فيلمون وهبي في أربعين رحيله... رائد الأغنية اللبنانية والعالم الموسيقي الخبير

المحتال الظريف عراب المرح في الغناء العربي

Lina Jaradat
Lina Jaradat
فيلمون وهبي

فيلمون وهبي في أربعين رحيله... رائد الأغنية اللبنانية والعالم الموسيقي الخبير

رحل فيلمون وهبي قبل أربعين عاما (1916-1985)، في عز الحرب الأهلية اللبنانية، بعد أن عانى منها مباشرة وتهدم بيته مرتين، لكنه ظل متمسكا بحلم كان أحد صناعه.

في الواقع، كان فيلمون وهبي من جيل أسبق بنحو عقد من السنين على الأخوين رحباني، وكان بالتالي معاصرا للرواد الأوائل من صناع الأغنية اللبنانية، في الأربعينات وأوائل الخمسينات. ومن هذا الجيل نعرف أغنيات بدوية أحيانا مثل "حول يا غنام" (لإيليا المتني) و"يا جارحة قلبي" (لسامي الصيداوي)، أو استعادات عراقية (مثل "يا أم العباية" و"الروزنا") وأخرى مثل "يا فجر لما تطل" (لمصطفى كريدية)، شكلت محاولات أولى لتأسيس هوية لبنانية موسيقية حديثة مختلفة عن موروث الموشحات وعن الغناء المصري مما كان منتشرا في بيروت وطرابلس والساحل عموما. ونعلم أن وهبي وغيره بدأوا مسيرتهم الفنية من فلسطين قبل أن تنتقل "إذاعة الشرق الأدنى" إلى قبرص.

مواكبة الهوية الموسيقية الجديدة

إلا ان فيلمون وهبي، الذي بدأ مطربا قبل ان يحترف التلحين، عرف كيف يواكب الموجة الجديدة التي تبنتها الدولة اللبنانية نفسها، عبر الإذاعة ومهرجانات بعلبك، وأصبح أحد الملحنين الثابتين في المسرحيات الرحبانية وفي رصيد فيروز الغنائي يأتي هو في المرتبة الأولى عدديا إذا استثنينا الأخوين رحباني أنفسهما.

وهو واكب هذا التوجه الجديد بأعمال مميزة مثل "تبقوا اذكرونا" لوديع الصافي، أو الأعمال الكثيرة، الأكثر شجوا وغنائية، التي قدمها لفيروز مثل "جسر اللوزية" و"يا كرم العلالي" و"صيّف يا صيف" و"بكرم اللولو" و"مرسال المراسيل" وغيرها، قبل انفصالها عن الرحابنة، ثم بعد ذلك الانفصال أعمال مثل "يا ريت منن"، و"يا راعي القصب مبحوح" و"أسامينا" و"طلع لي البكي" وسوى ذلك.

يستحق تراث فيلمون وهبي، في ذكراه، تكريما بجمعه وحفظه واتاحته رقميا في إطار جامع وموحد يبرز المزاج المتفائل والمنفتح المسيطر على البلد في لحظات صعوده وازدهاره

لكنه لم يتخل في هذه الاثناء عن تمايزه في مزاج الأغنية القصيرة الخفيفة الضاحكة التي قدمها لصباح مثلا ("بلوطاتك"، "قوم تنلعب باصرة"، "يا رب تشتي عرسان"، "واقفة عباب القلعة"، "دخل عيونك حاكينا"، "عالعصفورية"،  "الفستان"، "عني يا منجيرة" والكثير الكثير)، ونجاح سلام ("الشب الأسمر جنني" و"برهوم حاكيني")، وسميرة توفيق ("يا هلا بالضيف")، وطوني حنا ("طانسلي")، ونصري شمس الدين ("نقلة نقلة"، "عالعالي الدار"، "هدوني هدوني")، وشريفة فاضل ("حبيبي نجار).

وكذلك لم يتخل عن الأغاني والاسكتشات التي أداها بنفسها، مثل "سنفرله عالسنفريان" أو "طير الأزرق"، ولا سيما تلك التي تترك المرء متأثرا حائرا بين الضحك والبكاء، أي أغاني الحرب ("كشوا الدجاج"، "فلمون أتى"، "سركيس سركيسيان"، "كلاشينكوف" وغيرها)، وفيها يقارب تراث المونولوغات، الذي كان من رواده عمر الزعني، وما يداخله من ايقاعات وتوزيعات غربية أحيانا. ويستحق تراث فيلمون وهبي، في ذكراه، تكريما بجمعه وحفظه واتاحته رقميا في إطار جامع وموحد يبرز المزاج المتفائل والمنفتح المسيطر على البلد في لحظات صعوده وازدهاره، كما يبرز المزاج الساخر والشاتم والمقاوم لجو الحرب وفظائعها لاحقا.

Lina Jaradat
فيلمون وهبي

خبير الموسيقى المتخفي

والحق أن فيلمون الذي كان ملحنا يشبع اللحن بالمرح والخفة، كان أيضا ممثلا كوميديا ظريفا، ومرتجلا على السليقة (مثل لحن "يا رشا ليش تأخر العشا")، وكانت له أيضا شخصية سرية كمعظم الظرفاء مفعمة بحزن قد يكون غير مفهوم، هو الحزن الذي أشارت إليه فيروز بالقول إن ألحانه تنبع منه. وهو أيضا ملحن يعرف قيمة ألحانه، وينقل عنه قوله إنه يفتح سككا جديدة في ألحانه (وهو كذلك في بعضها على الأقل)، وهو فيها يعرف كيف يبني الخدعة والمفاجأة تحت ستار قرب المتناول والألفة، أي أنه يعرف كيف يكون مطربا غاية الإطراب دون ادعاء ولا مبالغة.

وقبل أن نتناول هذه الألحان في إيجاز، علينا أن ننفي عن فيلمون وهبي ما يظنه البعض مديحا له، أي القول بأنه "ملحن فطري"، وبأنه "لم يتعلم الموسيقى" لأنه لم يقرأ النوتة الموسيقية. فهذا القول يجافيه ثراء بعض الأعمال وتعقيدها وغوصها في أعماق بنية الموسيقى الشرقية، على ما سنورد. لكنه على أي حال يفترض مقياسا غريبا على موسيقى المشرق، أي افتراض أن تعلم الموسيقى لا يكون إلا بتعلم النوتة والنظرية الغربية.

صحيح إن فيلمون لم يكن مؤلفا ولا "موزعا" موسيقيا (وخارج الأخوين رحباني، نجد أغنياته بسيطة التوزيع متماشية مع الذوق العام في زمنه، مع استعمال واضح للقانون والعود والبزق أحيانا). لكنه في مجال الموسيقى الشرقية عالم خبير، وإن كان يتظاهر بالعكس، عامدا متعمدا. فدراسة الموسيقى الشرقية لا تحتاج إلى دراسة النظرية الغربية والتدوين، وإن كان مثل هذا الإطلاع لا يضيرها. بل تحتاج إلى تشرب الأجناس والعقود الموسيقية، أي تتابع أربع أو خمس درجات موسيقية بأبعاد محددة، مثل أجناس الراست والبياتي والحجاز وما شابه (على سبيل المثل يمكن القول تجاوزا إن جنس الحجاز هو من أربع درجات: ري، مي بيمول أي مخفوضة، فا دييز أي مرفوعة، صول)، علما بأن الأبعاد الدقيقة للخفض والرفع تتفاوت بين المناطق وعبر الزمن. وتحتاج هذه الموسيقى المشرقية إلى معايشة عميقة لأساليب الحركة في داخلها ومواضع الجمال فيها ومفاصل الانتقالات ما بينها.

علينا أن ننفي عن وهبي ما يظنه البعض مديحا له، أي القول بأنه "ملحن فطري"، وبأنه "لم يتعلم الموسيقى" لأنه لم يقرأ النوتة. فهذا القول يجافيه ثراء بعض الأعمال وتعقيدها وغوصها في أعماق بنية الموسيقى الشرقية

فيلمون وهبي، إلى جانب كونه في الأصل مغنيا للمواويل البغدادية التي كانت منتشرة في الساحل اللبناني، كان أيضا بحسب ما أورد في لقاء تلفزيوني تلميذ ميشال خياط (موسيقي لبناني، نشأ في مصر وعمل في الإذاعة) وسليم الحلو (صاحب كتابَي "الموسيقى النظرية" و"الموشحات الأندلسية")، ولا ريب إنه كان قد حفظ الكثير من الأغاني الشعبية الشامية (مثل "إن كان بدك تعشق" التي استعملها في لحن "الفستان" لصباح) والأغاني المصرية والقدود الحلبية والموشحات القديمة، ولا شيء يفوق هذا دراسة وتعليما وابتعادا عن القول بـ"فطرة" مما يراد به تقديره، بينما ذلك القول في الواقع يحط من قيمة هذه الموسيقى وإرثها ومن قيمة المتبحرين فيها.

أبعد من الفطرة

ليس من "الفطرة" في شيء تلك المخاتلة التي يجريها فيلمون وهبي مثلا في الموال الذي تؤديه فيروز، "بكير طل الحب" قبل أغنية "جايب لي سلام" (وهي من البياتي). إذ ينطلق الموال من نغمة الراست (ولنفرض أنها تؤدى من الدو)، ثم ينتقل إلى السيكاه (عند "كنا وكانوا" فتكون عندئذ من المي المخفوضة قليلا)، ويقفل على جنس البياتي المستقر على درجة الري، أي بين مستقري الجنسين السابقين. ولكن للدقة، فإن الموال يقفل على الدرجة الرابعة من جنس البياتي هذا (أي على درجة الصول في هذا المثل)، لأنها هي درجة محورية تلعب دورا مهما بنيويا في الأنغام الثلاثة المذكورة، بما يسمح بالانتقال بينها بسلاسة ودون شعور باستغراب أو بنشاز.

AFP
فيروز في حديقة منزلها في ربوة قرب بيروت، 24 يونيو 1972

مثل هذه الانتقالات، غير المعهودة في معظم الأغاني الحديثة ولا في الأغاني الشعبية الموروثة، لا تتأتى إلا لمن تعمق في الموسيقى. لكن نجد مثلها في الموشحات القديمة مثلا. وليست انتقالات "على الفطرة" التي يمكنها أن تنتج الألحان الشعبية الخفيفة التي ينتج فيلمون وهبي مثلها أحيانا عن قصد، وليس عن قصور في المعرفة والدراسة.

كذلك ليس من "الفطرة" استخدامه نغمة الأصفهان في موال وأغنية "يا طير الطاير" لصباح، والتي يخطئ أغلب من يستعيدها، فيؤدونها من نغمة الحجاز الصرف، لأن الأصفهان ما عاد مستعملا (ويستخدمه أيضا في لمحة عابرة في "ورقو الأصفر" عند "يفيّقني عليك يا حبيبي"). ولا وقوفه على الدرجة الثالثة من جنس الصبا في نهاية "صيّف يا صيف"، أو الانتقال الغريب إلى الصبا أيضا على موضعين غير متوقعين في نهاية "عالطاحونة". ولا يتأتى لمن لا يمتلك ناصية الأنغام بعمق أن يتلاعب بنا بين الحجاز والبياتي على نفس المستقر (مثل  "يا كرم العلالي" أو "يا إمي طل"، أو حتى يمزجهما مع الصبا في "يا راعي القصب مبحوح") او أن يؤدي تمهيد أغنية "صيّف يا صيف" على نغمة الراست ("وكرومكم...") لتأتي نهاية الموال ("والعنب يعصر عوافي...") والأغنية على نغمة البياتي من الدرجة الخامسة من الراست فيكون لها طعم مختلف تماما عما لو كان التمهيد موافقا تماما للأغنية، فضلا عن أن هذا التمهيد يسمح بالاستمتاع بالمنطقة الخفيضة من صوت فيروز (وهو ما يستغله في عدد من الأعمال، لا سيما المتأخرة) مما كان يغيب في كثير من ألحان الرحابنة لها.

يبني فيلمون وهبي طربه الخفيف، الأليف، الشعبي بالمعنى النبيل، عبر المخاتلة النغمية الخفية وبقفلات مشبعة دون تكلف، كل ذلك في سلاسة ويسر خادعَي البساطة والسهولة

ويزداد نسج الأنغام عند فيلمون وهبي تعقيدا، خصوصا حين يتخلى عن قالب الطقطوقة البسيطة (مذهب ولحن متكرر للكوبيلهات)، وينتقل إلى الطقطوقة المتعددة الألحان في الكوبليهات، لا سيما في أعماله المتأخرة لفيروز، مثل "البواب" أو "يا قونة شعبية" وفي الأخص في "اسوارة العروس مشغولة بالذهب"، حيث يصوغ هو أيضا شغلا نغميا مزخرفا مدهشا يكاد يختزل معظم الأجناس المنتشرة في الموسيقى الشرقية، في مزيج غير معهود وأحيانا على درجات غير متوقعة، فيمر فيها على العجم والصبا والراست والحجاز والبياتي (في نقلة مذهلة إيقاعيا، بتقصير القفلة عند "كلن راح بيفلوا وبيبقى الجنوب" وتحديدا  كلمة "الجنوب" والانتقال بنقرتين فقط!) كما يلمح إلى السيكاه والزنجران، ويأتي فيها بتنعيمات كروماتية (أي خفض أو رفع درجة صوتية ما بمقدار نصف طنين لتقريبها إلى درجة أخرى، ما يوحي باللين والنعومة).

يبني فيلمون وهبي طربه الخفيف، الأليف، الشعبي بالمعنى النبيل، عبر المخاتلة النغمية الخفية وبقفلات مشبعة دون تكلف، كل ذلك في سلاسة ويسر خادعَي البساطة والسهولة.

الإيقاع وبناء المرح

في المقابل، لا يتناول فيلمون وهبي ايقاعات معقدة مركبة مثل الموشحات، بل يستخدم الايقاعات الأشهر الثنائية والرباعية مثل اللف والمقسوم والمصمودي وايقاعات الدبكة السداسية (أو الاثني عشرية). لكنه يستخدم الإيقاع كعنصر في تشكيل المرح الذي يميز أغنياته الخفيفة. فإلى جانب النبض السريع، كما في "عالعالي الدار" أو "قلي تش بقلك مش" أو "يا رب تشتي عرسان" مثلا، يستخدم وهبي نقرات إيقاعية كمقدمة موسيقية، وهي قد تكون ايقاعية خالصة تليها شذرة متكررة بسيطة (مثل "عتيمة عالعتيمة" أو "دخل عيونك حاكينا") أو قد تكون تحويرا منغما للإيقاع  (مثل مطلع "يا إمي دولبني الهوا" أو "عبدو عبيد"). وإذ يمزج هذا بالتصفيق (في "برهوم حاكيني") أو بالوقفات النغمية المتكررة ("دق الباب فتحت له" مثلا) أو بالردات ("يا عيوني، هالله هالله" كما في "الشب الأسمر")، يتشكل منها مرح خاص يدل مباشرة على شخصية الملحن منذ مطلع اللحن.

Lebanese Army
فبلمون وهبي

هذه الشخصية الضاحكة تتسم إلى جانب هذا الطابع الإيقاعي، بالتكرار المسلي لكلمات مقصودة (كما في تكرار "يا دلي" و"يا عيني" وكذلك "خفف" و"وقف" في "عالرايح والجايي"، أو "من الطاقة" في "يا إمي طل"، أو الإشارات الصوتية مثل "هيك هيك" و"هاها" في "دق الباب فتحت له") وبالتقليل من المدود النغمية والاقتراب قدر الإمكان من أطوال المقاطع اللفظية كما هي في النص المنظوم، فيكاد اللحن يكون قراءة منغمة، ولا يمد إلا قليلا (مثلا في "ليلية بترجع يا ليل"، يكون المد في "الناس" و"الكاس" و"الليل"، أي في ثلاث كلمات فقط من المذهب كله). وتتميز أحيانا بالتزام حدود المدى النغمي الضيق (اربع أو خمس درجات أساسية، كما في مذهب "بلوطاتك بلوطة" أو "دخل عيونك" أو "عنّي يا منجيرة") وهو ما يقربها من مدى الأغاني الشعبية الموروثة (مثل "ليا وليا" أو "الهوارة" أو "الدلعونا")، ويختلف هذا تماما مثلا عن شغله مع فيروز حيث يتجاوز المدى النغمي منذ المطلع الأوكتاف (أي ثماني درجات) وقد يصل إلى عشر درجات في مطلع "كتبنا وما كتبنا" مثلا.

ويمكن القول إن فيلمون وهبي وسم الأغنية اللبنانية الشعبية بميسمه، حتى أصبحت لصيقة به، إلى حد أن بعض أغنيات الرحابنة لصباح مثل "عالندا" و"جيب المجوز يا عبود" هي اقرب إلى مزاج فيلمون اللحني، وأن محمد عبد الوهاب لم يجد بدا من تقمص شخصيته عندما أراد تقديم مثل هذا اللون لصباح في "عالضيعة".

الجمال المكنوز في الموسيقى الشرقية

على المستوى النظري، يطرح علينا شغل فيلمون وهبي، كما شغل الكثيرين من ملحني المشرق العربي منذ المجهولين ممن قدموا لنا إرث الموشحات، إلى المشهورين في القرن العشرين، تحديا نظريا لفهم كيفية اشتغال هذه الموسيقى ولرفض النظريات المقامية المفروضة من خارجها، والإنصات إلى الحرية الداخلية الواسعة التي تتيحها والتي استغلوها أفضل استغلال في التنقل ما بين أجناسها ونغماتها والتشكيلات الإيقاعية التي ابتكروها.

تكاد هذه الأعمال مجتمعة تكون حصنا لنا في مواجهة مد الغناء الخالي من الأنغام الشرقية في أيامنا، ويكاد هو يرسم لنا منهاجا لفهم هذه الأنغام ويقف معلما لآذاننا يمهد لنا الطريق إلى متعتها وكنوزها

أما على المستوى العملي والتاريخي، فقد باتت أعمال هذا المحتال المخادع الظريف جزءا لا يتجزأ من التراث الشامي الشعبي ومن الرصيد الفيروزي، وستبقى  شهادة راسخة على تأسيس الأغنية اللبنانية الحديثة على أساس راسخ من الأنغام الشرقية، فيكاد رصيده يشع بجواهر من أنغام البياتي (مثل "يا كرم العلالي" و"تبقوا اذكرونا" و"لما عالباب") والراست (مثل "من عز النوم" و"يا دارة دوري" و"ورقو الأصفر") والسيكاه (مثل "بليل وشتي" و"برهوم" و"القلعة" و"يا رب تشتي عرسان" و"طانسلي" و"منتزاعل ومنرضى") والحجاز (مثل "بكرم اللولو" و"طلع لي البكي" و"الفستان") وغيرها.

وتكاد هذه الأعمال مجتمعة تكون حصنا لنا في مواجهة مد الغناء الخالي من الأنغام الشرقية في أيامنا، ويكاد هو يرسم لنا منهاجا لفهم هذه الأنغام ويقف معلما لآذاننا يمهد لنا الطريق إلى متعتها وكنوزها إذا ما اهتدينا به. بل يخال إلينا أحيانا أنه يثق كامل الثقة في قدرة هذه الأجناس الموروثة على إطرابنا وإبهارنا بكل الجمال المكتنز بداخلها، ويتعامل بإيمان عميق بها وبأذن حساسة للتمايزات بينها والتجاذبات بين درجاتها والجسور بين نغماتها، حتى تكاد جمله (مثل مقدمة "فايق يا هوى" أو "ورقو الأصفر" أو "بكرم اللولو" أو "يا أمي دولبني الهوا") تختزل أحيانا في العمق إلى مرور متدرج على سلالمها البديعة المصفاة ببطء وأناة في منطقتنا على مر قرون مديدة من الصقل الموسيقي المستمر.

font change

مقالات ذات صلة