وأغلقت معظم مكاتب الحكومة الفيدرالية في الولايات المتحدة، بسبب الخلافات السياسية الحادة في واشنطن حول ميزانية الحكومة.
إلى ذلك، أظهرت الصين لترمب أنه، وكما يقول المثل العربي، "ضربتان على الرأس تؤلمان". ففي الربيع الماضي، أعاقت بكين صادراتها من المعادن النادرة والمكونات المغناطيسية المتقدمة المصنوعة منها، إلى الشركات الأجنبية التي تستخدم هذه المعادن في الأنظمة الإلكترونية المتقدمة الخاصة بالسيارات والطائرات الحربية مثل "إف - 35" وصواريخ "كروز" والطائرات العسكرية المسيّرة.
الرئيس الأميريكي دونالد ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ يتصافحان بعد محادثاتهما في قاعدة جيمهاي الجوية بكوريا الجنوبية، 30 أكتوبر 2025
تصدر الصين 70 في المئة من الإمدادات العالمية من المعادن النادرة و90 في المئة من المكونات المغناطيسية المتقدمة المصنوعة من هذه المعادن. وفي ربيع العام الماضي، أدى إيقاف الصين جميع صادراتها من هذه المكونات المغناطيسية إلى شركات السيارات الأميركية، إلى إغلاق بعض المصانع الأميركية إلى أن سمحت الصين مجددا بتصدير كميات محدودة منها. وفي أكتوبر/تشرين الأول، أعلنت بكين عن نظام ترخيص صارم جديد، قد يوقف تصدير المكونات المغناطيسية المتقدمة مجددا، بالإضافة إلى وقف تصدير التكنولوجيا الصينية المستخدمة في معالجة المعادن النادرة وإنتاج المكونات المغناطيسية المتقدمة المصنوعة من هذه المعادن.
تشبه اللوائح الصينية الجديدة إلى حد كبير اللوائح الأميركية التي تقيد، لا بل تمنع في كثير من الأحيان، مبيعات التكنولوجيا المتقدمة إلى كل من روسيا والصين.
يذكرنا هذا الضعف الراهن، بضعف أميركا أمام الصدمات التي تلقتها في سوق النفط العالمية في السبعينات وأوائل الثمانينات. غير أن الاقتصاد الأميركي طور في تلك الفترة تقنيات مبتكرة ومصادر طاقة جديدة بحيث أصبح في عام 2025 أقل عرضة لضغوط الدول المصدرة للنفط.
ردت إدارة بايدن، على التقدم الصيني، باختيارها قطاعات محددة وحتى شركات محددة لتحصل على إعانات حكومية لتنمية وتوسيع الإنتاج في قطاعات مثل أشباه الموصلات والرقائق والطاقة المتجددة والمركبات الكهربائية. أما ترمب فاستبعد الطاقة المتجددة والمركبات الكهربائية من قائمته، ولكنه أضاف إليها الشركات العاملة في سوق المعادن النادرة.
بما أن الاقتصادين الصيني والأميركي قد طورا على مدار أربعين عاما روابط وثيقة في سلسلة التوريد، فإن تفكيك هذه الروابط تماما ينذر بكارثة اقتصادية أكثر حدة
تستخدم واشنطن هذه الإعانات من أجل الاستغناء في النهاية عن الواردات من الصين. وهذا ينتهك قواعد منظمة التجارة العالمية الأساسية، لكن واشنطن لن تعير اهتماما لذلك، متذرعة بأن الأمن القومي يتطلب هذا البرنامج.
يوجد في أميركا من قبل مصنعان ينتجان بعض أنواع مغناطيسات المعادن النادرة، بما فيها مصنع ينتج مغناطيسات تلبي المعايير العسكرية. وهناك المزيد من المصانع ومشاريع التعدين قيد التطوير. ولكن بما أن زيادة الإنتاج إلى المستوى الذي يحتاجه الاقتصاد الأميركي ستستغرق وقتا، فلا تزال أميركا بحاجة إلى استيراد المعادن النادرة والمكونات المغناطيسية المتقدمة من الصين، إلا أن التفوق الصيني الحالي في تقنيات معالجة المعادن وإنتاج المكونات المغناطيسية قد لا يدوم. وتشير التحركات الصينية الأخيرة التي تهدف للحد من تصدير تقنيات المعادن الأرضية النادرة، إلى أن الصين تفكر في عرقلة الاستراتيجية الأميركية في هذا القطاع البالغ الحساسية، وعلى الأخص تداعياته العسكرية. بمعنى ما، يشبه الضعف الصيني في مجال أشباه الموصلات والرقائق، ضعف أميركا وأوروبا أمام التفوق الصيني في مجال المعادن الأرضية النادرة والمكونات المغناطيسية المصنوعة منها. ويتوقع بعض المحللين الاقتصاديين أن تتبلور بنية اتفاق بين واشنطن وبكين في مفاوضاتهما المقبلة. فما تريده الصين من واشنطن، هو تخفيف قيودها على صادراتها من التكنولوجيا العالية إلى الصين، وعلى الأخص صادراتها من أشباه الموصلات المتقدمة والرقائق وتكنولوجيا الإنتاج. بينما تريد واشنطن من الصين في المقابل، تخفيف قيودها المفروضة على صادرات المعادن النادرة والمكونات المغناطيسية المتقدمة. وهناك مؤشرات على أن إدارة ترمب مستعدة للتحلي بالمرونة. ويوافق بعض مستشاري ترمب على حجة رئيس شركة "إنفيديا" للتكنولوجيا العالية بأن تصدير الرقائق الأميركية المتقدمة إلى الصين، سيضمن اعتماد الصين على أشباه الموصلات الأميركية بدلا من أن تبني الصين بنفسها قطاعا قويا لأشباه الموصلات. وقد وافق ترمب شخصيا في أغسطس/آب، على السماح لشركة "إنفيديا" بتصدير رقائق متقدمة تُستخدم في الذكاء الاصطناعي. (جاء الاتفاق بشرط ترمب المعتاد، وهو أن تشارك "إنفيديا" أرباح مبيعات هذه الرقائق مع واشنطن). وإذا رفضت الصين تقديم تنازلات في قيودها على المعادن النادرة والمكونات المغناطيسية المتقدمة، فقد ينفذ ترمب تهديده برفع الرسوم الجمركية إلى 100 في المئة أو أكثر. وبما أن الاقتصادين الصيني والأميركي قد طورا على مدار أربعين عاما روابط وثيقة في سلسلة التوريد، فإن تفكيك هذه الروابط تماما ينذر بكارثة اقتصادية أكثر حدة.
ما الذي يحل محل النظام القديم؟
حتى لو توصلت واشنطن وبكين إلى تسوية خلال محادثاتهما في نوفمبر/تشرين الثاني بعد قمة ترمب- شي في كوريا الجنوبية نهاية أكتوبر/تشرين الأول، وتجنبتا بالتالي حربا تجارية شاملة، فمن الصعب علينا أن نتصور أن الولايات المتحدة القلقة والصين الأكثر حزما، ستعودان إلى بيئة التجارة التي سادت قبل خمسة عشر أو عشرين عاما.
تسعى الشركات الصينية- إدراكا منها للتغير الدائم الذي لحق ببيئة التجارة مع الولايات المتحدة- إلى المحافظة على وصولها إلى الأسواق الأجنبية الأخرى وتحسينه
وها هو مايكل فرومان، رئيس المجلس الأميركي للعلاقات الخارجية ونائب مستشار الأمن القومي للرئيس أوباما، بعد أن قيّم استخدام السياسة التجارية كأداة لإلحاق الضرر باقتصادات الدول الأخرى، كتب في أغسطس في مجلة "فورين أفيرز" المؤثرة، قائلا إن نظام التجارة العالمي الذي عهدناه قد انتهى، وإن منظمة التجارة العالمية باتت خارج الخدمة فعليا. وليس من الواضح ما الذي سيحل محل النظام الذي تديره منظمة التجارة العالمية، ولكن هناك بعض المؤشرات التي تبين كيف ينظر ترمب لمستقبل التجارة. فالهدف الأميركي يتمثل في استخدام القيود التجارية كحافز لتشجيع الاستثمارات الجديدة في الولايات المتحدة، وخلق مزيد من فرص العمل في البلاد. لذا لم يلغِ ترمب تكتل أميركا الشمالية التجاري، إنما حد من نطاقه. وتهدف الرسوم الجمركية التي فرضها على الواردات من كندا والمكسيك في قطاعات مثل السيارات والصلب والألومنيوم والأخشاب، إلى حماية عمليات الشركات الأميركية في الولايات المتحدة، كي تتمكن من توظيف مزيد من العمال الأميركيين. وستستمر التجارة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، ولكن بمستويات منخفضة، مع ارتفاع الأسعار بالنسبة للمستهلكين وانخفاض أرباح الشركات. وعلى نحو مماثل سيقبل ترمب اتفاقيات تجارية ثنائية خاصة مع بعض الدول الأخرى، مثل اليابان وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة. وسيخفض الرسوم الجمركية على بعض، وليس جميع، الواردات من الدول التي توقع اتفاقيات ثنائية خاصة مع واشنطن، في مسعى حثيث إلى إجبار الشركات الأجنبية على الاستثمار داخل الولايات المتحدة.
إيلون ماسك في يوم إطلاق طراز جديد لتسلا في شنغهاي
وفي الوقت الذي لا يرى فيه ترمب فوائد تذكر من نظام التجارة العالمي، تؤيد الصين الحفاظ عليه حتى يسمح لصادراتها بالدخول إلى أكبر عدد ممكن من الأسواق. وتظهر بكين تأييدها لمنظمة التجارة العالمية بانتظام في تصريحاتها العامة. وقد أعلنت الصين في سبتمبر/أيلول، خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، أنها ستتخلى طواعية عن وضعها كدولة نامية، وهو وضع كان يعفيها من بعض الممارسات التجارية الاعتيادية التي تطبقها منظمة التجارة العالمية. ووصف المدير العام لمنظمة التجارة العالمية خطوة الصين هذه بأنها خطوة مهمة في إصلاح المنظمة.
تسعى الشركات الصينية- إدراكا منها للتغير الدائم الذي لحق ببيئة التجارة مع الولايات المتحدة- إلى المحافظة على وصولها إلى الأسواق الأجنبية الأخرى وتحسينه، وهناك مؤشرات على تحقيقها بعض النجاح. فقد ذكرت "رويترز"، أن الصادرات الصينية حول العالم، ارتفعت في أغسطس 2025 بنسبة 8 في المئة مقارنة بأغسطس 2024، على الرغم من تقلص الصادرات إلى الولايات المتحدة.
يعتقد بعض المراقبين أن بكين قد تشترط خفض الدعم الأميركي لتايوان، كجزء من صفقة لتخفيف القيود على صادراتها على المعادن النادرة
أنفقت الصين مبالغ طائلة في بناء شركات في قطاعات عديدة، من الصلب إلى الاتصالات إلى الطاقة المتجددة. لكن ليس كل ما في الاقتصاد الصيني يسير على ما يرام. فعدد الشركات كبير جدا يضاف إليها قدرة إنتاجية هائلة في قطاعات مثل السيارات الكهربائية والصلب، وهو ما يؤدي إلى منافسة شرسة في السوق المحلية، في وقت لا يزال فيه المستهلك المحلي يعاني من انهيار سوق العقارات. كما أن الشركات الصينية لا توظف عمالا جددا. وتواجه الشركات الصينية التي تبيع منتجاتها في الخارج اتهامات بالاستفادة من الدعم الحكومي، كي تبيعها بأسعار زهيدة وغير عادلة. وبالتالي، لن تجد الصين سوى عدد قليل من الأسواق المفتوحة أمامها في أميركا الشمالية أو أوروبا.
في الوقت نفسه، لا تظهر الصين في عهد الرئيس شي أي مؤشر على تقليص دور الحكومة في إدارة الاقتصاد. إذ تتمثل استراتيجيته في ضمان بقاء الصين مصدرا رئيسا لواردات الدول الكبرى، حتى في الوقت الذي تعمل فيه على بناء قدراتها الإنتاجية في قطاعات حيوية، أخصها أشباه الموصلات والرقائق، لئلا تكون الصين عرضة للاضطرابات التي قد تلحق باقتصادها نتيجة للقيود التجارية. إلا أن بعض هذه القطاعات، ومنها قطاع الرقائق، لا تزال أقل كفاءة وتنافسية، مما يشكل تحديا أمام الصين. لذلك، ستواصل بكين الضغط على الولايات المتحدة لتخفيف القيود المفروضة على صادرات التكنولوجيا المتقدمة.
يأتي تزايد استخدام التجارة كسلاح لإلحاق الضرر بالخصم، في ظل تنامي المنافسة العسكرية بين الصين والولايات المتحدة في شرق آسيا، وعلى الأخص في تايوان وبحر الصين الجنوبي. ويعتقد بعض المراقبين أن بكين قد تشترط خفض الدعم الأميركي لتايوان، كجزء من صفقة لتخفيف القيود على صادراتها على المعادن النادرة. وقد نشر معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا المرموق صيف العام الماضي تحليلا حذر فيه من أن الصين تقوض الميزة العسكرية الأميركية في شرق آسيا، وأن الاستراتيجية الأميركية الحالية للدفاع عن تايوان تنذر بـ"هزيمة كارثية".
وفي سبتمبر/أيلول كتب الخبير المؤثر في الشؤون الآسيوية والمسؤول الحكومي السابق كورت كامبل في مجلة "فورين أفيرز"، أن غياب الاتصالات العسكرية الثنائية بين الصين والولايات المتحدة يزيد من خطر وقوع حادث صغير غير مقصود بين الوحدات العسكرية، سرعان ما يتصاعد إلى صراع كبير.
هناك البعد الجيوسياسي للقيود التجارية، إذ يمكن للصين عبر منعها تصدير المعادن النادرة والمكونات المغناطيسية، أن تؤثر على الشركات الأوروبية المنتجة للمعدات العسكرية، وتعيق الجهود الأوروبية لمساعدة أوكرانيا ضد أصدقاء الصين في روسيا. فتوترات المنافسة التجارية العالمية وسلسلة التوريد، تضر البيئة الدبلوماسية اللازمة لاحتواء المنافسة الاقتصادية والعسكرية أيضا.