"الغازات النبيلة" بعد المعادن... لاعب صامت في دائرة الصراع

من صناعة الرقائق إلى الطب والبحث العلمي والفضاء... سباق لاستدامة سلاسل الإمداد

المجلة
المجلة

"الغازات النبيلة" بعد المعادن... لاعب صامت في دائرة الصراع

في عالم يندفع نحو التكنولوجيا المتقدمة، تدور معركة صامتة للسيطرة على الموارد الاستراتيجية: المعادن النادرة والغازات النبيلة. هذه العناصر، التي قد تبدو غامضة للوهلة الأولى، تشكل الوقود الخفي للثورة التكنولوجية الجديدة، وتتحول اليوم إلى محور تنافس جيوسياسي محتدم.

تعرف "الغازات النبيلة" أيضا باسم "الغازات الخاملة" أو "الغازات النادرة"، وهي عناصر غامضة تتحدى التفاعل الكيميائي. ومع تصاعد المنافسة على المعادن النادرة لدورها الحيوي في الإلكترونيات والصناعات المتقدمة، يبدو أن الغازات النبيلة قد تشهد صراعا مماثلا، نظرا الى أهميتها في الصناعات التكنولوجية الحديثة والطب، وكونها ركيزة أساسية في الصناعات والعلوم.

في عام 2023، فرضت الصين قيودا على تصدير الغازات النبيلة في إطار الحرب التجارية مع الولايات المتحدة. وقبل ذلك، في يونيو/حزيران 2022، حدت روسيا من صادراتها من هذه الغازات حتى نهاية العام، ردا على العقوبات الغربية المفروضة عليها بسبب الحرب في أوكرانيا. ومع استمرار التوترات الجيوسياسية والعقوبات المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة، وبين روسيا والدول الغربية، يعني أن هذه القيود قد تستمر أو تتصاعد من خلال إجراءات جديدة غير معلنة، مما يهدد بإشعال صراع اقتصادي وتجاري محتدم.

فلماذا تعتبر هذه الغازات كنزا، وما الذي يجعلها محور صراع؟

ما هي الغازات النبيلة؟

يعود أصل مصطلح "الغاز النبيل" (Noble Gas) إلى ترجمة الكلمة الألمانية (Edelgass)، وأطلق عليها هذا الاسم العالم هوغو إيردمان عام 1898. وتعكس صفة "النبل" طبيعة هذه الغازات غير المتفاعلة أو القليلة التفاعل، في تشبيه للمعادن النفيسة مثل الذهب والبلاتين التي تقاوم التفاعل الكيميائي.

يعود أصل مصطلح "الغاز النبيل" (Noble Gas) إلى ترجمة الكلمة الألمانية (Edelgass)، وتعكس صفة "النبل" طبيعة هذه الغازات غير المتفاعلة أو القليلة التفاعل، في تشبيه لمعادن نفيسة مثل الذهب والبلاتين 

الغازات النبيلة هي مجموعة من العناصر الكيميائية في المجموعة 18 من الجدول الدوري، وهي 6 غازات وفقا لبعض العلماء و7 وفقا لآخرين، حيث يجمع العلماء على أنها تشمل الهيليوم (He)، النيون (Ne)، الأرجون (Ar)، الكريبتون (Kr)، الزينون (Xe)، والرادون (Rn). ويضم البعض الأوغانيسون (Og) إليها، ويرفض آخرون، بسبب وجود بعض الصفات الكيميائية المختلفة فيه، ولأنه غاز مصنع في المعامل وليس طبيعيا.

تتميز الغازات النبيلة بخصائص فريدة، فهي عديمة اللون والرائحة، غير قابلة للاشتعال، ولا تتفاعل بسهولة مع العناصر الأخرى. كما أنها أحادية الذرة، موجودة في شكل ذرات منفردة بدلا من جزيئات مرتبطة، وتتمتع بدرجات غليان وانصهار منخفضة جدا، مما يجعلها تتبخر وتتجمد عند درجات حرارة شديدة الانخفاض.

رويترز
نموذج ثلاثي الأبعاد لمادة فوليرين التي يستخرج منها الغاز النبيل

وتستخرج معظم الغازات النبيلة من الغلاف الجوي عبر عمليات الإسالة والتقطير التجزيئي، التي تفصل الغازات وفقا لدرجات غليانها المختلفة. إلا أن بعض هذه الغازات يتطلب مصادر أخرى: فالهيليوم يستخلص من الغاز الطبيعي، والرادون ينبعث من التحلل الإشعاعي للراديوم والثوريوم، بينما يستخرج النيون من مشتقات صناعة الفولاذ.

استخدامات متنوعة من الطب إلى الفضاء

تُستخدم الغازات النبيلة في مجموعة واسعة من التطبيقات والصناعات التكنولوجية والطب والبحث العلمي والطاقة والفضاء، وذلك بفضل خمولها الكيميائي وخصائصها الفيزيائية الفريدة. ومنها:

- الهيليوم السائل: يستخدم لتبريد الأجهزة والمعدات التي تتطلب درجات حرارة منخفضة للغاية مثل أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI) والموصلات الفائقة في تجارب الاندماج النووي. ويستخدم في مزيج مع الأوكسيجين (هيليوكس) لعلاج بعض اضطرابات الجهاز التنفسي مثل الربو وانسداد الرئة.

- النيون: يستخدم في أنواع مختلفة من مصابيح الإضاءة، وبعض أنواع الليزر نظرا لتوهجه. ويستخدم النيون السائل كمبرد في بعض أنظمة التبريد ذات درجات الحرارة المنخفضة جدا.

- الأرجون: يستخدم في المصابيح المتوهجة والفلورية، وفي التحليل الطيفي، وتعبئة الأغذية للحفاظ على جودتها. كما يستخدم في لحام الفولاذ المقاوم للصدأ. ويستخدم الأرجون السائل في الجراحة (مثل الاستئصال بالتبريد) لتدمير الخلايا غير المرغوب فيها كالخلايا السرطانية واتلاف الأورام، وفي جراحة الليزر لربط الأوعية الدموية.

الهيليوم نادر نسبيا على الأرض ويستخرج كمنتج ثانوي من الغاز الطبيعي. تسيطر الولايات المتحدة وقطر على نحو 80 في المئة من الإنتاج العالمي

-الكريبتون: يُستخدم في مصابيح الفلورسنت، وفي بعض أنواع محركات الصواريخ. كما يستخدم في بعض الأجهزة الحساسة مثل عداد "غايغر" للكشف عن الإشعاع والعداد الوميضي وأجهزة قياس إلكترونية أخرى.

- الزينون: يستخدم في التخدير الطبي، وفي المصابيح ذات الإضاءة البيضاء القوية، وأشعة الليزر الطبية. وأظهرت أبحاث حديثة عام 2023 أن الزينون يمكن أن يستغل لعلاج اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD)، عبر تثبيط مستقبلات الغلوتامات وقنوات الأيونات المرتبطة بها في الدماغ (NMDA)، مما أدى إلى ارتفاع الطلب عليه في القطاع الطبي

- الرادون: يستخدم بكميات محدودة جدا في العلاج الإشعاعي للسرطان بسبب أخطاره الاشعاعية.

الصراع على الغازات النبيلة

تعد الغازات النبيلة عناصر حيوية في الصناعات المتقدمة والتطبيقات الطبية والعلمية، وأصبحت محور صراعات اقتصادية وجيوسياسية بسبب ندرتها وامداداتها المحدودة، وتوزيعها غير المتكافئ، والطلب المتزايد عليها.

Shutterstock
الغاز النبيل حقل جديد يدخل في المنافسة بين القوى العالمية

فمنذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، تأثرت إمدادات النيون بشكل كبير، حيث تُنتج أوكرانيا نحو 50 في المئة من النيون العالي النقاء المستخدم في صناعة الرقائق الإلكترونية. مدن مثل ماريوبول وأوديسا، التي كانت مراكز إنتاج رئيسة، تعرضت للدمار، مما أدى إلى توقف الإنتاج في مصانع مثل "إنغاس" و"كراوين". تسبب هذا النقص في ارتفاع أسعار النيون بنسبة تصل إلى 400 في المئة في بعض الأسواق خلال 2022-2023. وحتى يوليو/تموز 2025، لا تزال إمدادات النيون من أوكرانيا تواجه تحديات بسبب استمرار الصراع، مما يدفع الدول للبحث عن بدائل.

ويعتبر النيون واحدا من مشتقات صناعة الفولاذ، إذ يتم إنتاجه من خلال الانبعاثات الناتجة من هذه الصناعة، ومن ثم التقاطه بواسطة تقنيات خاصة. وهو ضروري لأشعة الليزر المستخدمة في الطباعة الضوئية (Photolithography) لتصنيع الرقائق الإلكترونية، وما يرتبط بها من صناعات الهواتف الذكية، والحواسيب، والسيارات الكهربائية، والأجهزة المنزلية.

وواجهت الشركات العالمية مثل "تي. إس. إم. سي." و"سامسونغ" تحديات في تأمين الإمدادات، مما أدى إلى تأخر الإنتاج. وباشرت دول مثل الولايات المتحدة والصين البحث عن مصادر بديلة، بما في ذلك تطوير تقنيات إعادة تدوير النيون.

توترات في السوق العالمي

الهيليوم نادر نسبيا على الأرض ويستخرج كمنتج ثانوي من الغاز الطبيعي. تسيطر الولايات المتحدة وقطر على نحو 80 في المئة من الإنتاج العالمي. وفي عام 2023، أدت صيانة منشآت الإنتاج في قطر وانخفاض إنتاج الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة إلى نقص عالمي في الهيليوم، مما رفع الأسعار بنسبة 20-30 في المئة مقارنة بـ2022.

مع استمرار التوترات الجيوسياسية، قد تتحول الدول إلى تحالفات إقليمية لتأمين الإمدادات، أو قد نشهد تطورا في تقنيات التصنيع التي تقلل الاعتماد على الغازات النبيلة.

والهيليوم حيوي لتبريد المغناطيسات الفائقة التوصيل في أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI)، وفي صناعات الفضاء والأبحاث العلمية.

من جهة أخرى، تعد الصين من أكبر منتجي الزينون والكريبتون، حيث تستحوذ على نحو 30 في المئة من الإنتاج العالمي لهذه الغازات.

يُستخدم الزينون في التخدير الطبي، ومحركات الأيونات للأقمار الصناعية، ومصابيح الإضاءة العالية الكفاءة، بينما يستخدم الكريبتون في عزل النوافذ وإضاءة المطارات. وتسببت القيود الصينية على التصدير في ارتفاع أسعار هذه العناصر ودفعت الدول الغربية إلى البحث عن مصادر بديلة في جنوب أفريقيا وروسيا. وبدأت شركات أوروبية في استكشاف تقنيات فصل الغازات من الهواء بكفاءة أعلى، وفي أبريل/نيسان 2023، أعلنت شركة "لينده" شراكة مع "إكسون موبيل" لتطوير تقنيات جديدة لإنتاج هذه الغازات مع تقليل الانبعاثات.

ألحق ارتفاع أسعار الغازات النبيلة نتيجة الصراعات العالمية أضرارا بالصناعات المتقدمة، مؤثرا على أسعار الهواتف الذكية وتأخير إنتاج السيارات الكهربائية. دفع ذلك الشركات إلى تطوير تقنيات لإعادة التدوير، خصوصا للهيليوم والنيون. على سبيل المثل، طورت شركات يابانية أنظمة لاستعادة النيون من عمليات تصنيع الرقائق الإلكترونية. وعلى الرغم من التقدم في هذه التقنيات، لا تزال التكاليف العالية والحاجة إلى بنية تحتية متقدمة، تشكل عقبات أمام اعتمادها على نطاق واسع.

Shutterstock

في مجال البحث عن مصادر بديلة، في عام 2024، أعلنت كندا وأوستراليا خططا لتطوير مناجم غاز طبيعي غنية بالهيليوم، بهدف تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة وقطر. كذلك بدأت دول في الشرق الأوسط، مثل السعودية، باستكشاف إنتاج الكريبتون والزينون من الهواء.

تحالفات للإمدادات وتوقعات

مع استمرار التوترات الجيوسياسية، قد تتحول الدول إلى تحالفات إقليمية لتأمين الإمدادات، أو قد نشهد تطورا في تقنيات التصنيع التي تقلل الاعتماد على الغازات النبيلة. ومع تزايد الوعي بالبيئة، هناك ضغط على الشركات لتطوير تقنيات استخراج وإنتاج أكثر استدامة، مما قد يخفف الصراعات على المدى الطويل.

تشير التوقعات إلى أن سوق الغازات النبيلة العالمي ستنمو من 45,37 مليار دولار في 2024 إلى 62,56 مليار دولار في حلول 2032، بمعدل نمو سنوي مركب 4,1 في المئة. وبحسب تقرير صادر عن "غلوبال إندستري أناليست" (Global Industry Analysts) فإن السوق قدرت بـ3,1 مليارات دولار في عام 2024.

يعود هذا التفاوت الكبير إلى أن بعض التقارير قد تقصر "السوق" على غازات نبيلة محددة أو استخدامات صناعية معينة، بينما تشمل تقارير أخرى نطاقا أوسع من الاستخدامات وربما نوعيات من الغازات أو منتجات مشتقة، لذا من الصعب الاتفاق على "قيمة موحدة" معتمدة عالميا.

font change