الدرهم المغربي... عملة بديلة في أسواق غرب أفريقيا

إعادة تشكيل المشهد المصرفي في أفريقيا جنوب الصحراء لمصلحة مصارف مغربية

لينا جرادات
لينا جرادات

الدرهم المغربي... عملة بديلة في أسواق غرب أفريقيا

يبحث عدد من الدول الأفريقية في إمكان استخدام عملات إقليمية محلية بديلا من الدولار، واليورو، والفرنك الفرنسي الأفريقي، في مبادلاتها التجارية البينية، تفاديا لأخطار عدم استقرار سعر الصرف الخارجي. وتواجه اقتصادات دول عدة انخفاضا حادا في قيمة عملاتها الوطنية، في مواجهة العملات الدولية.

ومن أبرز أسباب نقص السيولة، ارتفاع عجز ميزان المدفوعات الخارجية، والضغوط المتزايدة على الاحتياط النقدي لهذه البلاد، مما يعرض العملات الأفريقية إلى الاستنزاف، وارتفاع التضخم، وتدهور القدرة الشرائية.

يشجع صندوق النقد الدولي اعتماد إصلاحات إضافية، في إطار سياساته المعهودة، لضمان بيئة نقدية مساعدة في تطوير التجارة البينية، وتحفيز الاقتصاد، وتحقيق الاستقرار في الحسابات الماكرو اقتصادية، ومعالجة أزمة ندرة النقد الأجنبي. لكنه يؤكد أن كل التمويلات وخدمة الدين ستظل مقومة بالدولار، ونظام حقوق السحب الخاصة.

صعوبة استنساخ تجربة روسيا والصين

يتطلع بعض الدول المناهضة للنظام الاقتصادي العالمي الحالي، لاستنساخ تجربة التعامل المالي بين روسيا والصين، اللتين تعتمدان عملات وطنية، الروبل واليوان، في تجارتهما البينية، ولا سيما مشتريات النفط والطاقة والمواد الصناعية والسلع الاستهلاكية، بسبب العقوبات التجارية الغربية المفروضة على موسكو.

تشكل المديونية أحد التحديات الاقتصادية الكبيرة التي تواجه القارة السمراء على المدى المتوسط، لأنها مقومة بالدولار مع المؤسسات المالية الدولية، وهناك 14 دولة تتجاوز ديونها 180 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي

هناك اتساع لهذه المبادرات، التي بدأت تشمل الهند وكوريا الشمالية والبرازيل وبعض دول مجموعة "بريكس"، وثمة اعتماد على بنك التنمية الجديد (The New Development Bank) الذي تُعتبر بكين أكبر المساهمين في رأسماله. في المقابل يصعب على الدول الأفريقية اعتماد الطريق نفسه، بسبب اختلاف حجم الاقتصاديات المحلية مع تلك القوى (أقل من أربعة تريليونات دولار في نهاية 2025)، وضعف تنويع مصادر الدخل، وتدني الدخل الفردي، وهشاشة الاحتياط النقدي، ومحدودية التجارة البينية، والحاجة إلى سلع صناعية وتكنولوجية غير متوفرة قاريا.

في البداية كانت أزمة المديونية

تشكل المديونية أحد التحديات الاقتصادية الكبيرة التي تواجه القارة السمراء على المدى المتوسط، لأنها  مقومة بالدولار مع المؤسسات المالية الدولية، وهناك 14 دولة تتجاوز ديونها 180 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وتتخطى 200 في المئة لدى السودان.  وتمتص خدمة الدين الخارجي 20 في المئة من الناتج الإجمالي لدى 25 دولة، تقدر بنحو 89 مليار دولار في السنة الجارية. وهو ما يعادل مرتين التدفقات الاستثمارية الأجنبية الإجمالية نحو دول جنوب الصحراء. ويقدر متوسط الديون بنحو 64 في المئة من الناتج الإجمالي، وتكاد تكون محصورة في عشر دول،  تعتبر الكبرى من حيث حجم الاقتصاد، وتمتد من شمال أفريقيا إلى جنوب القارة.

لينا جرادات

وتقدر بيانات البنك الأفريقي لضمان التجارة (Afreximbank) ديون أول وثاني اقتصاد بنحو 336 مليار دولار (جنوب أفريقيا 170,5 + مصر 165,4). ويعتقد محللون أن بعض الدول أصبحت تُصدر من العملة الأجنبية أكثر مما تحصل عليه من فائض المبادلات التجارية، منذ أزمة "كوفيد - 19" قبل خمس سنوات. وهو وضع مالي متواصل على الرغم من تحسن بعض المؤشرات، مما يجعل أخطار الأزمات المالية قائمة أمام أي عاصفة دولية جديدة، مثلما حدث في أزمة الرهن العقاري الأميركي عام 2008. 

خفض قيمة العملة وطبع الأوراق النقدية

لجأت اقتصادات أفريقية عدة إلى تعويم عملاتها الوطنية، وخفض قيمتها أمام الدولار خلال الفترات الماضية، وسمحت بانتشار أسواق الصرف الموازية، لتشجيع المبادلات النقدية بالعملات الأجنبية، من دون تدخل مباشر من البنوك المركزية. وتم خفض سعر صرف العملة الإثيوبية "بير" 127 في المئة، والنايرة النيجيرية 72 في المئة، والجنيه المصري 64 في المئة، في مقابل الحصول على تمويلات من صندوق النقد الدولي، في إطار برامج الدعم المالي المستعجل.

بلغت المبادلات التجارية البينية العام الماضي 208 مليارات دولار، قدرت قيمتها 58 مليار دولار بين دول جنوب القارة ، وبلغت 53 مليار دولار بين دول غرب أفريقيا، ونحو 49 مليارا بين دول شرق القارة، ولم تتجاوز 31 مليار دولار بين دول شمال أفريقيا

كما منحت مؤسسات مالية إقليمية خطوط تمويل التجارة البينية، مثل البنك الإسلامي، والبنك الأوروبي، والبنك الياباني، والبنك الألماني، وغيرها، لضمان تدفق الواردات، والضغط على الأسعار. وقامت دول أخرى بطبع مزيد من أوراق العملات المحلية، لمواجهة التضخم وغلاء الأسعار، من دون موافقة من المؤسسات المالية الدولية، بغطاء من الاحتياط النقدي، لمواجهة نقص السيولة. وتمثل هذه الإجراءات أخطارا مرتفعة على الاقتصاد، في حال تراجع قيمة الصادرات أو انخفاض أسعار المواد الأولية والطاقة.

تجارة أفريقية بينية ضعيفة

وكشف البنك الأفريقي لضمان التجارة، الذي يتولى تمويل التجارة البينية الأفريقية، أن المبادلات التجارية "بلغت العام الماضي 208 مليارات دولار، قدرت قيمتها بين دول جنوب القارة 58 مليار دولار، وبلغت 53 مليار دولار بين دول غرب أفريقيا، ونحو 49 مليارا بين دول شرق القارة، ولم تتجاوز 31 مليار دولار بين دول شمال أفريقيا المطلة على البحر الأبيض المتوسط" (وهي منطقة عربية تشهد خلافات سياسية عميقة خصوصا بين الجزائر والمغرب).

رويترز
موظف يحصي دراهم مغربية، في الرباط 20 فبراير 2020

وقُدرت تجارة القارة مع بقية العالم 1,4 تريليون دولار العام الماضي: منها 682 مليار دولار من الصادرات (+ 9,8 في المئة) و719 مليار دولار من الواردات (+ 2,4 في المئة)، لكن التجارة الخارجية لا تساهم في تحسين الدخل الفردي، ولا تكفي عائداتها لتمويل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهي تكاد تكون حكرا على الشركات الأجنبية الأوروبية والصينية والأميركية والروسية وغيرها، التي تحقق فائض قيمة تجاريا، لا ينعكس بالضرورة على تلك الشعوب، التي يزداد نفورها من القوى الاستعمارية القديمة والجديدة.

ولا يعارض المصرف الأفريقي إنشاء عملات إقليمية موحدة للتجارة والمبادلات، تكون محل اتفاق بين الدول المعنية. لكنه يقترح أن تكون في البداية بين عدد محدود من الدول، على أن تتوسع إقليميا وقاريا في حال نجاح التجربة. وتضم القارة الأفريقية ثمانية تجمعات اقتصادية إقليمية، تتوزع جغرافيا على 54 دولة، داخل مساحة 30 مليون كيلومتر مربع من البحر الأبيض المتوسط إلى رأس الرجاء الصالح في أقصى جنوب القارة، ومن المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي غربا وشرقا. لكنها غير متكافئة من حيث الحجم الاقتصادي، وتنويع الدخل، حيث تعتمد جل الدول الأفريقية على عدد محدود من الصادرات أهمها الطاقة، والمعادن، والزراعة، مما يعرضها لأخطار تقلب الأسعار في السوق الدولية.

منطقة التجارة الحرة الأفريقية وضعف المواصلات

تتوسع حاليا المنطقة التجارية الأفريقية الحرة (ZLECAF) تدريجيا بين الدول الأعضاء (نحو 50 دولة موقعة)، وتبحث كل دولة عن أسواق جديدة لصادراتها، لمعالجة خلل ميزان المدفوعات الخارجية. وتوقع صندوق النقد الدولي أن تزيد التجارة الأفريقية البينية 15 في المئة، وترتفع 53 في المئة مع بقية العالم ، ويتحسن الدخل الفردي 10 في المئة، ويتقلص عدد الفقراء بين 30 إلى 50 مليون نسمة في أفق 2030، بما يعزز جاذبية أفريقيا للاستثمارات والسياحة خلال السنوات القليلة المقبلة.

يتوسع حضور الشركات المغربية والدرهم المغربي، في منطقة واسعة من شمال القارة السمراء وغربها ووسطها. ولاحظ تجار ورجال أعمال زيادة استعمال الدرهم المغربي في العديد من أسواق دول غرب أفريقيا ومنطقة الساحل

لكن تحقيق هذه الأهداف رهن بتطوير شبكة المواصلات، والطرق السريعة والسكك الحديد والموانئ، وفتح الحدود، وإنهاء النزاعات المسلحة. وتعاني الدول الحبيسة وسط القارة، خصوصا منطقة الساحل، من تحديات كبيرة مناخية وجغرافية، بسبب عدم توفرها على منافذ بحرية.

اقترح المغرب إنشاء منطقة تجارية كبرى تضم دول غرب أفريقيا ودول الساحل الحبيسة  (نحو 16 دولة)، في إطار تجمع إقليمي اقتصادي لدول أفريقيا الأطلسية. وتتحمل الرباط وحدها العبء المالي والاستثماري في البنى التحتية، لربط هذه الدول بشبكات للمواصلات والطرق السريعة بموانئ المملكة على المحيط، خصوصا ميناء الداخلة، الذي يتم بناؤه بتكلفة تقارب ملياري دولار، وهو أكبر ميناء تجاري في جنوب المحيط الأطلسي على الضفة الأفريقية.

الدرهم المغربي ينتشر في غرب أفريقيا والساحل كبديل نقدي

ويتقاسم المغرب مع نيجيريا تكلفة مد أنبوب للغاز الطبيعي يشمل 13 دولة أفريقية، ويمتد إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، بتكلفة بين 25 إلى 30 مليار دولار، لإنشاء سوق للغاز والكهرباء يستفيد منه سكان يقدر عددهم بـ 400 مليون نسمة.

في موازاة هذه المشاريع، يتوسع حضور الشركات المغربية والدرهم المغربي، في منطقة واسعة من شمال القارة السمراء وغربها ووسطها. ولاحظ تجار ورجال أعمال زيادة استعمال الدرهم المغربي في العديد من أسواق دول غرب أفريقيا ومنطقة الساحل: موريتانيا، السنغال، مالي، غينيا، غامبيا، النيجر، بوركينا فاسو، ساحل العاج، غانا، توغو، الغابون، الكاميرون وأفريقيا الوسطى وغيرها، مما يمثل تحولا في المشهد النقدي والاقتصادي الإقليمي، في منطقة اعتادت منذ استقلالها على الفرنك (CFA) المرتبط بالمصرف المركزي الفرنسي.

لينا جرادات

وتتعامل رسميا نحو 14 دولة أفريقية بالفرنك الفرنسي، ولوحظ استخدام الدرهم بكثافة بديلا من العملات السابقة. وذكر تقرير لـ"سي. إن. بي. سي." الأميركية أن العديد من الدول الأفريقية، أصبحت تبدي اهتماما متزايدا باستخدام الدرهم المغربي، سواء كعملة بديلة أو تكميلية، في معاملاتها التجارية والمالية، بسبب علاقاتها الاقتصادية الوثيقة بشكل متزايد مع المغرب، مدعومة بشبكة واسعة من المصارف المغربية في أكثر من 30 بلدا منها مصر وتونس والسنغال وساحل العاج.

في أقل من عشرين عاما، أُعيد تشكيل المشهد المصرفي في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. فالمجموعات الأوروبية الكبرى، التي لطالما هيمنت على السوق، تتخلى تدريجيا عن مواقعها. في الوقت نفسه، تتولى دول صاعدة، لا سيما المغرب، العمليات المصرفية

وتنفذ مجموعات كبرى مثل "المكتب الشريف للفوسفات" مشاريع ضخمة في نيجيريا وإثيوبيا وكينيا لإنتاج الأسمدة الزراعية، تتجاوز استثماراتها 9 مليارات دولار.

ويستفاد من بيانات رسمية، زيادة سريعة في حجم التجارة بين المغرب ودول غرب أفريقيا في السنوات الأخيرة، مما ساهم في زيادة تداول الدرهم في الأسواق الإقليمية. ومنذ عام 2017 وبعد عودته إلى الاتحاد الأفريقي (بعد غياب 34 سنة بسبب قضية الصحراء) أطلق المغرب سلسلة من الشراكات والاستثمارات الاقتصادية، في قطاعات مثل الاتصالات، والبنى التحتية، والخدمات المالية والمصرفية، والتأمينات، والسياحة، والعقار، والزراعة، والفوسفات، والمعادن، والطاقة، والتكنولوجيا. وخلال العام المنصرم حققت 54 شركة مغربية عاملة في أفريقيا جنوب الصحراء، حجم معاملات سجل نحو 56 مليار دولار، منها 39 شركة تابعة للقطاع الخاص.

مصارف مغربية تستحوذ على مصارف بريطانية وفرنسية

ويرى محللون أن حضور شبكات لثلاثة مصارف مغربية كبرى في 32 دولة أفريقية، يساعد في توسع استعمال الدرهم المغربي محليا، لكن ذلك يتجاوز مجرد التمويل المالي والدعم الاقتصادي، نحو اعتبارات سياسية حول ميزان النفوذ والقوة الديبلوماسية، بعد تراجع الدور التقليدي لفرنسا في المنطقة لصالح قوى جديدة. وتراهن الرباط على علاقاتها الطيبة مع هذه الدول، لتعزيز مشاريع جنوب جنوب دون تدخل خارجي، مما يعرف بالاعتماد على "الأخ الأكبر".

.أ.ف.ب
المصرف المغربي "التجاري وفا بنك"، 19 نوفمبر 2007

وينتظر أن تكشف الدول الأفريقية عن خياراتها البديلة، لتعزيز سيادتها النقدية والمالية، أمام تلاشي الهيمنة الأوروبية، بما يمكن الدرهم من أرضية مواتية للتوسع، خاصة أنه مصحوب بحوافز جيوسياسية لريادة المغرب في تلك المناطق. لكن هذه الديناميكية لا تخلو من تحديات، في مقدمها الاستقرار السياسي والاقتصادي في الدول المعنية، وأيضا قدرة الاقتصاد المغربي والاحتياطي النقدي والبنك المركزي، على تحمل حماية سعر صرف عملة الدرهم والعملات المحلية الأخرى، في حال نشوب أزمات مالية ونقدية غير متوقعة. ومع ذلك تشير الدلائل المبكرة إلى أن مستقبل الدرهم خارج حدود المغرب آخذ في الظهور بثقة.

وكتبت صحف اقتصادية فرنسية "في أقل من عشرين عاما، أُعيد تشكيل المشهد المصرفي في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. فالمجموعات الأوروبية الكبرى، التي لطالما هيمنت على السوق، تتخلى تدريجيا عن مواقعها. في الوقت نفسه، تتولى دول صاعدة، لا سيما المغرب، زمام الأمور، مؤكدة طموحها في سوق سريعة التغير، بسيطرتها على مصارف كبيرة تقليدية، مثل 'باركليز'، و'ستاندرد تشارترد'، و'سوسيتيه جنرال'،  و'بي. إن. بي. باريبا'، التي ظلت منتشرة هناك طيلة 90 سنة قبل أن تبيع حصصها لمصارف مغربية".

font change