شبح "فقاعة الدوت كوم" يلاحق الذكاء الاصطناعي

استثمارات ضخمة بلا عوائد مضمونة... فهل نحن أمام تكرار كارثة عام 2000؟

سارة بادوفان
سارة بادوفان

شبح "فقاعة الدوت كوم" يلاحق الذكاء الاصطناعي

يبدي المتداولون في الأسواق المالية قلقا من الارتفاع الصاروخي لأسهم لشركات التكنولوجيا، مع طفرة ثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي، ويخشون من انهيارات مفاجئة بدات ملامحها على غرار "فقاعة الدوت كوم" عام 2000، فهل يتكرر المشهد؟

في أواخر التسعينات، تسببت الحماسة للإنترنت في تضخم أسعار أسهم شركات التكنولوجيا، مما أدى إلى "فقاعة الدوت كوم" (Dot-com Bubble)، تبعه انهيار مفاجئ ومدوٍ في عام 2000، مخلفا وراءه خسائر ما يزيد على 5 تريليونات دولار، وفقا لتقريرين صادرين عن شركة "غولدمان ساكس" ومكتب الإحصاءات الأميركي في عام 2004.

اليوم، يتساءل المحللون ونحن نشهد طفرة استثمارية جديدة في مجال الذكاء الاصطناعي: هل يمكن أن تتكرر الفقاعة؟

مع انتشار الإنترنت كمنصة تجارية واعدة، تدفقت رؤوس أموال هائلة إلى الشركات الناشئة التي تحمل لاحقة "com."، حتى لو كانت فكرتها التجارية غامضة أو غير مربحة. وكانت تُطرح في الاكتتاب العام الأولي (IPO) ويتم تقييمها بمليارات الدولارات في غضون أيام قليلة، غالبا بناء على الوعود لا على الأرباح. وقد جذبت الاستثمارات بسبب الاعتقاد بأن "الإنترنت سيغير كل شيء"، وهذا لم يكن خاطئا في ذاته، لكن التقييمات لم تكن تستند إلى أساس مالي متين.

كانت فقاعة "الدوت كوم" درسا في الأخطار المرتبطة بالتفاؤل الأعمى والمضاربة، كما كانت نتيجة مزيج من التفاؤل التكنولوجي، وسهولة الوصول إلى رأس المال، وسلوك المستثمرين المتسرع

ارتفعت أسعار أسهم شركات مثل "بتس دوت كوم" (Pets.com) و"وب فان" (Webvan) بنسبة 500 في المئة من دون أرباح حقيقية، مدفوعة بالتفاؤل المفرط في شأن "الاقتصاد الجديد". موقع "بو دوت كوم" (Boo.com) أحرق 135 مليون دولار في 18 شهرا، وفقا لتقرير نشرته "فوربس" عام 2000، وارتفع مؤشر "ناسداك" بنسبة 400 في المئة بين 1995 و2000، ليصل إلى ذروته عند 5048 نقطة في مارس/آذار 2000، قبل السقوط المدوي.

كانت الفقاعة مدفوعة بعوامل عدة، أبرزها الوفرة في رأس المال الاستثماري وانخفاض أسعار الفائدة. أدت التغطية الإعلامية الإيجابية المفرطة إلى خلق مناخ غير عقلاني من التفاؤل، وقد انهارت السوق عندما بدأ المستثمرون يدركون أن هذه الشركات لا تولد أرباحا.

سارة بادوفان

 بين مارس/آذار 2000 وأكتوبر/تشرين الأول 2002، فقد مؤشر "ناسداك" نحو 78 في المئة من قيمته، وأدى إلى خسائر هائلة للمستثمرين وإفلاس العديد من الشركات، وركود اقتصادي قصير الأجل. وفقد جيل من المستثمرين الثقة في الأسواق، مما أخر نمو قطاع التكنولوجيا 5 سنوات، كما جاء في كتاب "الرقم الصعب" لجون كاسيدي.

كانت فقاعة "الدوت كوم" درسا في الأخطار المرتبطة بالتفاؤل الأعمى والمضاربة، كما كانت نتيجة مزيج من التفاؤل التكنولوجي، وسهولة الوصول إلى رأس المال، وسلوك المستثمرين المتسرع. لكنها أيضا مهدت الطريق لنجاة شركات ركزت على القيمة الحقيقية مثل "أمازون"، ونمو شركات قوية مثل "غوغل"، اللتين أعادتا تشكيل الاقتصاد الرقمي.

الذكاء الاصطناعي: فقاعة جديدة أم ثورة مستدامة؟

اليوم، يشهد قطاع الذكاء الاصطناعي، ومنذ نهاية عام 2022، طفرة استثمارية مشابهة لشركات الدوت كوم. ووفقا لتقرير صادر عن "بيتش بوك" (PitchBook) عام 2024 تلقت الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي استثمارات بقيمة 75 مليار دولار في عام 2023 فقط. لكن هناك إشارات تحذيرية، منها أن القيمة السوقية لبعض الشركات تفوق أرباحها الفعلية بأضعاف. نرى اليوم شركات ناشئة ذات منتجات محدودة أو غير ناضجة، تحظى بتقييمات مليارية، فقط لأنها "تستخدم الذكاء الاصطناعي".

هناك علامات تستوجب الحذر، منها ارتفاع عدد الشركات التي تضيف "AI" إلى اسمها لجذب الاستثمارات، وتركيز المستثمرين على "الوعد التكنولوجي" أكثر من النماذج الربحية، ومضاعفة تقييمات الشركات دون مبرر مالي واضح

تقرير"هارفرد بزنس ريفيو"

في المقابل، هناك نقص في الشفافية حول كيفية تحقيق الأرباح على المدى الطويل، خصوصا مع التكاليف الباهظة لتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي. ويشير تقرير لـ"وول ستريت جورنال" إلى أن تكلفة تدريب نموذج ذكاء اصطناعي واحد قد تصل إلى 100 مليون دولار. وبدأ يكثر الحديث أيضا عن المشاريع الوهمية، هناك 30 في المئة من شركات الذكاء الاصطناعي لا تستخدم خوارزميات حقيقية بحسب دراسة لجامعة "أم. آي. تي." (MIT) صدرت عام 2024.

مع ذلك، هناك اختلافات، فالذكاء الاصطناعي يمتلك تطبيقات ملموسة في مجالات مثل التحليلات البيانية، الأتمتة، وتحسين سلسلة التوريد، ويُستخدم فعليا لتحسين الإنتاجية في قطاعات عدة، مما يمنحه أساسا اقتصاديا قويا. علاوة على ذلك، فإن بعض الشركات تحقق أرباحا حقيقية، مثل شركة "إنفيديا"، التي بلغت قيمتها السوقية أكثر من ثلاثة تريليونات دولار في 2024، وقيمتها السوقية حاليا 4.3 تريليونات دولار. وتدر تقنيات مثل "تشات جي. بي. تي." إيرادات فعلية لشركتها "أوبن إيه. آي." (OpenAI) بلغت 2,7 مليار دولار في 2024. كما أن لدى الشركات الكبرى مثل "مايكروسوفت" و"غوغل"، التي تستثمر بكثافة في الذكاء الاصطناعي، احتياطيات مالية ضخمة، مما يقلل أخطار الانهيار الشامل.

تحذيرات جدية من خطر فقاعة جديدة

لكن على الرغم من التفاؤل، هناك مخاوف حقيقية. منها أن التضخم في تقييم الشركات الناشئة قد يؤدي إلى تصحيح حاد في السوق إذا لم تتحقق التوقعات. كما أن الاعتماد المفرط على عدد قليل من اللاعبين الكبار في السوق، مثل "إنفيديا" التي تهيمن على سوق رقائق الذكاء الاصطناعي، يشكل أخطارا على استقرار القطاع.

أ.ف.ب.
رئيس شركة "إنفيديا" جينسن هوانغ يلقي كلمة في مؤتمر "إنفيديا للتقنيات الرسوم (GTC)" في مركز والتر إي. واشنطن للمؤتمرات في 28 أكتوبر 2025.

وبحسب تقرير نشرته "هارفرد بزنس ريفيو" هناك علامات تستوجب الحذر، منها ارتفاع عدد الشركات التي تضيف "AI" إلى اسمها لجذب الاستثمارات، وتركيز المستثمرين على "الوعد التكنولوجي" أكثر من النماذج الربحية، ومضاعفة تقييمات الشركات دون مبرر مالي واضح.

تشابه جزئي مع فقاعة الإنترنت

ووفقا لتقرير "مورغان ستانلي" نشر في أوائل 2025، فإن هناك "تشابها جزئيا" مع فقاعة الإنترنت عام 2000، لكن السوق حاليا أكثر نضجا لجهة الرقابة والاستثمار المؤسسي. لكن على الرغم من الضجيج الكبير حول الذكاء الاصطناعي في "وول ستريت"، يؤكد مصرف "غولدمان ساكس" أن هذه التكنولوجيا لم تنعكس بعد على أرباح الشركات. ففي الربع الثاني من 2025، سُجّل رقم قياسي مع ذكر 58 في المئة من شركات مؤشر "إس. أند بي. 500" (S&P 500) الذكاء الاصطناعي في اجتماعات مناقشة الأرباح. لكن المصرف أشار إلى أن الشركات التي حدّدت تأثيرا ملموسا للذكاء الاصطناعي على نتائجها المالية لا تزال قليلة، وهو ما يتطابق مع استطلاع لـ"ماكينزي" أظهر أن أكثر من 80 في المئة من المؤسسات قالت إن الذكاء الاصطناعي التوليدي لم يؤثر على أرباحها.

هل سنشهد انفجار فقاعة الذكاء الاصطناعي؟ لا إجابات قاطعة، لكن الأرجح إمكان حصول فقاعة جزئية، فبعض الشركات ستنهار لأنها بنيت على وعود غير قابلة للتنفيذ أو نماذج ربحية هشة

لقد تعلم المستثمرون والأسواق من تجربة فقاعة الدوت كوم. فهم أكثر حذرا ويولون اهتماما أكبر للأساسيات المالية للشركات. وهناك التنظيم الاستباقي، على شاكلة مبادرات مثل "قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي" التي تحد من الأخطار.

كيف تتوزع البنية النموذجية الحقيقية للإنتاج؟

لكن هل سنشهد انفجار فقاعة الذكاء الاصطناعي؟ لا إجابات قاطعة، لكن الأرجح إمكان حصول فقاعة جزئية، فبعض الشركات ستنهار لأنها بنيت على وعود غير قابلة للتنفيذ أو نماذج ربحية هشة.

ويقول الخبير الدولي الدكتور عبد المنعم يوسف، والرئيس الأسبق لهيئة اتصالات "أوجيرو" الرسمية في لبنان، لـ"المجلة"، إن المستقبل الاقتصادي والنمو المحقق للعوائد على الاستثمارات المالية الضخمة في مجال الذكاء الاصطناعي يحمل في طياته تحذيرات جدية من خطر تشكيل فقاعة استثمارية في القطاع، مع احتمال انفجارها في وقت قريب، وذلك بسبب التسابق المحموم في الاستثمارات، والمبالغة في التقييمات المالية في البورصات العالمية، والمنافسة الحادة بين الشركات العملاقة، والارتفاع المتزايد بوتيرة غير مسبوقة في تكاليف انتاج الطاقة (للتغذية والتبريد)، والصيانة والتشغيل، على ضوء التنظيمات المستمرة المتعلقة بالحفاظ على البيئة ومعالجة الاحتباس الحراري.

المجلة

ويضيف أن البنية النموذجية الحقيقية لإنتاج خدمات الذكاء الاصطناعي تتوزع على أربع طبقات:

1- البنية التقنية الأساس، مكونة من شرائح من شبه الموصلات، متخصصة في الاحتساب الفائق السرعة، مما يستدعي امتلاك تخصصية تصنيعية عالية تقوم على استهلاك قليل جدا للطاقة، وقابلية للوجود المكثف على مساحات أشباه الموصلات (أي النزول إلى قياسات نانو مترية تقارب حركات الإلكترون). هذه الطبقة مشتركة في كل نشاط لإنتاج الذكاء الاصطناعي، وسوقها هي السوق العالمية دون حدود.

 2- وسائل التخزين الهائلة، التي تقاس بعشرات الكليومترات المربعة أفقيا ومئات الأمتار عموديا، مع وسائل تأمين الطاقة محليا. هذه الطبقة هي أيضا مشتركة في كل نشاط لإنتاج الذكاء الاصطناعي.

3- إنتاج اللوغاريتمات الرياضية المناسبة في كل مجال، وإنجاز آليات مبرمجة للتعلم والتشابه في التحليل. هذه الطبقة تختلف بين مجال وآخر، وفق قطاع الخدمات التطبيقية.

 4- المنصات الرقمية للتطبيقات، وغالبا ما تعتمد على الوجود السحابي، وهي مختلفة بين قطاع وآخر وفق الخدمات التطبيقية.

بدأت دول الخليج، تحديدا السعودية وقطر والامارات، منذ خمس سنوات تقريبا، في التسابق للاستثمار في الطبقات السهلة، أي الطبقة 3 والطبقة 4، وهذا يشكل خطرا محدقا بالاستثمارات التي تمت في هذا المجال، خصوصا أنها ليست تنافسية، مقارنة مع الأسواق العالمية

أما الخوف الحقيقي من تَشَكل فقاعات استثمارية وانفجارها، مع ما يتسبب به ذلك من انهيار مالي، فيكمن بشكل أساس في اقتصاديات الطبقتين 3و4. ويضيف الدكتور يوسف: "تبقى الطبقتان 1 و2 بعيدتين عن الخطر، لأنهما في الحقيقة تشكلان البنية التقنية التحتية الحقيقية اللازمة في كل نشاط لإنتاج خدمات الذكاء الاصطناعي، واستثماراتها هي استثمارات صلبة".

استثمارات الخليج في طبقات التكنولوجيا

بدأت دول الخليج، تحديدا السعودية وقطر والامارات، منذ خمس سنوات تقريبا، في التسابق للاستثمار في الطبقات السهلة، أي الطبقة 3 والطبقة 4، وهذا يشكل خطرا محدقا بالاستثمارات التي تمت في هذا المجال، خصوصا أنها ليست تنافسية، مقارنة مع الأسواق العالمية.

لكنها بدأت منذ عام ونصف العام تقريبا بتشكيل آليات عملية فاعلة للتوظيف في الطبقتين 1 و2، وبناء مشاركات استراتيجية مع شركات عالمية متخصصة. أما في شأن الدوافع التي تحمل الشركات العملاقة لتوطين خبراتها وكفاءاتها، ولو جزئيا في دول الخليج، فتبرز الميزات الثلاث التالية:

1- قدرة الموازنات العامة لهذه الدول على تحمل التكاليف المالية العالية لبناء الأصول الثابتة، سيما أن الصناديق الوطنية الاستثمارية في السعودية وقطر والامارات تتخطى مجتمعة مبلغ ستة تريليونات دولار أميركي.

أ.ف.ب.
الروبوت "آيرون" من الجيل الجديد لشركة "إكسبنغ" يمشي خلال جولة في صالة العرض في مقر الشركة في مدينة غوانغجو، جنوب الصين، في 5 نوفمبر 2025.

 2- السهولة لدى الشركات الغربية الكبرى (تحديدا الولايات المتحدة الأميركية وهولندا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا) في إدارة الموارد البشرية التي تعمل مكانيا على هذه المشاريع.

 3- الوجود الجغرافي المميز لدول الخليج على مسارات النقل البحرية والجوية، وانتشار استثماراتها في الدول التي تنوجد فيها الأسواق الصاعدة لخدمات الذكاء الاصطناعي.

الحذر مع التفاؤل يحمي من الأسوأ

في كل الأحوال، تبقى أخطار التضخم قائمة. أما الحل فيكمن في تشريعات حكومية سريعة، والاستثمار في شركات ذات إيرادات حقيقية، لا وهمية، ونماذج أعمال مستدامة مع شفافية تقنية. ستصمد الشركات القوية أمام تصحيح السوق، بينما ستزول تلك التي تعتمد الضجيج. الذكاء الاصطناعي سيستمر في تشكيل المستقبل على الرغم من تقلباته الحالية والمرتقبة.

font change

مقالات ذات صلة