أحيانا، لا يقف خلف اكتشافنا لعمل أدبي مهم افتتان مسبق بكاتبه جعلنا نترصد جديده، أو مقالة نقدية محكمة حوله أقنعتنا بضرورة قراءته، أو صديق نصحنا بهذه القراءة، ولأننا نثق بذوقه وثقافته الأدبية، عملنا بنصيحته، بل مترجم هذا العمل الذي، بعدما أبدى كفاءات عالية في ترجمة تحف أدبية تقاوم نقلها إلى لغة أخرى، نظرا إلى فن صوغها، صار مرجعا لنا لاستقصاء ما نجهله من أعمال تجب مطالعتها.
هكذا اكتشفنا رواية "جنازات ثلاث" (2024) للكاتب البريطاني أندرس لوستغارتن، بفضل مترجمها إلى الفرنسية، كريستوف كلارو، الذي ينفرد داخل المشهد الأدبي الباريسي بموهبته النادرة كشاعر وروائي، وأيضا بنقله إلى لغته الأم أكثر من ثمانين عملا أدبيا، من بينها نصوص أصعب الكتاب الأنكلوسكسونيين. اكتشاف حثنا على قراءة هذه العمل في ترجمته الفرنسية التي صدرت حديثا عن دار "أكت سود"، وأقل ما يمكننا أن نقول عن هذه التجربة هي أنها كانت اكتشافا حقيقيا.
سردية تهكمية
في هذه الرواية، وهي الأولى لصاحبها، تنتظرنا سردية تهكمية، زاخرة بالأحداث والتطورات، تندفع بلا قيد، ولا يكتفي راويها بفضح وحشية السياسة البريطانية في مجال الهجرة، بفعالية نادرة، بل يعري أيضا، بالفعالية نفسها، تنامي اليمين المتطرف في وطنه مثل ورم خبيث، انحطاط جهاز سكوتلانديارد، "التجميل" الطبقي الذي تخضع له المدن البريطانية، وعقم الاتحاد الأوروبي. رواية تقارب هذه الموضوعات السياسية بنبرة قارصة وفكاهة سوداء وهاجس أخلاقي، مما يجعل منها تحفة تراجيدية كوميدية سفيهة، عبثية، وطارئة مثل الأمل.
تبدأ الرواية بمشهد نرى فيه صديقين صوماليين شابين، عمر وعبدي بيل، يصعدان على متن قارب بدائي وينطلقان مع خمسة شبان آخرين في رحلة محفوفة بالأخطار في بحر المانش، آملين في بلوغ بريطانيا والعثور على ملاذ فيها. لكن في وسط البحر، يواجهون عاصفة عاتية تتركهم تحت رحمة أمواج لا تعرف الرحمة. وحين يبدو لهم أن الأمل في النجاة بات معدوما، ويفتح البحر فمه لابتلاعهم، يظهر قارب في الأفق.



