في المكسيك... بلاد الضخامة والكثافة حيث أنت لا أحد وسط الزحام

على هامش "معرض غوادالاخارا الدولي للكتاب"

AFP / Rodrigo Oropeza
AFP / Rodrigo Oropeza
لقطة جوية لقبة متحف قصر الفنون الجميلة في "المكسيك العاصمة"، 22 مايو 2024

في المكسيك... بلاد الضخامة والكثافة حيث أنت لا أحد وسط الزحام

لا أحب التقاط الصور الفوتوغرافية، تحديدا لما هي عليه، أي كونها صورا. بصمات مخاتلة لزمن مضى، قطع لحظة راهنة وضمها إلى الذاكرة. ولا أحبها لسبب آخر، وهو أنني أبدو دائما شخصا آخر فيها. أنظر إلى نفسي في الصورة الأحدث، وأرى غريبا تاما. الأسوأ بالطبع حين أضطر إلى الابتسام، وهو غالبا ما يحدث في الصور التي يلتقطها الآخرون لي. يريدونني أن أبتسم كدليل على السعادة أو على الأقل على السعادة خلال لحظة التقاط الصورة، أو أكثر، على الرغبة في السعادة. أو – الأسوأ من هذا كله – على الكياسة، كياسة تقدير اللحظة.

في المكسيك التي لم أتخيّل أن أزورها يوما، بسبب بعد المسافة وكرهي المزمن للطيران، لم أشعر بالحاجة الماسة لالتقاط الصور الفوتوغرافية، أو لإثبات وجودي في أيّ من الأمكنة التي زرتها، وحيدا أو برفقة آخرين، خلال أسبوعين أمضيتهما هناك بين "المكسيك العاصمة" (أو "المكسيك المدينة" الذي يقابله مسمى "مكسيكو سيتي" بالإنكليزية)، ومدينة "التكيلا" غوادالاخارا.

ولماذا أريد أصلا أن أتذكر المكسيك من خلال صورة فوتوغرافية؟ لن تستطيع تلك الصور التقاط شعوري تجاه صداقة جديدة كونتها مع شاعر مكسيكي مجايل لي يدعى أوسكار دي بابلو، أو شريكته في الحياة باولا أبرامو، أو تجاه شادي روحانا المترجم والأكاديمي الحيفاوي المقيم في المكسيك منذ عشر سنوات وزوجته الفنانة مارسيلا مورا، اللذين أصدرا معا كتيبا صغيرا ضم قصائد مترجمة لشعراء من غزة، صار من الأكثر مبيعا بين الكتب المتعلقة بالحرب الأخيرة.

كذلك لن تستطيع أي صورة التقاط الأوقات الدافئة التي أمضيتها صحبة الكاتب العراقي صموئيل شمعون، صاحب "عراقي في باريس" الصادر أخيرا بترجمة إسبانية في المكسيك عن دار "فوندو دي كولتورا إيكونوميكا"، وشريكته في الحياة والعمل مارغريت أوبانك، ناشري النسختين الإنكليزية والإسبانية من كتابي الأخير، اللتين كانتا مناسبة هذه الرحلة، للمشاركة في "معرض غوادالاخارا الدولي للكتاب".

مدينة تبدأ ولا تنتهي

لحظة دخول الطائرة إلى أجواء "المكسيك العاصمة"، وتحليقها طويلا فوق المدينة قبل أن تحط في مطارها الدولي، كانت هي اللحظة الوحيدة التي شعرت فيها بالامتنان لجلوسي في مقعد النافذة. عدا ذلك، لا بد من نصح كل من يسافر على الدرجة الاقتصادية في رحلات طويلة كهذه بعدم حبس نفسه في هذا المقعد، واختيار المقعد الطرفي أو حتى الأوسط وإلا انتهى به الأمر محشورا في ذلك المكان الضيق، مترددا في الطلب من قاطني المقعدين المجاورين النهوض كلما دعت الحاجة إلى ذلك. لكن المسافرين الأقحاح ليسوا بحاجة على الأرجح إلى نصيحتي هذه.

"في المكسيك العاصمة، أنت مجرد حصاة بين ملايين الحصى، تدفعها مياه النهر باستمرار. هنا تفهم المعنى الحقيقي لأن تكون لا أحد وسط الزحام

من الجو، يمكن أن يكوّن الوافد للمرة الأولى إلى "المكسيك العاصمة" صورة وافية عن حجم هذه المدينة الهائلة التي يقطنها نحو 23 مليون نسمة. سوف يرى حقيقة أخرى لن يتبيّن أثرها إلا لاحقا وهو يجول في أرجاء المدينة: السيارات تشكل جزءا عضويا من مشهد المدينة ومن إيقاع حياتها اليومية. سوف تظهر من الجو خطوط ضوئية لا متناهية بعد خطوط ضوئية لا متناهية، هي خطوط السيارات التي تخترق المدينة في كل اتجاه كأنها فروع أنهار تجري داخل عروقها. شيء آخر، مناقض تماما، يلوح من الجو، تلك الخطوط – أو الاحرى البقع - الخضراء التي تفصل بين خطوط السيارات الحمراء وكتل المجمعات السكنية. فمكسيكو سيتي، كما ستعلق مارغريت أوبانك بدهشة أكثر من مرة، مليئة بالمساحات الخضراء.

REUTERS/Henry Romero
مشهد لأفق "المكسيك العاصمة" عند الغروب، مع مرور السيارات على جادة ريفورما، التُقط عبر زجاج أحد المباني، 24 مايو 2023

ما لا يظهره المشهد الجوي طبعا، هو البشر. في "المكسيك العاصمة" أنت مجرد حصاة بين ملايين الحصى، تدفعها مياه ذلك النهر باستمرار. إن دفعتك قدماك إلى زيارة أحد الأسواق الشعبية، عن سابق تصميم أو بمحض المصادفة، أو إذا وجدت نفسك حتى في أحد الشوارع السياحية الراقية المليئة بالعلامات التجارية الأميركية والأوروبية، فستفهم المعنى الحقيقي لأن تكون لا أحد وسط الزحام. ولفهم معنى هذا الزحام، الذي تتجاور في رقعته السيارات مع البشر على نحو عجيب، يكفي أن تدرك أن رحلة كيلومتر واحد بالسيارة، قد تستغرقك نصف ساعة، تشعر فيها أن السيارة تتراجع إلى الخلف أكثر مما تتقدم إلى الأمام، في حين أن المسافة نفسها قد تستغرق عشر دقائق سيرا، أو أقل إن كنت تمشي بسرعة أكبر.

هذا التجاور بين البشر والسيارات، ليس تفصيلا في حياة العاصمة المكسيكية، فهو ملمح يقود إيقاع حياة الناس، وسبل لقائهم، وأماكنها ومواعيدها. كل شيء يمكن أن يبدو مضبوطا بحركة السير الخانقة تلك، والتي لا يمكن وصفها إلا بالاعتيادية في الوقت نفسه. لا أحد فعليا يتذمر أو يتأفف، أو يطلق صرخة أو شتيمة، بمن في ذلك سائقو سيارات الأجرة، وغالبيتهم من "أوبر" التي توصف بأنها الخيار الأكثر أمانا للتنقل، ممن يخضعون على الأرجح إلى اختبارات في الصبر وليس في القيادة فحسب.

بالنسبة إلى شخص نشأ وعاش غالبا في مدن صغيرة، فإن مساحة "المكسيك العاصمة"، ليست أمرا عارضا. إنها الأمر الذي سيظل يثير عجبي (وليس بالضرورة استنكاري دائما) طوال أيام الرحلة، ربما حتى أكثر من الأهرامات، أو من متحف فريدا كالو (1907-1954) الشهير أو من متحف زوجها دييغو ريفيرا (1886-1957)، أو غيرهما من المتاحف المدهشة التي تضمها المدينة، والتي يزيد عددها على 150 متحفا. ليس تفصيلا أن أعثر على بعد أمتار قليلة من فندقي المتواضع على أحد تلك المتاحف، وهو "متحف الجداريات الحيّ" (افتتح في 2024) الذي لم أفكر حتى في زيارته، ربما بسبب تلك الألفة الشديدة في كونه قريبا إلى هذا الحد. فالمتاحف أماكن تذهب إليها ولا تتعثر بها بكل اعتيادية، هنا وهناك، مثلما يحدث في "المكسيك العاصمة".

AFP / Claudio Cruz
أشخاص يتجولون في المركز التاريخي للعاصمة المكسيكية، 16 يناير/ كانون الثاني 2022

قررت ذات يوم أن أذهب إلى فعالية ثقافية ينظمها نشطاء من أجل غزة، ويتحدث فيها بعض ممن شاركوا في "أسطول الحرية" دعما لغزة. الرحلة التي استغرقت نحو ساعة بالسيارة ليلا، أي بعد انتهاء هيمنة السيارات على الشوارع، كان لها أيضا أن تعطيني فكرة عن أبعاد هذه المدينة. جزء من هذه الرحلة الليلية، كان المهيمن فيه مشهد فتيات الليل، المصطفات فرادى، وأحيانا في مجموعات، لمسافات ممتدة، على جوانب الطرق، تلوح خلف تلك الفتيات اللواتي تضيء ملابسهن الصارخة بالألوان أماكن وقوفهن، فنادق ونزل صغيرة. لم يكن هناك متسع للسؤال عن اسم هذا الشارع، فهو في أية حال لا يملك القدرة على أن يكون تعريفا للمدينة، بل يبدو إلى حد كبير جزءا اعتياديا من نسيجها، تماما مثل المتاحف والأبنية الأثرية المتناثرة، ومثل بسطات "التاكو" المنتشرة على أرصفتها. وجود يمكن وصفه بالبديهي. لن يحذرك أحد، أو يدعوك، إلى استكشاف هذه الشوارع، إنها تظهر لك بكل بساطة، ثم تختفي، بينما تنتقل من نقطة إلى أخرى. 

السيارات تشكل جزءا عضويا من مشهد المدينة، تظهر من الجو كخيوط ضوئية لا متناهية، تخترق المدينة في كل اتجاه كأنها فروع أنهار تجري داخل عروق المدينة

يحدثني المهندس المعماري المكسيكي خوزيه رامون كالفو Jose Ramon Calvo بإطناب عن الملامح المعمارية للمكسيك العاصمة، في معرض إجابته عن سؤالي حول السبيل إلى فهم عمارة المدينة، لا سيما أنها ورغم كثرة أنماطها التي تدل على الحقب التاريخية المختلفة التي مرت بها، تبدو خفية إلى حد ما، إذ تتداخل الأزمنة القديمة فيها، مع موجة التحديث والتوسع التي فرضها النمو الهائل للمدينة ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين. ورامون كالفو، الخبير بعمارة الإسباني أنطونيو غاودي، يعجب من كوني لا أعرف شيئا عن كبير المعماريين المكسيكيين، وأحد رموز العمارة الحديثة في العالم، لويس براغان Luis Ramiro Barragán Morfín (1902-1988)، ويدعوني إلى زيارة "بيت براغان" الذي صار متحفا ويعدّ من روائع العمارة في المكسيك: "إنه لا يقل أهمية عن خوانا إينيس دي لا كروس Juana Inés de la Cruz"، يقول كالفو ويصدم حين أخبره معتذرا بأنني لا أعرف شعرها، وبأنه على حدّ علمي غير مترجم إلى العربية. يخبرني بأنها توازي ثرفانتس في الأهمية والتأثير، يبدأ بالبحث على "غوغل" عن ترجماتها إلى العربية، ويخيب أمله حين لا يجد شيئا. "لا بد أن أحدهم ترجم شيئا من شعرها على الأقل إلى العربية"، أقول له وأعده بأن أبحث أكثر حين أعود من رحلتي.

لا أحد يدخن في المكسيك

وباء السيارات في "المكسيك العاصمة"، جعلنا نستنتج في لحظة ما أن المدينة ليس فيها شبكات نقل عام. هذه فكرة خاطئة بطبيعة الحال. فشبكة المترو في المدينة هي بين الأضخم في العالم. لكن الغريب أنها تكاد تكون سرّية. لن ترى بوضوح المداخل المؤدية إلى تلك المحطات، كما هو الحال في عواصم العالم الأخرى، لن ترى علامات "مترو" تدل عليها في شوارع المدينة. قد ترى بين حين وآخر فوهة أرضية يمتد منها سلم إلى الأسفل، لكنك لن تعرف أن هذا مدخل المترو بالضرورة. لن ترى محطات المترو بوصفها أبنية أو معالم مهمة كما في لندن أو برلين أو مدريد أو باريس أو موسكو. كل هذا – جنبا إلى جنب زحمة السير الخانقة معظم الوقت - يعطيك الانطباع بأن المدينة بلا شبكة نقل عام، وحتى ما يسمّى "المترو باص"، وهو حافلات طويلة حمراء تسير على خطوط محددة طوال أوقات اليوم، لن تلحظ وجوده وسط هذا الفيض الهائل من السيارات.

REUTERS/Andrew Winning
لافتة عند مدخل أحد مطاعم "المكسيك العاصمة" كُتب عليها "ممنوع التدخين"، فيما يقف نادل في الخلف، 3 أبريل/ نيسان 2008، تزامنا مع دخول قانون حظر التدخين في الأماكن المغلقة حيز التنفيذ.

وجود هذا الكم من السيارات يعني كميات هائلة من الأدخنة السامة التي تملأ هواء المدينة طوال الوقت. المدينة يبدو أنها لا تعبأ بذلك، أو ربما لا تجد سبيلا لمعالجته. لكن المفارقة الحقيقية أن المكسيك عموما تمنع بنجاح لا يقارن بأي بلد آخر زرته، السكائر، سواء العادية أو الإلكترونية. في الفنادق والمقاهي والمطاعم والحدائق، وفي كل الأمكنة العامة، يمنع التدخين بصرامة، تحت طائلة غرامات قاسية على المخالف. هذا المنع الساري منذ 2023، تطويرا لقانون تنظيم التبغ الذي أقرّ  في عموم البلاد في 2008، علمت أنه جاء لمعالجة تبعات فاتورة صحية باهظة كانت تحاول الحكومات المتعاقبة إيجاد حل لها منذ خمسينات القرن الماضي. حجم نجاح هذا المنع، الذي يغيظ قطعا مدخنا مواظبا مثلي، يبدو غير مفهوم أمام حجم الفشل في معالجة انبعاثات المصانع وعوادم السيارات وبسطات الأطعمة السريعة (المشوية أو المقلية غالبا) التي تملأ الأرصفة. يمكن أن تختنق حرفيا خلال المرور بأحد هذه الأرصفة، أو خلال عبور الشوارع المكتظة بالسيارات، لكنك ستكون مطمئنا بأنك لن تصاب بآثار تدخين السكائر.

حجم النجاح في منع التدخين، الذي يغيظ مدخنا مواظبا مثلي، يبدو غير مفهوم أمام حجم الفشل في معالجة انبعاثات المصانع وعوادم السيارات

وفي حين نجحت البلاد أيضا، وكتعبير عن جدية قانون حظر التدخين، في منع كل أشكال الإعلانات عن منتجات التبغ، فإنك تجد السكائر تباع في كل مكان، بالمفرّق (أي بالسيكارة) على الأرصفة، أو في محلات بيع التبغ، أو في محلات البقالة والسوبرماركت. هكذا تمشي المصالح أحيانا جنبا إلى جنب، مصالح شركات التبغ، والمصالح الحكومية. وفي حين لا تشير البيانات الحكومية إلى حصة انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون من معدل الإصابات المرتفع بالسرطان في المكسيك (14% من كل مئة الف سنويا)، فإن ذلك مما يمكن استنتاجه بسهولة أمام حجم تفشي استخدام السيارات في البلاد.

في أية حال، فإن منع التدخين ينجح، ظاهريا على الأقل، في دحض صورة نمطية أخرى عن المكسيك، بوصفها بلاد المخدرات. إذا أخذنا أبسط مظاهر المخدرات، أي حشيشة الكيف، فسيبدو لافتا انك وفي حين يمكن أن تشمّ رائحة الحشيشة في شوارع العديد من العواصم الأوروبية، بما فيها التي تحظرها، فإنك لن ترى ذلك في "المكسيك العاصمة" أو غوادالاخارا، ولن يستوقفك أحد في شوارع هاتين المدينتين المكتظتين لكي يعرض عليك تزويدك أي نوع من أنواع المخدرات، وهو الأمر الذي يعرف السياح مدى سهولة توافره في العديد من العواصم الأوروبية، بل والمتوسطية. بالطبع هذا لا يلغي الحقيقة المعروفة للجميع حول صناعة المخدرات وتهريبها، وحول "كارتيلات" المخدرات الشهيرة في المكسيك، إلا أنها ليست ظاهرة للعيان أو مهيمنة على مفاصل الحياة اليومية، على نحو ما تصوره الأفلام والمسلسلات الأميركية.

أمشي في ميدان "بلازا دي لا كونستيتيوشن" (ميدان الدستور) المعروف اختصارا بـ"ميدان سوكالو" الرئيسي في قلب المدينة التاريخية، حيث جلبة السائرين بالآلاف يمكن أن تصم أذنيك لو قررت التركيز عليها، ناظرا شمالا ويمينا بحثا عن شخص يحمل سيكارة، لكي أطمئن بأنه يمكنني تدخين سيكارتي الإلكترونية، وبالكاد أجد أحدا، فأتريث حتى أجد عجوزا ما يحمل سيكارة، لأعتبره الإذن الخاص لي بالتدخين. إلا أن هناك شعورا ما يصعب تفسيره بالخجل أو العار من التدخين. وفي الوقت نفسه الذي يبدو لافتا حجم التناقض بين حظر تدخين السكائر والفشل في تقليص الأدخنة الأخرى، فإن ذلك لا يعني عدم رفع التحية للسلطات المكسيكية لنجاحها في هذا الاختبار، وهو ما يبدو أثره إيجابيا بالفعل بين المراهقين والشباب، حيث لم يحدث أن صادفت أحدا من صغار السن يحمل سيكارة، "فايب" أو سواها. وما يستدل من هذه التجربة أن الصرامة في تنفيذ الإجراءات الصحية، وإيجاد الآليات لمراقبتها وفرضها، يمكن أن يؤتي أكله في النهاية.

REUTERS/Henry Romero
نباتات البوينسيتيا، المعروفة أيضا باسم "زهرة ليلة الميلاد"، تزيّن جادة ريفورما في "المكسيك العاصمة"، 4 ديسمبر/ كانون الأول 2025.

علامات أميركية

في ساحة أخرى على مقربة من فندقي المتواضع ينتشر باعة الرسائل. إنهم كما تخبرني الشاعرة والمترجمة باولا أبرامو، يوفرون لمن لا يجيد الكتابة خدمة كتابة الرسائل على أنواعها، باستخدام الآلات الكاتبة القديمة: رسائل الحب، التظلمات، الرسائل العائلية... شيء يبدو قديما، كما كنا نرى في بعض الأفلام المصرية القديمة، لكنه موجود هنا بصورة اعتيادية، ككل شيء آخر. أجلس صباح اليوم التالي، يوم أحد، على أحد مقاعد هذه الساحة، يعتريني شعور قاهر بالعودة في الزمن، وكأن تلك الآلات الكاتبة هي آلات انتقال بالزمن، مثلما مشهد شيخ يجلس على مقعد آخر ويشرب بمفرده زجاجة بيرة ضخمة، كأنه خارج من إحدى روايات جاك كرواك التي تجري أحداثها في "المكسيك العاصمة" في خمسينات القرن الماضي.

REUTERS/Raquel Cunha
أشخاص يتناولون وجبة الإفطار في حي روما نورتي في العاصمة المكسيكية، 9 سبتمبر/ أيلول 2022

أن تجد رجلا جالسا بمفرده على مقعد في مدينة مكتظة مثل "المكسيك العاصمة"، يمنحك أيضا صورة مختلفة عن المدينة. كل هذا الاكتظاظ لا يمنع البتة وجود مثل هذه المساحات. أمشي مع الأكاديمي والمترجم الفلسطيني شادي روحانا في حي "كولونيا روما" المعروف اختصارا بحي "روما"، وهو الحي الذي تجري فيه أحداث فيلم ألفونسو كوارون الشهير "روما" (1918)، أحد أحياء المدينة المترفة. يخبرني بأن هذا الحي شهد تقلبات عدة، بين كونه حيا شعبيا بوهيميا، وحيا للطبقة الوسطى، واليوم حيا بورجوازيا، مع غزو المقيمين الأميركيين له. علامة الدولار في المكسيك، التي تتبع عادة سعر كل شيء في البلاد، مشيرة عادة إلى "البيسو" وليس إلى الدولار الأميركي الأخضر، تتحول في مثل هذه المناطق والأحياء، رمزيا على الأقل، إلى ذلك الدولار الأعلى قيمة.

متحف فريدا كالو هو بمعنى من المعاني 'ستاربكس المتاحف'، حيث نرى مجد العلامة التجارية في أعلى تجلياتها، وصناعة 'الأيقونة' التي تصطفّ لها طوابير السياح

يدلني شادي روحانا الى مبنى "أوريسابا 210"، شمال حي روما، الذي عاش فيه بعض كتاب "جيل البيت" مثل كرواك وغينسبرغ وبوروز، خلال حقبة استكشافهم أرض الأحلام والنزوات هذه. لم يبق شيء فعليا من أثر تلك الفترة، بما في ذلك الصورة التي حاول كرواك ترسيخها في روايته القصيرة "تريستيسا" (1960) خصوصا، كما في ديوانه "بلوز مكسيكو سيتي"، التي ربما كانت موجودة بالفعل يوما. المكسيك العاصمة ليست اليوم مدينة شعراء وفنانين وأناس بوهيميين بالضرورة، إنها مدينة للعمل. كل شيء فيها يعمل طوال الوقت. الحياة الأخرى، الحالمة، البوهيمية، لم تعد تقيم هنا، كما لم تعد في أي مكان في العالم. حتى زيارتي لأحد أشهر أندية موسيقى الجاز في المدينة، أكدت لي أن "المزاج" ليس ما يحكم، بل ترتيبات السهر الأنيق و"النظيف" وبالطبع الخالي من دخان السكائر.

مدن اليوم الرئيسة هي مدن تنتظم حول أمرين لا ثالث لهما: العمل والسياحة. أبناء المدينة، أو المهاجرون إليها لكسب رزقهم أو لاتخاذها ممرا إلى بلدان أخرى، كما نجد في بعض بلدان أوروبا، وكما نجد بصورة نموذجية في "المكسيك العاصمة"، مركز أميركا اللاتينية بكل معنى الكلمة، والممر إلى الولايات المتحدة – ومن هنا كل شكوى بلاد العم سام المستمرة من مسألة الهجرة – هؤلاء المقيمون أو المهاجرون يعيشون حياة غير التي يعيشها السائح الذي يتقاسمه حرفيا فضاءات المدينة، وإن كانت لكل منهما – أي للسائح والمقيم – فضاءاته المفردة أيضا، غير المتقاطعة بالضرورة مع فضاء الفئة الأخرى. في مناطق مترفة مثل "روما" أو "ريفورما" (حيث تكثر الفنادق الفاخرة ومقاهي "ستاربكس" وجميع العلامات التجارية الأميركية والعالمية الشهيرة) لن تجد بسطات "التاكو"، التي تنتشر على أرصفة المدينة مثل شرايين موازية لشرايين السيارات في الشوارع والجادات، بل ستجد المطاعم، المكسيكية منها والإكزوتيكية، التي تقدم "التاكو" بين ما تقدمه من مطاعم لاتينية وعالمية.

على الأرصفة المرصوفة بسلاسل الفنادق الكبرى، منها المكسيكية مثل "بارسلو" ومنها العالمية المعروفة – ترى نوعا آخر من البشر. هيئاتهم، ملابسهم، طريقتهم في التنقل أو في احتلال الحيز المكاني، هي عينها التي تجدها في مناطق الميسورين حول العالم، سواء في بيروت أو برشلونة أو سواهما، أناس يمكن وصفهم بأنهم "مرتاحون في ملابسهم"، لا يمكنك أن تتخيل أحدهم يتعرّق، ولا بد من أن هناك خططا للتنقل في المدينة، وأوقاتا وأماكن بعينها، تجنّبهم أن يعلقوا في زحمة السير. هؤلاء يعيشون ويتنقلون في أماكن تخصهم وقد شكلت على مر الوقت وفقا لمتطلباتهم وذائقتهم. سوف ترى في شوارع تلك المناطق، السحنات السياحية، الأميركية والأوروبية البيضاء غالبا، التي تراها في مدن أخرى، وسوف تميّز حتى أبناء المدينة من المترفين، رجال الأعمال أو الموظفين في شركات دولية، الذين يجلسون بنعيم هادئ في المقاهي والمطاعم، أو الذين يتريضون بملابسهم الفاخرة التي يسهل التعرف الى "علاماتها التجارية" في مساحات مريحة وعلى أرصفة نظيفة، كل هدفها – أي تلك المساحات – أن تشعرهم بأنهم في مكانهم الصحيح، إن كانوا سياحا، أنهم لم ينتقلوا من أماكنهم المريحة التي ألفوها، وإن كانوا من أبناء البلاد، أنهم ارتقوا خطوات حقيقية أعلى من روائح الزيت التي تعبق بها أرصفة "التاكو" في أماكن أخرى.

REUTERS/Raquel Cunha
لقطة جوية تُظهر نصب "ملاك الاستقلال"، عمود النصر الواقع في دوّار على جادة باسيّو دي لا ريفورما وسط "المكسيك العاصمة"، 30 مايو/ أيار 2024

متحف اليسار

لا مجال للحديث هنا عن "طبقية"، عن أغنياء وفقراء، وربما عن طبقة وسطى لا تبان ملامحها بسهولة. أحاديث العالم اليوم لم تعد تدور في هذا الفلك. هذه مصطلحات قديمة لم تستبدل فعليا بمصطلحات جديدة. تركت مكانها للا مصطلح واللا تسمية، لما يمكن الشعور به دون تحديد اسم له بالضرورة.

وظيفة المتاحف أن ترينا القيمة في ما مضى، أما متحف تروتسكي فهو قصة حزينة، وعلامة على انزياح الأزمنة لا استمرارها

 لذلك ربما فإن "متحف تروتسكي" هو بالفعل متحف، أثر يزار لكي يرى السائح، أيا تكن خلفيته الاجتماعية أو الأيديولوجية، قطعة من التاريخ الغابر. هنا كان واقفا العميل الإسباني المرسل من قبل ستالين رامو ميركادير (1913-1978) حين هوى بفأس الجليد على رأس تروتسكي. وظيفة المتاحف أن ترينا القيمة في ما مضى. أما متحف تروتسكي فهو قصة حزينة، زيارة لموقع جريمة، وهو في الوقت نفسه علامة على انزياح الأزمنة، لا على استمرارها. الرجل الذي كان جزءا من محاولة تغيير العالم، أحببنا ذلك التغيير أم لم نحبّه، يقبع في ضريح مسيج في حديقة المنزل الذي قتل به، كما يقبع قاتله في صورة فوتوغرافية أو بوصفه شخصية تحب الكلاب في رواية الكوبي ليوناردو بادورا.

أما زيارة متحف فريدا كالو فتنقلنا إلى شيء آخر، إنه بمعنى من المعاني "ستاربكس" المتاحف. هنا نرى مجد العلامة التجارية في أعلى تجلياتها. الفنانة، التي لا ينكر المثقفون المكسيكيون براعتها الفنية، وإن كانوا غير معجبين بالضرورة بالنزعة التجارية المرتبطة بصناعة أيقونتها، هي جزء من صناعة العلامة أو "الأيقونة" التي تصطف طوابير السياح (طابور كل ربع ساعة)، لتجول في بيتها ومرسمها وتلتقط الصور الإثباتية (إثبات الزيارة) هناك. إنها "معلم" سياحي، لكن اللافت أن الاكتظاظ في هذا المعلم، إذا أخذنا المساحة والمحتويات في الحسبان، أكبر بكثير من المعلم الأكبر والأهم "متحف الأنثروبولوجيا" الضخم، أو أهرامات المايا الشهيرة. فـ"كازا فريدا" يزوره نصف مليون سنويا، أي تقريبا سدس زوار "متحف الأنثروبولوجيا"، والفضل في هذا السعار من الحب والإعجاب، كما يخبرني الشاعر أوسكار دي بابلو يعود في الأصل إلى المطربة الأميركية مادونا التي اشترت يوما لوحتين من أعمال فريدا (مما فتح العيون وأدى إلى إنجاز الفيلم الشهير عنها)، واعتبرتها فنانتها المفضلة، فاتحة الباب على مصراعيه لشهرة عالمية متأخرة لهذه الفنانة.

 

REUTERS/Henry Romero
زوار يصطفون لدخول "البيت الأزرق" (متحف فريدا كالو) مع إعادة فتح دور السينما والصالات الرياضية والمتاحف تدريجيا بعد تخفيف إجراءات العزل للحد من انتشار كوفيد-19 في "المكسيك العاصمة"، 6 مارس/ آذار 2021

على أية حال، يتجاوز التأثير الأميركي ظاهرة فريدا كالو بكثير. تجده حاضرا، أو متضمنا على الأقل، في الكثير من النقاشات حول الثقافة والسياسة في المكسيك. يشير أحد المثقفين إلى حقيقة أن رئيسة المكسيك اليسارية كلوديا شينباوم تمشي دائما بحذر في ما يخص مقاربتها للعلاقات مع الولايات المتحدة، لا سيما في زمن دونالد ترمب، وحتى مقاربتها للإبادة في غزة، كانت خجولة، وهي لم تعترف بها على كل حال إلا بعد مرور أشهر طويلة، حين شعرت أن هذا الاعتراف لن يكون مكلفا سياسيا أو ضاغطا على العلاقات الشائكة أساسا مع الولايات المتحدة. يكفي أن نعرف أن المكسيك هي أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة (بحجم تبادل تجاري بلغ 839 مليار دولار في 2024)، حتى نفهم علاقة "الحبّ/ كره" أو الاعتماد/ نفور القائمة بين البلدين.

تجد ملف حرب غزة أكثر حضورا لدى المثقفين والفنانين والصحافيين اليساريين في البلاد، وهو ليس تأثيرا كاسحا كما رأينا في بلدان أخرى، بما في ذلك في أميركا اللاتينية، بقدر ما يبدو خجولا إلى حد كبير، قياسا بحجم البلاد وتأثيرها في القارة. فيشير إليّ أحد النشطاء المكسيكيين الذي يكرس جل جهوده دعمأ لغزة، إن التظاهرات الداعمة في البلاد لم يصل حجمها طوال مدة الحرب إلى ما وصلت إليه في بلد مثل إسبانيا أو بريطانيا، ويرجع ذلك إلى قلة الحضور العربي نسبيا، حيث لا تتجاوز الجاليات العربية في البلاد الواحد في المائة من السكان.

غياب نتاج الشاعرة خوانا إينيس دي لا كروس عن المكتبة العربية، هو مثل صغير على حجم التقصير المتبادل بين مؤسسات النشر العربية والثقافات اللاتينية

في اليوم الثاني لوصولي شهدت تظاهرة كانت جزءا من حراك عالمي في ذلك اليوم دعما لغزة، وهي تظاهرة قد تبدو كبيرة في بعض المدن الصغرى، إلا أنها في مدينة ضخمة مثل "المكسيك العاصمة" لا يمكن وصفها إلا بالمتواضعة. هموم المكسيكيين تبدو في مكان آخر، وهذا ليس مستغربا حين نعرف أن نحو 36 بالمائة من السكان يعيشون تحت خط الفقر، أكثر من 8 بالمئة منهم يعيشون الفقر المدقع، دون أن يلغي ذلك نجاح الحكومات اليسارية الأخيرة في هذا الملف، حيث تمكنت من إخراج نحو ثمانية ملايين نسمة من خط الفقر، وهو ما يمنح هذه الحكومات شرعيتها الفعلية وصدقيتها أمام المحاولات اليمينية الباهتة للوصول إلى الحكم.

AFP / Alfredo Estrella
لقطة جوية تُظهر مؤمنين يخيّمون خارج بازيليك سيدة غوادالوبي في "المكسيك العاصمة"، 11 ديسمبر/ كانون الأول 2025

فيليني مرّ من هنا

في فيلم فيليني "لا دولشي فيتا" (1960) نرى مشهد توافد الناس والصحافيين إلى موقع في أحد ضواحي روما، حيث يزعم أن هناك طفلين رأيا السيدة العذراء. تذكرت هذا المشهد وأنا أرى جموع الحجاج المتوافدين إلى "المكسيك العاصمة" للمشاركة في عيد السيدة العذراء أو "عيد سيدة غوادالوبي" يوم 12 ديسمبر/كتمون الاول. الصديق شادي روحانا يخبرني قصة هذا العيد الملحمي. يقال إنه في هذا التاريخ يوم 12 ديسمبر/كانون الاول 1531 ظهرت السيدة العذراء لفلاح من سكان المكسيك الأصليين (الأزتيك) يدعى خوان دييغو. يرى كثر أن هذه كانت وسيلة أو "حيلة" المستعمر الإسباني لفرض الكاثوليكية على سكان المكسيك الأصليين، وفي حال كانت كذلك فقد نجحت نجاحا ساحقا، فمئات الآلاف (يقال إن عددهم يصل إلى 12 مليونا) يتدفقون إلى العاصمة ابتداء من يوم 11 ديسمبر لكي يشاركوا في القداس الضخم في "بازيليك سيدة غوادالاوبي"، ثاني أهم موقع حاج في العالم الكاثوليكي بعد الفاتيكان.

في الطريق إلى أهرامات تيوتيهواكان الشهيرة، على بعد نحو ساعة بالسيارة من العاصمة، كان لافتا ذلك الخط شبه المتصل من الحجاج، الوافدين إلى المدينة إما في سيارات وحافلات وشاحنات، وإما على متن دراجات هوائية ونارية، وإما سيرا، وكان لا بدّ لي من تذكر مهابة المشهد في "لا دولشي فيتا" وأنا أرى هذا الزحف البشري الهائل وبعض تفاصيله اللافتة، مثل أشخاص يربطون على ظهورهم تماثيل للسيدة العذراء بينما يقودون الدراجات الهوائية تحت شمس المكسيك اللاهبة.

REUTERS/Gustavo Graf
مشهد عام يُظهر نظام عربات التلفريك المعروف باسم «Cablebús» خلال افتتاح أحد مقاطعه في بلدية إيستابالابا في العاصمة، 8 أغسطس/ آب 2021

مشهد آخر على ذلك الطريق الموصل إلى الأهرامات، لا صلة له بزحف الحجاج، يبدو متصلا أيضا بعنصر الضخامة في كل شيء في المكسيك، وهو مشهد خط التلفريك أو "الكابل باص"، الذي يرتفع فوقنا على الطريق ويمتد لأكثر من عشرين كيلومترا مع عشرات عربات النقل التي تنتقل صعودا أو هبوطا، وسوف أعلم لاحقا أن الهدف من هذه الخدمة ليس سياحيا، بقدر ما أن "الكابل باص" هو أحد حلول النقل الرخيصة نسبيا التي لجأت إليها مدينة "المكسيك العاصمة"، لخفض الازدحام في أطراف المدينة المكتظة وتسهيل وصول السكان إلى المناطق الفقيرة هناك.

لا يسع المرء وهو يقف أمام أهرامات 'الشمس' و'القمر' إلا أن يشعر بالتواضع، وهو يرى الامتداد الحضاريّ الهائل لبلاد تعتز بهويتها كإرث مشترك

أما الأهرامات التي هي جزء من مدينة تيوهيويتاكان العظيمة، والتي يعود أقدمها إلى 800 سنة قبل الميلاد، فحكاية أخرى. لا يسع المرء وهو يقف في تلك المساحات الشاسعة التي تتخللها معابد وأماكن لتقديم الأضاحي، يشرف عليها هرما "الشمس" و"القمر" الهائلان، إلا أن يشعر بكثير من التواضع، وهو يرى الامتداد الحضاري الهائل لهذه البلاد. والأمر لا يقف عند حقيقة وجود هذه الآثار الفريدة التي تروي سير حضارات غابرة وتحفظ أثرها، بل يمتد إلى حقيقة اعتزاز أهل تلك البلاد بمثل هذه المواقع واعتبارها جزءا لا يتجزأ من هويتهم الوطنية، تماما كما الحال مع "سيدة غوادالوبي". فهذا لا يتعارض مع ذاك، بل يتحدان ويتعايشان معا في نسيج حضاري واحد. وفي حين يشير العديد من المثقفين المكسيكيين الذين التقيتهم خلال رحلتي هذه، إلى وجود أنواع عدة من التمييز العنصري داخل المجتمع المكسيكي نفسه كما بين هذا المجتمع وجاليات المهاجرين إلى المكسيك من بلدان أخرى مجاورة، وهو ما يصعب على زائر عابر مثلي الإلمام بتفاصيله، إلا أن المؤكد هو أن ثمة إجماعا على الفخر بهذا الإرث العريق المشترك.

AFP / Carl de Souza
مناطيد هوائية تحلق فوق أهرامات تيوتيهواكان في بلدية سان خوان تيوتيهواكان بولاية المكسيك، خلال الاحتفال بالاعتدال الربيعي، 21 مارس/ آذار 2024

هذا الفخر يمكن أن ترى ترجمته بوضوح في "المتحف الوطني للأنثروبولوجيا" في العاصمة، ذلك المعلم الذي بني عام 1964، والذي يضم 23 قاعة تزخر بمحتويات من التراث المادي لا تقدر بثمن. أيضا لا بد من الشعور بالتواضع أمام متحف بهذه الضخامة، يدار بدقة واحترام واحترافية شديدة، فلكأنك حين تدخله وتتنقل بين قاعاته، تدخل حرما مقدسا، لتشعر أن قصة كوكبنا هذا، ليست هي قصتنا نحن فقط، كأعراق أو ديانات أو ثقافات أو سواها، بل هي قصة شديدة التشعب والثراء، تتلاقى مع غيرها من القصص في مشتركات إنسانية، كما تفترق وتتميز بعضها عن بعض بملامح أهل البلاد التي أنجبتها وصانتها للأجيال.

في مهرجان الكتاب

سمعة "معرض غوادالاخارا الدولي للكتاب" بوصفه الأكبر في الأميركيتين، وثاني أكبر معرض بعد "فرانكفورت"، تسبقه. لكن معاينة ذلك أمر مختلف تماما. مشهد عشرات الآلاف، من الأعمار كافة، وخصوصا المراهقين والشباب، الذين يتدفقون إلى المعرض طوال اليوم، يدخل البهجة إلى القلب قطعا، لا سيما نحن نرى هذا الإقبال الاستثنائي على الكتاب المطبوع، بما يعاكس الشائع عن تراجع القراءة والطباعة. في المكسيك على الأقل، هذا الأمر غير صحيح. تدلّ الى ذلك كثرة المكتبات ومعارض الكتب الصغيرة التي تقام هناك وهناك في أرجاء العاصمة مكسيكو سيتي.

AFP / Ulises Ruiz
زوار يتوافدون إلى معرض غوادالاخارا الدولي للكتاب في مدينة غوادالاخارا بولاية خاليسكو في المكسيك، 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025

برشلونة كانت ضيف شرف المعرض، كما حلّ الكاتب الفرنكوفوني أمين معلوف ضيف الدورة الأخيرة المكرم. وبينما أتجه مع مارغريت أوبانك وصموئيل شمعون إلى إحدى القاعات لحضور ندوة تقيمها إحدى الكاتبات العربيات المدعوات إلى المعرض، ضمن شراكة المعرض الثقافية مع "مجلة بانيبال"، التي تقام للعام الثاني على التوالي، وجدنا أنفسنا عالقين في موجة هائلة من الجمهور، غالبيته من النساء، الذي كان يحاول عبثا الوصول إلى القاعة التي يقدم فيها الممثل الأميركي ريتشارد غير ندوته. لن تتسنى لي مشاهدة مثل هذا التدافع الكبير مرة أخرى خلال مشاركتي في المعرض، إلا أن لمحات من حضور "المؤثرين" الذين يتدافع الشباب لالتقاط الصور معهم، تشير إلى أن حمى السوشال ميديا وصلت إلى هذا المعرض الضخم أيضا، رغم أنه ربما لا يكون بحاجة فعلية إليها، كما حال معارض الكتب العربية التي تعاني شح الحضور.

في جميع الندوات التي حضرتها، بما في ذلك ندوتي وندوة صموئيل شمعون التي قرأ فيها مع شادي روحانا مقاطع عربية ومترجمة من "عراقي في باريس" وندوة الكاتبة المغربية لطيفة لبصير التي قرأت فيها مقاطع من كتابها "طيف سبيبة" مع ترجمتها إلى الإسبانية، كان الحضور لافتا. مكسيكيون من مشارب وأعمار عدة يأتون بشغف للتعرف الى الثقافة العربية، يطرحون الأسئلة ويتساءلون – مثلنا – عن الحضور الضعيف للكتاب العربي في المكسيك، بما في ذلك في معرض كتابها الأهم.

يفتقد الكتاب العربي مكانا ولو صغيرا على رفوف المكتبات المكسيكية، في غياب فادح تتحمل مسؤوليته المؤسسات التي تنشغل باللغات المركزية وتغفل عن كنوز الثقافة اللاتينية

لا أجد تفسيرا مقنعا لهذا الغياب الفادح، سوى ربما التقصير، من قبل جهات ومؤسسات النشر العربية كما من قبل الحكومات، التي تتجه دائما، ودون طائل غالبا، إلى اللغات المركزية وفي مقدمها الإنكليزية، وتهمل ثقافات أخرى مؤثرة في العالم، مثل الثقافة المكسيكية، والأميركية اللاتينية عموما.

غياب نتاج الشاعرة خوانا إينيس دي لا كروس عن المكتبة العربية هو مجرد مثل صغير، على حجم الغياب الفادح، وفي المقابل لا يجد الكتاب العربي مكانا ولو صغيرا على رفوف المكتبات المكسيكية، ليتبين أنه تقصير متبادل، لكن المسؤولية الكبرى تقع على المؤسسات ودور النشر العربية، التي لا تزال عاجزة عن تبني لغة السوق العصرية، وبالتالي تتغافل عن ثمار الحضور، بما في ذلك الآفاق التجارية الكبرى، في معارض كتب كبرى مثل معرض غوادالاخارا الدولي.

font change