دول الخليج جاهزة لاحتضان العراق واليمن

تحديات سياسية وأمنية تعيق الشراكات الاقتصادية والاستثمارية وقد تنحسر مع تراجع النفوذ الإيراني

.أ.ف.ب
.أ.ف.ب
مدينة كركوك العراقية من الأعلى، 5 سبتمبر 2023

دول الخليج جاهزة لاحتضان العراق واليمن

بعد "حرب الـ 12 يوما"بين إسرائيل وإيران، تتسارع التغيرات الجيوسياسية في المنطقة على نحو يستدعي تحصين الاقتصاد وخطوط التجارة والنقل، وربما إعادة ترتيب أولويات الأمن والاستثمار في الشرق الأوسط.

وبينما يراقب العالم تداعيات الصراع المفتوح على التعريفات وممرات النفط والطاقة والموانئ الحيوية، تواصل دول الخليج سعيها لتعزيز شراكاتها مع جيرانها، لا سيما العراق واليمن. إلا أن هذين البلدين، اللذين طالما شكّلا عمقا حضاريا واقتصاديا في المنطقة، يواجهان تحديات أمنية وسياسية مزمنة، تفاقمت بفعل التدخل الإيراني ودعم الميليشيات.

فهل تفتح التطورات الأخيرة نافذة لتحولات داخلية تعيد العراق واليمن إلى مسارات الاستقرار والتكامل الخليجي وتمهد الطريق إلى شراكات مستقبلية أكثر عمقا إذا أتيح لها المناخ المناسب؟

اختلاف ثقافي وسياسي

عندما تأسس مجلس التعاون الخليجي في عام 1981 تساءل عدد من مثقفي الفكر القومي العربي عن سبب استبعاد اليمن والعراق من منظومة المجلس على الرغم من مشاطأة العراق للخليج العربي وانتماء اليمن الى الجزيرة العربية. كان أفضل رد على ذلك التساؤل هو ما ورد على لسان عبد الله بشارة، الأمين العام الأول لمجلس التعاون الخليجي.

ظلت أعمال إعادة التصدير من الكويت إلى العراق من أهم الأنشطة حتى بداية الحرب العراقية الإيرانية، وكانت تجارة إعادة التصدير مهمة للاقتصاد العراقي حيث اعتمد على الكويت لتوفير السلع والبضائع المستوردة من مختلف دول العالم

ذكر بشارة أن هناك فرقا في الثقافة السياسية التي تحكم دول الخليج وتقوم على الحوار والتفاعل مع المطالب الشعبية والتوافق بين المجتمع والسلطة الحاكمة والتي اعتمدت منذ عقود وقرون، والثقافة التي تحكمت باليمن والعراق منذ قيام العسكر بالاستيلاء على السلطة ومحاربة كل أنواع المعارضة وانعدام قنوات التلاقي والحوار مع أي من أطراف المجتمع.

في طبيعة الحال، من أسس قيام مجلس التعاون، بالإضافة إلى الأهداف الأمنية والسياسية، توفر عوامل اقتصادية جرى تثميرها من خلال اتفاقات وارتباطات، منها الوحدة الجمركية والسوق الخليجية المشتركة وحرية تنقل الأموال والعمالة وقيام المشاريع المشتركة والعلاقات المستمرة بين مؤسسات الأعمال المختلفة. وهناك أيضا العلاقات بين منظومة مجلس التعاون ودول أخرى شريكة في التجارة أو الاستثمار.

إمكانات كبيرة التعاون

لكن تظل هناك إمكانات كبيرة لصوغ علاقات اقتصادية مفيدة بين دول الخليج وكل من العراق واليمن. تاريخيا، كان للعراق علاقات مفيدة اقتصاديا مع دول الخليج مثل الكويت والبحرين قبل بداية عصر النفط. أنشأ تجار الكويت مكاتب عملهم في البصرة لإدارة تجارتهم مع الهند وشرق أفريقيا وللتواصل مع بلاد الشام وأحيانا مع أوروبا، كما تملكت العائلات التجارية والثرية في الكويت مزارع نخيل جنوب البصرة مكّنتها من تحقيق إيرادات جيدة آنذاك. كانت تلك المزارع مصدر إنتاج التمور التي صدرت إلى الهند. كذلك، كانت عمالة الإنشاءات والنفط في بداية عصر النفط في الكويت من العراق وإيران.

Shutterstock
نمو في الاستثمارات والدعم بين دول مجلس التعاون والعراق واليمن

ظلت أنشطة إعادة التصدير من الكويت إلى العراق من أهم الأنشطة حتى بداية الحرب العراقية الإيرانية، وكانت تجارة إعادة التصدير مهمة للاقتصاد العراقي حيث اعتمد على الكويت لتوفير السلع والبضائع المستوردة من مختلف دول العالم والتي تصل إلى الكويت بحرا، حيث لم تكن لدى العراق البنية التحتية الملائمة، ولم تتوفر لديه بنية مؤسسية للقطاع الخاص الذي يمكن أن يزاول أعماله بعيدا من التعقيدات البيروقراطية بعد أن أصبحت الدولة بمؤسساتها الحكومية مهيمنة على مختلف الأنشطة اثر انقلاب يوليو/تموز 1958.

اليمن: دعم مستمر

ارتبط اليمن بدول الخليج قبل عصر النفط وكان الكثير من تجار الخليج يقيمون في عدن في عهد الاستعمار البريطاني، ويديرون أعمالهم من هناك مع دول شرق أفريقيا والهند والدول الآسيوية الأخرى. اعتاد اليمنيون العمل في دول الخليج ووصلت أعدادهم إلى مستويات عالية. احتضنت السعودية مئات الآلاف منهم عملوا في مختلف القطاعات. يقيم في السعودية حاليا 2,5 مليون يمني وتعتبر الجالية اليمينة أكبر جالية وافدة في البلاد.

لم توفر السعودية جهدا لمعالجة الأوضاع السياسية والأمنية في اليمن ودعمت الحكومة الشرعية، وقدمت لها معونة في أواخر 2024 قدرت بـ500 مليون دولار، كجزء من تمويل إجمالي بـ 12 مليار دولار من البرنامج السعودي لتنمية اليمن وإعماره

تمكن اليمنيون خلال وجودهم الطويل في السعودية من اكتساب التجنيس في السعودية وقد أصبح الكثير منهم مواطنين سعوديين وأسسوا العديد من الأعمال الناجحة، خصوصا في القطاع المصرفي والشركات المالية. كما استمرت السعودية في دعم اليمن ماليا ومهنيا ومولت الكثير من مشاريع البنية التحتية، واستثمر السعوديون أموالا طائلة في مختلف أرجاء اليمن. وعلى الرغم من ممارسات الجماعة الحوثية المعادية للسعودية واستهداف المنشآت النفطية وغيرها، استمرت الحكومة السعودية في بذل الجهود لمعالجة الأوضاع السياسية والأمنية ودعمت الحكومة الشرعية، وقدمت لها معونة في أواخر 2024 قدرت بـ500 مليون دولار، كجزء من تمويل إجمالي بـ12 مليار دولار من البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن.

.أ.ف.ب
استمرار ركود حركة ميناء الحديدة، 28 مايو 2022

ولم تتوان دول الخليج الأخرى عن دعم اليمن منذ ستينات القرن الماضي، إذ قدمت هذه الدول مجتمعة أموالا قدرت بـ28 مليار دولار خلال الفترة ما بين 2009 و2021، وفقا لنايف الحجرف، الأمين العام السابق لمجلس التعاون الخليجي. لكن الدعم المالي، مهما كان كبيرا، لن يكون مفيدا في ظل أوضاع أمنية وسياسية غير مستقرة. ابتلي اليمن بالحرب الأهلية وتسلط الحوثيون على مقاليد الحياة في شمال البلاد، في صنعاء والحديدة، واعتمدوا على دعم إيران الهادف لتوسيع نطاق النفوذ الإقليمي وتعطيل التنمية الاقتصادية في الدول العربية.

يمتلك اليمن إمكانات اقتصادية واعدة يمكن تثميرها عندما تتوفر الأوضاع السياسية والأمنية الملائمة، وتتوفر لديه فرص لتعزيز الإنتاج الزراعي حيث أن هناك محاصيل زراعية نقدية مثل البن الذي يتميز بجودته مقارنة بأنواع البن الأخرى. إلا أن هذه الزراعة انحسرت بسبب غياب الاهتمام ولم تتعزز الجهود لرفع انتاج شجرة البن.

تكامل الممرات الاقتصادية

أصبحت دول الخليج تمثل ثقلا اقتصاديا مهما بين الاقتصادات الرئيسة في العالم، ويقدر الناتج المحلي الإجمالي لدول مجلس التعاون بـ2,2 تريليون دولار في عام 2024. لكن العراق سجل ناتجا محليا إجماليا قدره 277,5 مليار دولار في العام نفسه، أما معدل دخل الفرد فيقدر بـ5,670 دولارا في 2025، في حين يبلغ عدد السكان 45 مليون نسمة. يظل النفط أهم مصدر للدخل ويمثل 90 في المئة من حصيلة النقد الأجنبي في عام 2024. كما أن النفط الخام يمثل أكثر من 92 في المئة من قيمة الصادرات السلعية التي بلغت 127 مليار دولار في عام 2023. وقامت دول مجلس التعاون بإعادة تصدير سلع إلى العراق في عام 2023 بلغت قيمتها 17,6 مليار دولار، لكن هل ستتمكن دول الخليج من تحقيق هذا المستوى من إعادة التصدير بعد أن يتم تشغيل ميناء الفاو الذي شارف الإنجاز؟

الثقافة السياسية الموروثة في العراق لا تزال غير ودية تجاه الكويت. أما اليمن فالأمور أكثر تعقيدا ولا بد من التوصل إلى حلول نهائية للصراع والاتفاق على إنهاء كل الاعتداءات على دول الجوار

هناك مشروع مهم أعلن في عام 2023 يتمثل في خط بحري وخط سكك حديد يصلان الخليج بالحدود التركية ويطمح المسؤولون في العراق ودول المنطقة بأن يصبح هذان الخطين مفيدين في نقل البضائع بين الشرق الأوسط وأوروبا. تبلغ تكلفة المشروع وفقا للحكومة العراقية 17 مليار دولار وبطول 1200 كيلومتر. يشمل هذا المشروع من دول الخليج قطر والإمارات، ويفترض أن يتوسع ليشمل الكويت التي تعمل على إنجاز ميناء جديد هو ميناء "مبارك" المحاذي للعراق.

.أ.ف.ب

كما يجب أن تكون السعودية جزءا من هذا المشروع الطموح أو أن تعمل على تطوير علاقة تكاملية مع مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا.

التبادل التجاري بين العراق والسعودية 1,3 مليار دولار

 أشار محمد حنون، المتحدث باسم وزارة التجارة العراقية الى أن حجم التبادل التجاري بين العراق والسعودية بلغ 1,3 مليار دولار في عام 2024، لكن أهم ما ذكره المسؤول العراقي أن دولة الإمارات صدرت بضائع إلى العراق بقيمة 22 مليار دولار في العام نفسه. لكي يستمر زخم التجارة، لا بد أن ترتفع مستويات المعيشة في البلاد وأن يشعر المواطنون بالاستقرار السياسي والأمني. هناك إمكانات لتعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية مع دول الخليج. بعد سقوط نظام صدام حسين، زاد اهتمام المستثمرين لتوظيف أموال في مشاريع عقارية ومصرفية في العراق، لكن الحماسة فترت بعد تزايد النشاط الإرهابي وتسيد الميليشيات وتراجع دور الدولة. حاليا، لدى عدد من الشركات الخليجية نية لاستئناف أنشطتها الاستثمارية هناك.

بذلت دول الخليج، ولا تزال، الجهد من أجل دعم اليمن والعراق اقتصاديا. قدمت المعونات والقروض الميسرة وعقدت مؤتمرات لتوفير المساعدات والتمويل للعراق بعد سقوط النظام السابق وهزيمة تنظيم "داعش"، كما حظي اليمن بدعم السعودية ودول الخليج منذ زمن طويل، إذ ساهمت في إقامة المدارس والمستشفيات وتشييد الطرق ومحطات توليد الطاقة الكهربائية وغيرها من منشآت المرافق والبنية التحتية. بيد أن هذه الجهود لن تكون ذات أهمية إذا لم تتوفر حياة سياسية مستقرة ولم يستتب الأمن والتعايش المجتمعي في اليمن أو العراق. ولن يكون الاستثمار في المشاريع داخل اليمن والعراق جذابا دون تراجع الأخطار السياسية والأمنية وانتعاش الأوضاع الاقتصادية بفعل العوامل الوطنية في البلدين.

وقد لا يكون الاستثمار مجديا، حتى لو تحسنت الأوضاع السياسية والاقتصادية، حيث أن هناك متطلبات عديدة لتحقيق النتائج الملائمة منه. هناك إرادة سياسية في دول الخليج لدعم العراق واليمن في مختلف المجالات، ولكن الأمر يعتمد على ما سيحدث من تطورات في البلدين خلال الفترة المقبلة. كذلك، لا بد من أخذ المشكلات العالقة بين الطرفين في الاعتبار. هناك قضايا الحدود البحرية بين الكويت والعراق التي لا تزال معلقة على الرغم من القرارات الأممية المعتمدة من مجلس الأمن الدولي. يضاف إلى ذلك أن الثقافة السياسية الموروثة في العراق لا تزال غير ودية تجاه الكويت. أما اليمن فالأمور أكثر تعقيدا ولا بد من التوصل إلى حلول نهائية للصراع والاتفاق على إنهاء كل الاعتداءات على دول الجوار، السعودية والإمارات.

غيتي
صورة جماعية خلال القمة الثالثة والأربعين لمجلس التعاون الخليجي في مركز الملك عبد العزيز الدولي للمؤتمرات في الرياض، في 9 ديسمبر 2022

هل سيؤدي الصراع الدائر بين إسرائيل وإيران وإمكان توقف إيران عن دعم الميليشيات في العراق والحوثيين في اليمن إلى تطور بيئات سياسية أفضل في البلدين؟ ربما، ولكن ذلك لن يكون كافيا لتوفير واقع اقتصادي مناسب لتطوير علاقات اقتصادية مفيدة خلال الزمن القصير. هناك أولوية لأن يصوغ النظام السياسي في كل من اليمن والعراق برامج اقتصادية، ويوفر قوانين وأنظمة تضمن حقوق المستثمرين الأجانب وتحسن مداخيل البلدين من الصادرات وتدعم النشاط الاقتصادي وترتقي بأداء القطاعات الرئيسة، ما قد ينتج تعاونا أفضل مع دول الخليج.

font change

مقالات ذات صلة